“نومُ الغِزلان”- حكاية شعبٍ رابَهُ الدّهرُ // د. رباب سرحان  

  2

مساء الخير للجميع،
بدايةً، اسمحوا لي أن أُعبّر عن فرحتي المُزدوَجَة هذا المساء.
أوّلًا، لأنّني أقفُ هذا الموقف في بلدتي ووسط الأهل والمعارف والأصدقاء والضّيوف الأعزّاء.
وثانيًا، لأنّنا نحتفي اللّيلة بكاتب، لا أُبالغ إنْ قلتُ إنّ اسمَه وشخصَه رافقاني منذ الطّفولة وحتى اليوم. فهو “أبو عليّ” صديق والدي الأثير
هي صداقةٌ بين كاتب وناقد، وهذا الأمر ليس مفهومًا ضمنًا! ولكنّه نعم يُصبح كذلك، حين نتحدّث عن ناقدٍ لا يُحابي ولا يُجامل، وكاتبٍ لا يُعادي ولا يُخاصم.
والآن، أستأذنكم أن أتركَ العمّ العزيز والغالي أبو علي، والصّداقةَ التي تجمع بين العائلتين جانبًا وأتحدّث ضميري عن الكاتب محمّد علي طه وكتابه “نوم الغِزلان“.
نحتفي اللّيلة بالإصدار الأخير للكاتب محمّد علي طه وهو كتاب “نوم الغزلان”. وكان الكاتب قد بدأ مشواره الأدبيّ الإبداعيّ في كتابة القصّة القصيرة في أواخر الخمسينيّات من القرن العشرين. وقد نشر حتى الآن اثنتي عشرة مجموعة قصصيّة كان أوّلها عام 1964 بعنوان “لكي تُشرق الشّمس”، وآخرها عام 2015 بعنوان “مدرّس الواقعيّة السّحريّة”. ويُعتبر محمّد علي طه من مؤسّسي فنّ القصّة القصيرة الفلسطينيّة في الدّاخل وأحد أهمّ أعلامها. كذلك خاض تجربة الفنّ الرّوائيّ في العام 2004 وروايته “سيرة بني بلّوط”. وهو يُطلعنا في مقدّمة كتاب “نوم الغزلان” أنّ هناك رواية ثانية في طريقها إلى النّور. كما أنّه كتب إحدى عشرة قصّة للأطفال وخمس مسرحيّات. هذا إضافة إلى كتابة المقالات المختلفة في مواضيع مُتعدّدة.
هذه كانت لمحة سريعة عن نتاج كاتبنا الأدبيّ وننتقل الآن للحديث عن كتابه الأخير “نوم الغزلان“.
يكشف الكاتب محمّد علي طه في المقدّمة عن الدّافع الذي شدّه لكتابة “نوم الغزلان” عبرلغة جميلة، سلسة، مشحونة بالعواطف والحنين. يقول:
خمسةٌ وسبعون عامًا.
 
أكادُ لا أُصدّق.
أنا في الخامسة والسّبعين من عمري.
ثلاثة أرباع قرن.
وهذا يعني أنّي أحيا وأعيش في فترة الشّيخوخة.
أنا شيخ، هرم، مُسنّ، كبير في السّنّ
وأنا أرفض أن أكون شيخًا هرمًا.
نحنُ نحبّ الحياة ونخاف من عدد السّنين“.
إنّ هذه البداية تكشف عن درجة وعي عالية لدى الكاتب بوجود قارئ أو مستمع. فالكاتب يُقحم القارئ في النّص ويُورّطه به مُحاولًا تعرية الذّات والآخر. فيدخل الكاتب والقارئ في علاقة وثيقة، ويُصبح القارئ مُشاركًا في الأحداث ومنفعلا منها.والكاتب باستعماله للضّمير “نحن” ينجح في جذب القارئ وشدّه إلى النّص، حين يشعر الأخير أنّ الموضوع المُتحدَّث عنه يمسّه أيضًا. فالقارئ الهرم يعيش هذه المرحلة “المبغوضة” من العمر، والقارئ الشّاب يعيش متخوّفًا من بلوغها.
فهل “نوم الغزلان” كان نتيجة إحساس في لحظة من لحظات العمر بوطأة الزّمن وبضرورة تسجيل مرحلة من مراحل الحياة، تأكيدًا للذّات ودفعًا لشبح الموت وتتويجًا لرحلة عمر؟ 
نوم الغِزلان” كلّ ذلك معًا.
ينفي الكاتب محمّد علي طه كَوْن الكتاب سيرة ذاتيّة. علمًا أنّ كلمة “سيرة” تظهر على غلاف الكتاب. ونتساءل إذا رمى الكاتب من وراء ذلك أن يكُفَّ عنه “شرّ” أقلام النّقّاد بتقييمهم لعمله وِفق شروط كتابة الجنس الأدبيّ- السّيرة الذّاتيّة. فقال متملّصًا من المحاسبة: هو فصول على هامش السّيرة! لينبثق السّؤال الثّاني: ولماذا على “هامش” السّيرة؟ وهل نفسّره تواضعًا أم تفاخرًا؟
والحقيقة أنّ كتاب “نوم الغزلان” قد استوفى شروط تحقّق السّيرة الذّاتيّة الذي يبدأ من التّطابق التّام بين الكاتب والسّارد والشّخصيّة الرّئيسيّة، كما حدّدها الفرنسيّ فيليب لوجون في كتابه: السّيرة الذّاتيّة: الميثاق والتّاريخ الأدبيّ. وقد تكون هذه السّيرة قصّة حياة بأكملها أو جزءًا معيّنًا منها، وفي كلّ الأحوال، لا بدّ أن تكون هناك رؤية معياريّة للكاتب يُحدّد ما يجب إهماله وما يجب التّركيز عليه، مع الحفاظ على تماسك البنية النّصّيّة، وهذا ما كان في كتاب “نوم الغزلان“.
لقد اضطرّ الكاتب وهو في السّابعة من عمره مع أفراد عائلته وقريته على مغادرة بيته وبلدته ميعار، ليُصبح لاجئًا في لبنان، ومن ثمّ طريق العودة الصّعبة والخطيرة، ليجد ملجأ في بلدة سخنين ومن ثمّ مستقرًّا في بلدة كابول. ومع شهادة ميلاده، وغيرها من الوثائق والأوراق التي بقيت في البيت، ضاع تاريخ ميلاده، كما ضاع تاريخ ميلاد فدوى طوقان والكثير من الفلسطينيّين. ففي سيرتها “رحلة جبليّة.. رحلة صعبة” تسأل فدوى الطّفلة والدتها عن ذلك التّاريخ، فتُجيبها: “كنتُ يومها أطهي “عكّوب” هذه شهادة ميلادك الوحيدة التي أحملها”. ونشهد تكرّر المشهد، وعلى اختلاف البعد النّفسيّ للحدثين، فشهادة ميلاد محمّد علي طه التي حملتها أمُّه أنّه وُلد في أيّام الحراث الصّيفيّ. هذا الحدث الذي اكتسب دلالة نفسيّة عميقة شكّلت حياة الكاتب الاجتماعيّة والسّياسيّة والثّقافيّة فيما بعد. فيقول الكاتب بألم وغصّة: “لا أعرف برجي ولا أحتفل بميلادي“.
ففي العام 1948- عام النّكبة، احتلّت القوّات اليهوديّة قرية ميعار وطردوا أهلها منها، وخسر الكاتب يومها بيته وألعابه وكتابه الأوّل وأقلام التّلوين، كما خسر أصدقاءه الذين رحلوا إلى لبنان وسوريّا ثمّ تفرّقوا في دول الخليج. باختصار، يقول الكاتب: “خسرت طفولتي في تمّوز 1948“.
قصّة الكاتب هذه هي قصّة الشّعب الفلسطينيّ، وليست قصّة شخصيّة أو أكثر. قصّة شعب بأكمله عانى من الطّرد والتّهجير والتّشريد وتدمير البيوت والبلاد. قصّة شعب بأكمله قاسى الذّلّ والضّياع والحرمان والظّلم. سُلب بيته وأرضه وسُلب حقّ الحياة الكريمة.
أمّا “نوم الغِزلان” هذا العنوان الجميل يُحيلنا إلى كلّ ما هو ايجابيّ. فالغزال في التّداعي الجمعيّ يتّسم بجمال شكله ورشاقة جسمه وسرعة جرية. وحين نربط ما بين الغزال والإنسان، فإنّ ذلك يكون عادة لغرض المدح وإبراز الجمال. ولكن لا تلبث هذه التّداعيات الإيجابيّة أن تتداعى وتتقوّض حين يروي لنا الكاتب قصّة والده في مشهد مؤلم يُثير في نفس المتلقّي التّعاطف مع صاحبها وتُحرّك تيّار وعيه الباطن وخُبيئات وجدانه ليُحدث فيه جيشانًا عاطفيًّا وتعاطفًا نفسيًّا مع كاتبها. فقد صادروا آخر قطعة أرض لوالده أُطلق عليها “وادي الشيخ عليّ” على اسم جدّ أبيه. فنام الوالد حزينًا واستيقظ وقد أصابه الشّلل في وجهه، وبقي طوال حياته ينام بعين مغمضة وأخرى مفتوحة تحرس ما تبقّى. يقول الكاتب:
عاش بعد الحادث خمسة وثلاثين عامًا… ينام وقد أغمض عينًا وأبقى أختها يقظة.
هل هو الحذر أم القلق؟
هل كانت عينه تحرس ما تبقّى لنا؟ تحرس بقاءنا؟ وجودنا، حياتنا؟
 […]
كان أبي ينام يقظًا، نوم الغزلان، نوم ناطور الدّار وحارس الكرم“.
لا شكّ في أنّ الكاتب قد وُفّق في اختيار عُنوان كتابه. فهو يحمل عنصر المفارقة والمفاجأة ويُضفي على النّصّ أبعادًا دلاليّة ورمزيّة من شأنها أن تُحدث أثرًا أعمق في نفس القارئ. فنوم الغزلان هو في الحقيقة نوم الفلسطينيّين الحزانى على نهب أراضيهم والقلقين على حاضرهم ومستقبلهم. ولكنّة في الوقت ذاته نوم منبّه، مُحذّر أنْ لن نسمح بعد الآن سلبنا ما هو حقّ لنا.
نوم الغزلان” تصوير حيّ وصادق لقصّة اللّجوء الفلسطينيّ، بما يُصاحب ذلك من ذلّ ومرارة وجوع. فتقع جميع الأجيال الفلسطينيّة تحت وطأة التّشرّد والضّياع، تُعاني من الغربة وفقدان الهويّة، وتسعى من أجل لقمة العيش بعد أن أصبح الإنسان الفلسطينيّ غريبًا في وطنه.هذا الواقع المرّ الذي يُعبّر عنه الكاتب بقوله:”تغيّر كلّ شيء في حياتنا.. البلدة والحارة والبيت وملعب الطّفولة والأتراب والأثاث والطّعام والشّراب واللّباس”. ومن هنا، قام الخطاب عند الكاتب على الإحساس المؤلم بالمكان. إذ نهض مفهوم المكان على أساس التّناقض بين ما كان، وما هو كائن. بين حلم الوطن وحقيقة التّشريد.
والكاتب محمّد علي طه اهتمّ في “نوم الغزلان” كما في مجموعاته القصصيّة بوصف المكان وأبعاده. فنجده يصف الرّيف الفلسطينيّ بمواقعه وجغرافيّته ونباتاته وطيوره وأشجاره. فقد كان والده يُعلّمه اسم كل نبتة واسم كلّ شجرة واسم كلّ زهرة. فمنذ طفولته، كما يقول، ربط والده علاقته بالمكان بخيط حريريّ منسوج بحروف حبّ المكان وحبّ الحياة. وكيف لا يعتني كاتبنا بالمكان وهو الذي شهد كيف تُنتهك الأمكنة يوميًّا، وكيف يعمل المحتلّ على محو واقتلاع كلّ أثر للمكان الذي كان،بتغيير شكل الأمكنة وصورتها وتبديل أسمائها. ولهذا، يرى محمّد علي طه أنّ اعتناءه بالمكان وتفاصيله، إنّما هو حفظ للهويّة العربيّة الفلسطينيّة رغم كلّ محاولات الاقتلاع والتّشريد: “كان عليّ أن أحميَ عروبة المكان وفلسطينيّته” يقول الكاتب ويُتابع:”هذا الجدول اسمه نهر المقطّع وليس الكيشون، وهذا اسمه نهر العوجا وليس اليركون، وهذه جبال الرّوحة وليس رمات منشّة، وهذا الجرمق وليس ميرون وهذه الجاعونة وليست روش بينه وهذه الخالصة وليست كريات شمونة وهذه البروة وليست أحيهود وهذه ميعار وليست ياعد“.
وإذا كانت السّلطات قد هدمت ميعار البلدة ومحتها عن خارطة الوطن، لن تستطيع أن تمحو ميعار البلد والأهل والنّاس والحبّ من ذاكرة أهل ميعار. فالمكان: ميعار والبيت والحارة حاضرٌ بقوّة وكثافة في ذاكرة الكاتب وفي قلبه ووجدانه. بل في ذاكرة وقلب ووجدان أهل ميعار جميعهم.
أمّا بالنّسبة للزّمن،فقد انطلق الكاتب في تعامله معه من خصوصيّة الواقع الفلسطينيّ الحافل بالأحداث السّياسيّة، بالثّورات وبالانتصارات، وبالانتكاسات والتّطوّرات والتّحوّلات. فنجد أنّه حرص على تحديد الزّمن الخارجيّ للحدث، واستخدم في تحديده المقاييس الموضوعيّة المعروفة كالسّنة والشّهر واليوم والصّباح والمساء.
وتجدر الإشارة إلى أنّ الكاتب لم يلتزم في فصول كتابه بالتّسلسل الزّمنيّ. حتى أنّنا نشهد أحيانًا اختلاط الأزمنة وتداخلها في الفصل الواحد، كما في فصل “النّاطور”، على سبيل المثال لا الحصر،، الذي ينتقل فيه الكاتب من كونه طالبًا في الصّفّ السّابع الإبتدائيّ إلى كونه مُدرّسًا في المدينة وفي الصّفحة ذاتها.
إلاّ أنّ هذا الخلط الزّمنيّ وعدم تراتبيّة الأحداث لا يُنقص برأينا كون كتابه سيرة ذاتيّة. فالسّيرة الذّاتيّة لا تعني بالضّرورة أن يقوم شخص بكتابة حياته بتسلسل زمنيّ تراتبيّ، بقدر قيامه بكتابة ذاته. فالذّات في الأصل متشرذمة ومُفكّكة. كما أنّ هذا الخلط الزّمنيّ لا يُغضب القارئ ولا يزعجه. فالكاتب ينجح بربط الحدث بالحدث وشدّ الشّخصيّة إلى الشّخصيّة بتوظيف الضّمير الأوّل الذي يشحن السّرد بالبعد الذّاتيّ الذي من شأنه أن يجعل القارئ مشدودًا إليه ومتعاطفًا معه ومقتنعًا به. وكلّ ذلك بتوظيف لغة جميلة، بسيطة، منسابة، بعيدة عن الحذلقات اللّغويّة بل ملتصقة بالواقع الفلسطينيّ. أليس هو الكاتب الذي يكتب للنّاس الذين يُحبّهم؟ لغته مُشبعة بالتّراث الفلسطينيّ من حيث المفردات والتّراكيب واستخدام الأمثال والأقوال المألوفة وتسجيل العادات والسّلوكيّات الاجتماعيّة. أمّا السّخرية التي يوظّفها الكاتب في نصّه، سواء كان ذلك على مستوى المفردات أو التّعابير أو الأحداث أو المواقف، فهي من مُنطلق شرّ البليّة ما يُضحك. فالضّحك، كما جاء على لسان بطل قصّته “ويكون في الزّمن الآتي”: “ضروريّ لنا، فهو فيتامين لمواصلة الحياة. وقد يضحك الإنسان في أوج مأساته. فكيف إذا كانت حياتنا مأساة أبديّة؟“.
عبر صفحات الكتاب نطّلع على قراءات الكاتب الغزيرة واطّلاعه الواسع على مختلف المجالات الأدبيّة والعلميّة والتّاريخيّة، سفراته وجولاته الكثيرة، علاقاته مع شخصيّات أدبيّة وسياسيّة بارزة، مبادراته السّياسيّة ومشاركاته في المظاهرات والمؤتمرات والنّدوات الثّقافيّة، وحصوله على الجوائز العديدة القيّمة.ولكن تظلّ جائزة واحدة لها في القلب ما لها. اسمعوا قصّة هذه الجائزة: حين دخل مرّة إلى حانوت لبيع الورود. وأنا أقتبس: “حيّيت صاحب الحانوت وطلبت منه أن يُنسّق لي باقة ورد جميلة. فنظر إليّ وقال: سأُنسّق لك باقتين.
قلت: شكرًا، أنا أريد واحدة فقط.
قال بحزم: قلت باقتين يعني باقتين.
ووقفت في حيرة. لماذا يصرّ الرجل على ذلك؟ ولماذا عليّ أن أدفع ثمن باقتين؟
– 
يا أخي أنا أريد باقة واحدة فقط.
– 
باقتين اثنتين.
وأخرجتُ محفظتي وأنا أقول في سرّي: أمري لله، سأدفع ثمن باقتين.
– 
لا. لا. لن آخذ ثمنها. قلت مندهشًا: ماذا تقول؟ سألني: ألست محمّد علي طه؟ أجبت: نعم. قال: عندما أقرأ لك مقالًا أو قصّة، حينما أسمعك في الإذاعة أو أراك في التّلفاز أرتاح كثيرًا. وهذه الباقة من الورود هديّة منّي إليك“.
يقول الكاتب:”منحني جائزة بدون لجنة تحكيم وبدون توصية من أحد وبدون علاقات عامّة.
ما أعظمها من جائزة.
ما أجملها من جائزة.
هل هناك جائزة أفضل منها؟
هذا هو محمّد علي طه الكاتب الملتزم والصّادق في عرض هموم شعبه، كما يتجلّى ذلك في مُجمل أعماله الأدبيّة من قصّة ورواية ومسرحيّة ومقالة.
ولا شكّ أنّ كتابه هذا في السيرة الذّاتيّة قد انبثق من خضمّ تجربة الإبداع القصصيّ خاصّة. فلا يمكن أن نغفل عن الصّلة المتبادلة بين سيرة الكاتب الذّاتيّة وأعماله الإبداعيّة. إذ استعان الكاتب في سيرته بالأسلوب القصصيّ الذي يقوم على جمال العرض وبثّ الحياة والحركة في تصوير الوقائع والشّخصيّات، وخاصّة في الفصول الأولى من الكتاب. في حين اقتربت الفصول الأخيرة من الكتابة التّسجيليّة التّوثيقيّة، بعيدًا عن السّرد التّخييليّ المشوّق. بحيث نجد أنّ بعض هذه الفصول لا يتّخذ قصّة حياة شخصيّة، بقدر ما يبدو في شكل مباحث تتعلّق بمواضيع مختلفة تتّصل بحياة الكاتب وتجاربه في الحياة. ممّا أعاق، في رأينا، كون النّصّ حركيًّا دافقًا دراميًّا.
نجح الكاتب محمّد علي طه في “نوم الغزلان” أن ينقل إلينا محتوى وافيًا كاملًا من تاريخه الشّخصيّ. هذا التّاريخ الحافل بالتّجارب والخبرات المتنوّعة الخصبة. هو تاريخ شعب رابه الدّهر. وكيف لا.. أوليس الدّهر ضرّارًا؟
محمّد علي طه كاتب ملتزم بقضايا وطنه وشعبه الفلسطيني، وهذا الالتزام لم يأت من فراغ. فالكتابة كما يقول: “ليست ترفًا وأنا لا أعرف أكذوبة الفنّ للفنّ. فقد سرق الغزاة طفولتي وسلبوني كتابي الأوّل وطابتي الملوّنة الأولى وأقلامي الملوّنة، وفرّقوا أترابي وتركوني عاريًا حافيًا، فراشي التّراب ولحافي السّماء“.
على امتداد الكتاب تُطالعنا شخصيّة الكاتب الفذّة القويّة، المتمسّكة بالأمل والرّافضة لليأس. فالخيبات التي عاشها خلال سنين عمره لم تسلبْه تفاؤلَه ولم تُفقدْه الأمل. بل ما زال يستطيع أن يرى بين ثناياها آمالًا تتجدّد وحبًّا وشوقًا ونبضًا واستمرارًا لحياة لا تتوقّف. فالعالم، كما يقول، “ليس أسود، والحياة ليست غبراء. ما زال هناك صباح جميل وأزهار بيضاء وحمراء، وعصافير تغرّد في الحديقة، وعبير البرتقال وشذى الزّعتر، وابتسامة الحفيد الصّغير، ورائحة الخبز البلديّ المتضوّعة من الفرن
وما زال هناك مناضلون وثوريّون في الميادين، وفلاحون يزرعون الأرض ويغرسون فسائل الزّيتون والبرتقال. وما زال هناك مطر وندى، وما زلنا نحبّ الحياة إن استطعنا إليها سبيلًا، بل نستطيع إليها سبيلًا“.

 
(
نصّ الكلمة التي أُلقيت في أمسية إشهار وتوقيع كتاب “نوم الغزلان” للكاتب محمّد علي طه في قرية الرّامة، والتي نظّمها مركز حنّا مويس الثّقافي والمجلس الملّي الأرثوذكسي بتاريخ 24.11.2017).

 (الرامة)

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .