منكوش، شاقوف وَمُخْل..// نمر نمر ـ حرفيش

فلاّحان يتجاملان معًا كل واحد في قاطوع/معناة،الوفق،الرّفق والرّزق. الصّورة بلطف: د، شكري عرّاف/معليا، الأرض، الإنسان، الجهد.

 

رمّي.. ترّح

قال الجدّ حين نُنَيِّرُ الفدّان، ونصل العود بالنّير، نخاطبه: رَمّيْ رَمّي! فهو يلتزم التّرماي، أي حافّة قطعة الأرض، وحين نقول له: طَوِّق إزاء زيتونة أو تينة، أو أيّة شجرة، فالفدّان يَلِفّ ويدور حولها لِيُحَكِّرَها تمامًا، وحين نقول له: تَرِّحْ، يعني أنّه عليه أن يُغيّر اتّجاهه في الحرث، وكنّا نُدَلّع الأبقار بين الفترة والأخرى بإعطاء كلّ منها كبشة تين يابس/قُطّين كي تتحلّى، وحين نتأخر عن ذلك يواجهوننا بنظرات عتاب واستغراب، فنتذكّر واجبنا نحوهم

 

ليس من عادته أن يترك خبرًا لِأسرته، إلى أين هو ذاهب، ومن أين أتى! سارح والرّبّ راعيه،جيوبه خاوية، لا أحد يطمع بما يحمله اللّهم سوى بعض الحكايات المُعتّقة والذّكريات المُؤرشفة في حاصِله المُنتصِب فوق جثّته، والحاصل في مفهومنا القروي هو المخزن،سيّان أكان مستودعًا تجاريًّا، أم بيت مُونِة، كما تقول الجدّات  المُكتنزات بما لَذَّ وطاب من أرشيفاتهنّ خزائنهنّ، سباتِهِنّ،زنانيرهن، أعبابهنّ وعصبات رؤوسهنّ، وقد تحوي بعضها تحويشة العمر من الشّقاء وتعب البال، والنّساء لهنّ ذاكرات غريبة عجيبة، ينسَيْنَ ما يليق بهنّ، وبالأحرى يتناسَين أشياء ويحتفظن بأشياء أخرى أجدى وأهَمّ وأنفع بالنّسبة لَهُنّ، متى فلانة خِلْقِتْ، انْخَطبتْ، تزوّجتْ، متى أنجبتْ أولادها وأعمارهم وأسماءهم ، ذاكرات انتقائيّة كما يروق لهنّ ويغيظ أبناء آدم، طُقّوا وموتوا يا رجال! قُدّامكو ووراكو ع َ الدّعسة، واللي ما بعجبو يْحَمّل شراشو وْيرحل، روحة بلا رجعة، حتى إذا  وصلتوا بلاد الرّوحة المنكوبة، حاول بعض المُتطفّلين أن يسطوا على هذه المُدّخرات، باؤوا بالفشل، طبقا لموروثهنّ ووصايا جدّاتهن: خلّي قرشك الأبيض ليومك الأسود، الدّهر خوّان ما إلو أمان! أما تلك الودائع والنّفائس، فلن تجدها في أسواق:عكّا، الْدلالة في حيفا، ولا في أسواق اللدّ والرملة، ولا في يافا البرتقال الحزين، ولا في عَمّ صَرِّخْ في  شوارع القدس العتيقة، ولا في نابلس ولا جنين وأخواتها،حتى في برطعة.

الجدّة أمّ محمّد حافظت على سَبَتِها، حيث جهاز عرسها والقمباز، والشّلحة البيضا، رمز العفّة والطّهارة، ويبقى القمباز مفتوحًا، رغم الأزرار والعروات  والشّال العريض،قبل الأحزمة الجديدة المزركشة، هذا الزّنّار المُزركش به كثير من النّوادر والأسرار، رغم إصرار الأحفاد لِسَبْر أغواره، حتى وإن كانت الجدّة نائمة، تَحِلّه للحظات تغيير ملابسها ، وتعود لِتَتَأَزَّرَ به، وتفوّت الفرص على شياطين بملابس ملائكة، وحُملان ما زالت تتدلّع وتتغنّج وتتحايل دون طائل، أمام يقظة هذه الجدّة، كان ذلك قبل عهد فساتين المكسي، الميدي والميني، بالأحرى هو سَبَتُ جدّتها ، المنتقل أوتوماتيكيًّا بالأصالة والوراثة، هو خزانة تلك الأيّام الغابرة، قبل عهد المنجور الحديث، الرّفوف، الجوارير، المُري، الأصباغ ومستحضرات التّجميل  المحلّيّة والمستوردة، كلّها شيك! آخر تقليعة وأحدث موضة، الضّرفات والمُري، الدّيكور والمنيكور، وما تابع ذلك من مستحضرات. تحايل الأحفاد كثيرا، برموا وَتَحَبْرَموا عاجزين!

– سِتّي بَدّي أنَظّف لك البيت!

– ستّي بدّي أعملّك لقمة أكل !

– ستّي بدّي أساعدك في الحاكورة!

– ستّي بدّي أَعَلّمِكْ ع َ الحاسوب، الأنترنيت والفيسبوك، وأفتحْ لِكْ حساب! – تْقَلّعوا بلا حِيَل وْتِدجيل! سناني مْقَلّعة  وْبوكِلْ ع َ الدُّرْدُر، وجايين تالي زماني  توخذوني بوقة! صحيح مش محلوب في عينيكو،شياطين تالي زمان ومكان، إنتو عمّالين تْهَوّولي، وْأنا صاحيتلكو!

– لأ يا ستّي لا تسيئي الظّنّ فينا، إحنا من إيدِكْ هاي لَإيدك هاي، خدّامينِك وين ما بدّك تروحي، شُبّيكي لُبّيكي عبيدك بين إيديكي، بَسّ أأمْري واطلبي!

–هاي الدّواوين والدّهاليز ما عادت تمشي عليّ ولا تِنْصرف عندي، خيّطوا بغير هاي المِسَلّة!

– إنتي جرّبينا بعد مرّة وِتْأكّدي من صدق نوايانا، يا سِتّ الكلّ!

– مين جَرّب المجرّب كان عقلو مْخَرّب، وْبَرّ وْلَفّ ودوران ما عندي!

– بِحْياة رحمة الّلي تحت التّراب ، جرّبينا ولا تْخَيّبينا!

رقّ قلب الجدّة وتراجعت عن بعض مواقفها، كيف لا! وهي لا تَصْفُطُهُم لِأنّهم من عظام الرّقبة، وْما أغلى من الولد غير ولد الولد! طَيّب يا قبّاريني سيدكو راح بَكّير مِنْ دَغْشِة عالوعر، يمكن يكون عطشان وْنسي مَطرة المَيّ! ودّولوا إياها وْبَس ترجعوا إلكو بَغشيش مِحْرِز!

تسابق الأحفاد فيما بينهم، من هو الذي يحمل مطرة الماء،ليكون قصب السّبَق من نصيبه، هدّأت الجدّة من  تنافسهم قائلة: المشوار بعيد وعلى الطّريق بِتْريّحوا بعضكو، وتتناوبوا على الحمل، وصلوا موقع المُعراض، شاهدوا دخانا كثيفًا مُتَلَبِّدًا متصاعدًا  يُنافس عنان السّماء، قال أحدهم قد يكون جدّي هو الذي وَلّع النّار، لَعلّ البرد قرسه، ونحن في عِزّ سعد بلع/بلى الذي يبلي العربان في منازلها، والأرض تبتلع كل الأمطار المتساقطة من لَدُن ربّ كريم، وقبل أن يطرحوا عليه العافية أو السّلام وبالتفاتة اعتياديّة منه، إلتقطهم راداره في عينَيه الثّاقبَتَين، اهتزّت مشاعره طربًا وحنينًا لرؤية الأحفاد الأكباد، فباغتهم بكل حبور وسرور: يا هلا بالحبايب، شَمّيتْ ريحتكو من بعيد، والعصافير حملَتْلي زقزقتكو وتغريداتكو، مش على هذا الّلي بِتْسمّوه الفيسبوك ، بل على أمواج الأثير وبذبذبات متواصلة، باعثلي سلام ع َ جْناح الحمام ، طلّوا حبابنا طلّوا، ترك الجدّ عِدّته جانبًا، استقبلهم: بالأحضان يا حبايب بالأحضان مع عبد الحليم، سلّموا عليه بحرارة، ضمّ هذه الضُّمّة من الأزاهير والورود، ضَمّة ضمّة ، متذكّرًا أغنية حبيبي ضمّني ضمّة، قبّلهم فردًا فردًا من الفتيان والفتيات، كلّهم أحفاده من أبناء البنين والبنات، وكلّهم أبناء عمومة، عمّات، أخوال وخالات، قال لهم استريحوا! وين بدنا نستريح؟ عالأرض مثلي، شو بدكو أجيبلكو كراسي، الأرض طاهرة وتُطَهّر مَن عليها، منها وإليها نعود!

ما هذه الأدوات المترامية هنا وهناك بين الشّقفان  يا جدّي؟ إنّها عدّة العمل: منكوش، شاقوف، مُخْل وأضيف له الواو والفاء ليصبح مخلوف، والشّاقوف لتكسير الحجارة والصّخور، أذوق بواسطته كلّ صخرة وأعرف إذا كانت قابلة للكَسْر أم لا! تبادلوا نظرات الاستغراب والاستهجان، لعلّ جدّي أصابه الخَرَف، ضَوّع وبحكي بالمغَيّبات! فهم من نظراتهم ما يُخالج قلوبهم البريئة قائلًا، من أوّل ضَرْبة /هواي بالشّاقوف أعرف نوع الّصّخرة: ركّاخيّة، ناريّة، صوّانيّة، كأنّني أذوق الطّعام الذي أتناوله، يا شاطرين! والمنكوش والمُخل للحفر حول الصّخرة وزَحْزَحتها، تمامًا كما تستعملون الرّافعة، وإن عجزتُ عن كسرها وزحزحتها، أشْعِلُ العجال فوقها، فالحرارة تفلق الصّخر وتضعف صلابته وتماسك ذرّاته، تمامًا كَكور الحدّاد، وهذه السلاسل الممتدّة ما هي إلاّ ثمرة عملي الدّائم، بانتظام وأصول مستخدمًا خيط البنّائين المهنيّين، كل شي عالأصول لحفظ التّربة!

– وكيف كنتَ تحرث الأرض يا جدّنا الغالي؟

– كان لديّ فدّان من البقر، مع ثور ثالث نُسمّيه: مُرْياح، حتى يستعيد كلّ منهم عافيته ويتناول بعض الأعشاب، وأضاف الجدّ: البقر يفهم علينا ونفهم عليه، نعرف متى يجوع، يعطش أو يتعب، نُخاطبه بلغة يفهمها عالطّاير! زاد استغراب الصّغار أكثر وأكثر، أيفهم البقر لغتنا وهو موصوف بالتّوحّش، العناد والتّمرّد! قال الجدّ حين نُنَيِّرُ الفدّان، ونصل العود بالنّير، نخاطبه: رَمّيْ رَمّي! فهو يلتزم التّرماي، أي حافّة قطعة الأرض، وحين نقول له: طَوِّق إزاء زيتونة أو تينة، أو أيّة شجرة، فالفدّان يَلِفّ ويدور حولها لِيُحَكِّرَها تمامًا، وحين نقول له: تَرِّحْ، يعني أنّه عليه أن يُغيّر اتّجاهه في الحرث، وكنّا نُدَلّع الأبقار بين الفترة والأخرى بإعطاء كلّ منها كبشة تين يابس/قُطّين كي تتحلّى، وحين نتأخر عن ذلك يواجهوننا بنظرات عتاب واستغراب، فنتذكّر واجبنا نحوهم، وحين نريد أن نرتاح أو نشرب شربة ماء، نَطُقُّ بالمسّاس/منساس على العود، فيقف الفدّان متنفّسًا الصّعداء راجيًا أن تطول فترة الاستراحة،وننظّف السّكّة بالعبوة، وإذا غضبنا من أحدهم نقول له: عبوة تُبْرُش ضلعك!

والآن جاء دور راحتنا معًا مع تناول فطورنا وشربة الماء التي أحضرتموها يا أعزّائي، عدّل الجدّ النّار وأضاف إليها بعض القرامي، وَمَدَّ سُفْرَتَهُ مَيْسوره، تفضّلوا يا حبايب، جابرونا ولا تْواخذونا! ذُهِل الأحباب من هذه السّفرة، بعد أن كانوا مُعَلِّلين وواعدين أنفسهم بوجبة دسمة، ما هذا؟ طبخة مْجدّرة مْطَجّنة وبايتة، كام رغيف مليوح مدهونات بزيت ولبنة، صحن زيتون مرصوص بيلمع لمع من كثرة الزّيت تحت خيوط الشّمس التي تَتَسَرّقُ رويدًا رويدًا، في شباط الّلي ما فيه على كلامو رباط، وان شبط أو لبط ريحة الصّيف فيه حتى في مستقرضات العجوز الشّمطاء! أحجم الأحفاد عن تناول الطّعام والمجابرة، خُيِّبَتْ أمالهم وتجهّمت وجوههم الغضّة! شبعانين سيدا! أكلنا قبل ما إجينا، بدناش عزيمة، لأ إنتو مْفكّرين في هون بالوعر همبورغر، شوارما، نكنيك ومناقيش! تركهم للحظات وعاد مع كام راس بصل من المِبْصَلة، وكام راس كُرّاث وكام بيت عِلْت، وهذا ما زاد الطّين بَلّة، إجا سيدي تَيْكَحّلها عماها، كسر الجدّ سفرته على مهل، معه إبريق شاي يضعه في العُلّيقة، لَحَّهُ بِزومْ مي وملأهُ ووضعه على النّار، ما بْتِعرِف جُوّاه مِن بَرّاه! كشّر الأحفاد عن أنيابهم المْشَلْوَتِة من كثرة التّبديل في هذا الجيل! تركهم للحظات حائرين من هذا المشهد المّْشَحَّر، وعاد مع ضُمّة زوفا بِكْر، طازجة تنمو على صخرة قريبة، دسّها في الإبريق، وعدّل النّار من جديد، فارَ الإبريق وَتَشَحَّرَ أكثر مما هو مْشَحّر، وقال لأحفاده المُحلّقين والواجمين المُنْكَبّين على صفحات  تواصلهم وتغريداتهم التي تضاهي تغريدات العنادل والبلابل، وقال كلّ ما غلينا الزّوفا أكثر،  إحْمَرَّ لونها وطابت نكهتها ومذاقها، لكنه  هو في واد وأحفاده في وديان أخرى لا يُدرك متاهاتها والتواءاتها، قلع بالعبوة ضُمّة بُزّيز، شواها لهم وهم سارحون بأفكارهم ومحمولاتهم! ذوقوا هذا أطيب من البطاطا المشويّة.

عادوا معًا يُردّدون : منكوش شاقوف مخلوف، منتوش، منفوش، مهبوش، ملهوف، منتوف، مكسوف، مخسوف،  استقبلتهم الجدّة بالأحضان وعلى الرّاحات: طلّوا حْبابنا طلّو، وكانت مفاجأة سارّة مِحِرْزة لكلّ منهم، كما وعدتهم، بعد أن حَلّتْ زُنّارها أخيرًا، واكتشفوا بعض خباياه قبل سعد الخبايا، وظلّ لسان حال الأحفاد قائلًا: سيدنا دَقّة قديمة،خلص تاريخو!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .