متفائلا ماتَ أبي د. حاتم عيد خوري.. (1)

تُصَبُّ في اذاننا شتى الاحاديث، وترسو على شبكات عيوننا مختلف المشاهد وتحطّ على سطح ذاكرتنا قوافلُ كلماتٍ ورسوم. البعض منها ينزلق عن الذاكرة فيُمحى والبعض يتراكم عليه غبارُ السنين فيُطمس والبعض الاخر يُنقَش عميقا فيبقى..

كنت في العاشرة من عمري عندما رايتُ لأول مرة والدي يبكي. لم يكن والدي إنسانا عصيَّ الدمع. فكثيرا ما رأيتُه، فيما بعد، يبكي في مواقف الانفعال حزنا كانت ام فرحا، رغم محاولات التماسك التي يبديها الرجال عادةً، لكنَّها لا تلبث أن تنهار على شاهد قبرٍ يتأهب لإحتضان أحد الأعزّاء، أو إزاء حدث مفرح جدا طال توقعه. رغم هذا فإنّ ذلك المشهد، مشهد بكاء والدي، ما زال يرافقني وقد يرافقني حتى نهاية المشوار. ربما لأنها كانت بالنسبة لي المرة الاولى، وللمرة الاولى وقعُها دائما،  او ربما لأن ذلك المشهد قد لقّنني آنذاك درسا في معنى الصداقة الحقيقية التي تجلّت أمامي بين والدي وصديقه أبو صبري..

أبو صبري، او عمي سليم، كما كنّا نناديه أنا واخوتي، هو سليم مصطفى آغا من وجهاء ترشيحا البارزين، إن لم يكن من شمال فلسطين، وذلك نظرا لِما كانت تتمتع به ترشيحا بين قرى الجليل الغربي، من مركز مرموق اجتماعيا وعلميا واقتصاديا ومهنيا فاكتسبت بجدارةٍ وبحقّ لقب “كرسي الجبل”. فضلا عن ذلك، فلقد كان أبو صبري أحدَ الملّاكين الكبار، فدارُه الرحبة في ترشيحا وكرم اللوز والمشمش الواسع في المرج الممتدّ بين ترشيحا ومعليا وكذلك اراضي جعتون المترامية الاطراف في الناحية الغربية من ترشحيا، وغيرها وغيرها من العقارات خيرُ شاهد على ذلك.

كانت زيارات العمّ أبو صبري لبيتنا في فسوطه، أمرًا مألوفا بالنسبة لي. وهكذا عندما رأيتُه بعد ظهر ذات  يومٍ، من صيف 1948، يترجل من سيارة سوداء اللون امام بيتنا، لم استغرب هذا حتى وإن كان يحمل بيده شنطةً صغيرة. هبَّ والدي لاستقباله وسارعت أنا لحمل الشنطة…

إختار أبو صبري الجلوس في المكان المفضّل لديه أي على السطيحة الشمالية الواسعة الممتدة أمام دارنا، مستظِلّا بعريشة عنب ومشرفا على الشوارع الثلاثة التي تحفُّ بها.  هذا الموقع بالذات كان مجلبة للزائرين من الجيران والمشاة العابرين  الذين أخذوا بالتوافد على بيتنا للسلام على الآغا ولتنسّم الاخبار وما ستؤول اليه الاوضاع الراهنة المتأزمة فيما بقي من شمال الوطن بعد سقوط حيفا والناصرة وطبريا وعكا وصفد والقرى القريبة من تلك المدن… كان أبو صبري في هذه المرة، على غير عادته، مقِلّا  في حديثه، غيرَ مستقرٍ في جلسته، تاركا اصابعه تعارك حباتِ مسبحته دونما توقف أو استراحة، مُطلِقا بين حين واخر تنهيدةً عميقة مصحوبة بِ “يا الله”، و”ملتهمًا” لسيجارةٍ مخنوقةٍ بين سبابته واصبعه الوسطى، ومتلاشيةٍ بسرعةٍ امام مجّاته، مخلفةً عامودي دخان منبعثين من أنفه وغيمةً من فمه.

دواعي توتر سليم مصطفى وقلقه سرعان ما انكشفت عندما إنفضَّ الديوان وبقي هو ووالدي لوحدهما. لقد تبين لوالدي ان زيارة صديقه الحميم هذا هي زيارة وداعية لأنه  قد قرّر تركَ الوطن والرحيل الى لبنان، إحتجاجا على قيادة جيش الانقاذ وبعض المتعاونين معها ممّن نصَّبوا انفسَهم حماةً للوطن وحراسا للقضية، فباتوا وكأنهم هم المقصودون بقصيدة الشاعر الفلسطيني النابلسي ابراهيم طوقان، التي جاء فيها:

“أنتمُ المخلصون للوطنية     أنتمُ الحاملون عبءَ القضية..

وبيان منكم يعادل جيشا       بمعدّات زحفه الحربية

اجتماع منكم يردُّ علينا        غابرَ المجد من فتوح اميّة..

ما جحدنا أفضالكم غير أنَّا    لم تزل في نفوسنا امنيّة

في يدينا بقية من بلاد        فاستريحوا  كي لا تطير البقية”.

لقد حاولوا إيهام الناس بأنَّ مجرد وجود جيش الإنقاذ والمقاومة المحلية العشوائية سيكون كفيلا ليس فقط بضمان صمود ترشيحا والقرى المحيطة بها والمحافظة على تلك البقية القليلة الباقية من الوطن، إنما ايضا باتخاذها قاعدةً لتحرير ما تمّ احتلاله!! ولعلَّ هذا الموقف يتضح فيما قاله آنذاك قائدُ الحامية الذي كان معروفا باسم مدلول بك, الى مخاتير قرى ترشيحا، جوابا على سؤالهم المشحون بالقلق: “كيف الاوضاع يا بك؟”. فاجاب: “الامن مستتب، وقواتنا تتمتع بجهوزية عالية، والامدادات تصلنا تباعا عبر شارع الذخيرة”. سكت البك لحظة ثم اضاف مستدركا: “أعني شارع العزيمة لكون هذا الاسم يعبّر عن عزمنا لاسترداد الوطن السليب”. يقول الراوي انّ المخاتير قد ارتاحوا لإسم شارع العزيمة، لا لانهم كانوا يثقون بعزم تلك القيادة وجدّية وعودِها وتصريحاتها، إنما لانهم رأوا بهذا “الابتداع” تكريما غير مقصود لعزيمة سواعد الرجال من ابناء قرى منطقة ترشيحا، سيما فسوطة ودير القاسي وسحماتا وحرفيش وسعسع، الذين سخّرتهم قيادةُ جيش الانقاذ (بحجة تسهيل نقل الذخيرة من لبنان الى فلسطين) لفتح شارعٍ ترابيّ طويل  يوصل مباشرة بين دير القاسي وحدود جنوب لبنان، مستعينين بادوات عمل بدائية جدا كالطوريّة والمنكوش والرُفش والمُخْل والمهدَّة والشاقوف وما شابه..

كذبت تلك القيادة وصدّقت كذبَها، فلم يكتفوا برفض اقتراح سليم مصطفى ابو صبري بشان محاولة تدارس وسيلةٍ تضمن بقاءَ الناس في بيوتهم واملاكهم وعدم تشريدهم ، بل قاموا بالمزايدة عليه والتطاول على كرامته والطعن في وطنيته واخلاصه، والتمادي إلى درجة تخوينه والإعتداء على حرمة بيته، متجاهلين وغير آبهين وربما غير مدركين أن البلاد، كل بلاد، تُحدَّد هويتها من خلال هوية سكانها، وان البلاد أو المنطقة التي يُقتلَع منها سكانها او ينزحون عنها، لا تفقد سكانها فقط بل هويتها ايضا..

حاول والدي بكل ما حباه الله به من قوة إقناع أن يطيّب خاطرَ صديقه تمهيدا لإقناعه بالعدول عن رأيه… فهل نجح والدي في مسعاه؟

ساكشف عن هذا في الاسبوع القادم. فالى اللقاء

Hatimkhoury1@gmail.com

23/10/2020

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .