لك اللحمات ولنا العظمات.. قصة بقلم: شهربان معدّي ـ يركا

حوادث كثيرة يطويها النسيان، ولكن هناك من الحوادث؟ ما تبقى محفورة عميقة في البال، وعصيّة على النسيان. فإن أنسى؟ لا أنسى ما حييت وجه أبي المتردّد الخجول، يدقّ علينا باب الصف ليطلّ علينا من الباب الخشبي العتيق مرة أو أكثر في العام، دون ما علم بقدومه المفاجئ، ليسأل الأستاذة أو الأستاذ الذي كان يعلمنا:

-ها.. كيف “التوم”…؟ وهو إنما يأتي ليسأل عني وعن أخي التوأم، ” انشالله مش عم يعملوا مشاكل، ومش عم بيغلبوك؟ هذول مثل ولادك.. إلك اللّحمات وإلنا العظمات يا أستاذ”. كان يلقي بهذه الكلمات ويختفي بعدها بسرعة، وكأنه قام بواجبه وارتاح ضميره في تربيتنا وتعليمنا، وأدى ما عليه من رسالة الأبوة في الدنيا والآخرة.

كنت أشفق على نفسي وعلى أخي التوأم من قسوة الأهل والمعلمين، والتلويح المتواصل بهذا التّعنيف، لا سيما وأن أسلوب ضرب الطُلاب كان ساري المفعول كجزء من التربية والتعليم، وصك براءة بين يدي المربي الأستاذ.

 

بينما كنّا لا نجرؤ على  رفع أصواتنا بكلمة احتجاج ترفع عنا ضيم العصا، أو لطمة سريعة على وجوهنا هي أقرب من العين للحاجب.. وحينما  تهوي العصا الغليظة، لا تميز أين يحلو لها أن تنال من أجسادنا الغضّة الطريّة.

 

كان أصعب عقاب يمكن أن يتخيله من يتمتع بالحد الأدنى من الحس الإنساني السليم؟ العقاب الجماعيّ بسبب تلميذ مُشاغب أو قليل التربية، يحمل وزره طلاب الصف الآخرين، دون ما تمييز بين تلميذ مجتهد أو كسول، وقح أو خجول، متهاون أو رصين، ولا حتى بين بنت أو صبيّ، إمعانا  بالتواطؤ مع محيط كان يؤمن بعدالة العصا أنها من الجنة.  وأن العقاب الجسديّ، وسيلة ناجعة لتأديب الأولاد.”اعتقادا من أولي الأمر والمربين أن استخدام العصا إن هو إلاّ استجابة وخدمة للمثل الشعبيّ المتداول المأثور: “لولا “المُربي”، ما عرفت ربّي”.

وحتى اللحظة رغم مرور سنوات طويلة، فلن أنسى ذلك النهار الشتويّ، الذي وصلت فيه مُتأخرة إلى المدرسة. ما زالت تلك الحادثة تنغّص صفاء عيشي، حينما كانت  تسحب الهواء من رئتي، وتُشعرني بالاختناق والضيق.

 

كان يومًا عصيبا. أصعب من أيام الخوف والجوع، حيث كانت السحب منخفضة وكثيفة، والمطر ينهمر لا يتوقف طيلة النهار. ورغم ذلك أصرّت أمي سامحها ربي، أن ترسلني إلى المدرسة، وكانت المدرسة بعيدة جدًا بالنسبة لطفلة في الصف الرابع ابتدائي، تعيش على أطراف القرية، ولم تكن هناك يومها من وسائل الانتقال السهل السريع، ما كان يدفع بالطلاب أن  يغادروا بيوتهم قبل السّاعة السابعة، للوصول إلى المدرسة قبل ابتداء الدوام.

 

ولكن بسبب هطول المطر المتواصل، لم أفلح بالوصول إلى المدرسة قبل الثامنة الموعد المحدد للصف، ولم يرحمني الرشح والزُكام الشديدان ولا المطر الغزير. حاولت أن أختبئ تحت شرفات بيوت أجهل من يكون ساكنوها، فلم أنجح في تجاوز “أنقوعات” من وحل ومياه دون أن تغرق قدماي، وكانت تملأ طريقا قيد الترميم. ومن سوء حظّي وأنا أدخل الصف أن يكون مربي الصف غائبا، وثمة شابّة مُعلّمة بديلة.. أتت تنوب مكانه.

 

كنت أرتجف من البرد القارس، وقد تبللت ملابسي من رأسي حتى قدميّ، وكان شعري أشعث وحالتي مُزرية تستحق الرّثاء، طلبت مني الأستاذة “المعوضة” أن أقف في الطّابور، أسوة بباقي  تلامذة الصف، رغم أنني توقعت منها أن تشفق عليّ فتسمح لي بالجلوس، أمام المدفأة المركونة في إحدى زاويا الصّف لأنشّف ثيابي.

 

ولكنها أصرّت أن أقف في الطابور لكي تتأكد من قيافتي، التي تبدأ بأظافري إن كانت مقلّمة ونظافة أذنيّ.. ومنديل أحمله  معي. حمدت ربي عندما اجتزت الاختبار الأول والثّاني، ولكنني لم أعثر على  المحرمة في جيبي.

 

تلك التي اجتهدت أمي بتطريز حواشيها المنمقة بخيطان شامية ملوّنة، حيث كانت الأمهات يتباهين بجمال حواشي الفوط التي تُطرزها الأم لأبنائها صبيان وبنات. أو الحبيبة تجتهد في تطريزها حتى يعود حبيبها الغائب.

 

كنت أرتجف من شدّة الخوف والبرد، عندما انهالت عليّ بالضرب بلا رحمة، بعصاها الخشبيّة القاسية الطّويلة، فلم تستثنِ من الضرب وجهي ولا رأسي ويديّ الطفلتين الغضتين. شعرت بالضعف والإهانة والوجع الشّديد، وكان أخي التوأم يرمقني بطرف عينيه من بعيد، دون أن يجرؤ فيعترض أو يدافع عن أخته خوفًا من وجه المربية الكدر المنكود، الذي كان يُنقط سمًّا كما يقولون.. كلّ ذلك ليس إلاّ لأنني نسيت محرمتي الصغيرة المشؤومة.

 

حتى هذا اليوم.. صدقوني لا زلت أشعر بهذه الحادثة ماثلة أمامي تنبش في عمق قلبي، وما زلت ألعن في سري وجهري ذلك المثل الذي سبب لي هذه المُعاناة المأساة، ولم يشفع لي أنني كنت تلميذة مواظبة ومجتهدة.

 

كنت لا أسيء التصرف  وكنت مدللة أمي وإخوتي وأبي، بالرغم من أنه دأب يطلّ علينا كالعيد، مرة وربما أكثر في العام ليقول لمربي صفنا فحسب: -“هودي ولادك لك اللّحمات ولنا العظمات” ويختفي. ولكنّه والشهادة لوجه الله والرحمة على روحه الطاهرة، كان يخاف علينا من حرارة الشمس أو لفحة البرد، وما كان أبدا ليتغاضى عن هذه المُعوضة، صاحبة الوجه الغاضب والقسمات الجّافة، كمساء خريفيّ عبوس، أن تتعامل معنا بهذه القسوة.

 

رغم مرور سنوات كثيرة على تلك الحادثة التي حفرت عميقًا في وجداني، وتركت خدوشًا، على جدار قلبي الغضّ، ما زلت أتساءل؟ لماذا عاملتني المعلمة بكلّ هذه الخشونة؟ هل بسبب توصيات والدي، أو بسبب عمى قلبها، وقسوتها، وجهلها كسواها من معلمي الزمان الماضي، كيفية التعامل مع أطفال بعمر الورود.

 

أو ربما لأنها أتت إلى المدرسة مع كومة من الهموم والمتاعب لتشفي غليلها، وتمارس عُقدَها وحقدها على طفلة ضعيفة لا حول لها ولا قوة، كلّ ما كانت تحتاجه لا يزيد عن الملابس الصوفية، وكمشة حب وحنان دافئة.

حوادث الطفولة أشبه بالعلامات والخدوش التي تُترك على سطح من الإسمنت الطري، سرعان ما يجفّ فلا تُمحى تلك الخدوش العميقة كما في القلب. كم من مُعلمين بسبب صرامتهم  وقسوة طباعهم، حطمّوا معنويات طُلابهم، وبددوا جمال تصورهم وخيالهم. خيالهم ربما كان في المستقبل جواز سفرهم في مركب الحياة الزاخرة بالتحدّي.

فلا تكوني يا صديقتي عاصفة أو زوبعة ثقيلة

في مدرستك مع من حولك
ولا تكوني جرسا عتيقا مدوياً يطن ليلاً ونهارًا 

 

جميل هو العالم.. والأجمل منه يا صديقتي؟
رعاية تلامذة موهوبين وسُعداء

أصحاب قلوب رقيقة تستحق العناية والحب.

القصة منتقاة من كتابي الجديد؛

“امومة مشرقة وأطفال سعداء.”

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .