قصة قصيرة ماراثون الصمت.. ميسون أسدي

-1-

وقد كانت…

السماء عميقة الزرقة والورد الأحمر أجمل من مواويل يرددها صوت عاشق. تغندرت منيرة كعادتها مشحونة بطاقات إيجابية من عصافير الصباح. ألقت على عنقها شال جدتها المطرز بمنمنمات فلسطينية. دخلت إلى طبيب العائلة، وهو مهني وجدّي وابن حارة في نفس الوقت. صبّحت عليه فصبّح عليها بالمثل. جلست تاركة مسافة بعيدة عنه بسبب تفشي وباء الكورونا. وضعت ساقا على ساق. نظر إليها الطبيب من قمة رأسها إلى أخمص قدميها وسألها:

– كيفيك؟ مبسوطة؟

– جدا… وأنت، كيفك دكتور؟ ان شاء الله بخير…

– الحمد لله، أنا جيد.

مرّت لحظات صمت والطبيب مشغول بحاسوبه. لم تتحدث إليه عن قصد، ثمّ سألته ثانية بحركة مفعمة بحنين جارف:

  • أكلّ شيء لديك على ما يرام دكتور؟

فأجاب:

– نشكر الرب.

مرّت لحظات أخرى وسألته بقصد إثارة شيء ما بداخله:

– ألست مشتاقًا لي؟

 

هنا شعر الطبيب أنها تجاوزت الخط الاحمر للعلاقة بين الطبيب والمريض، فضحك بملء فيه وقال بلا مبالاة وبلا تأثر:

– دائمًا مشتاق.

استغربت منيرة أمر طبيبها، فهو لم ينتبه للتغيير الحاصل لديها، فسألته مباشرة ودون اذن:

– ألم ترَ التغيير الذي طرأ عليّ؟

ارتبك الطبيب المسكين من جرأتها ونظر إليها ثانية من رأسها إلى أخمص قدمها وقال:

– هل غيرت تسريحة شعرك؟

– لا…

نظر الطبيب صوب ساقيها نظرة مشكوك بأمرها. لم تنو منيرة إرباكه أكثر، فقالت له:

– انظر إليّ كطبيب وليس كرجل.

فضحك ضحكة خجولة من نفسه ومن مشاكستها له وحتّى تخفّف من وطأة إحراجه قالت له:

– عاد إليّ صوتي يا دكتور، ولهذا أنا أتحدث إليك. عاد إليّ صوتي الجميل.

علّق الطبيب:

– نشكر الرب. هل أجروا لك عملية جراحية؟

– عاد لوحده، بدون عملية.

تركت منيرة الطبيب وهي مبتسمة في خباياها، فمعذور طبيبها لأنه يستقبل مئات المرضى ولن يتذكر فقدان صوتها ووجعها ولكنه شحنها بطاقات إيجابية لأنه نظر اليها كامرأة وليس كمريضة…

-2-

كان ذلك في أواخر شهر آذار، عندما صفعت منيرة موجة برد قارصة. عرفت للتو بأنها ستكون طريحة الفراش، فبدأت تشعر بموجات حرّ وبرد وألم في الرأس، كما يبدو ستصاب بنزلة برد قوية. بدأت تعالج نفسها بنفسها بشرب الليمون والحامض والثوم.

في اليوم التالي، زالت آثار النزلة البردية، ولكن صوتها كان مبحوحًا بحة جميلة يعج فيها غنج. لكن هذه البحة رافقتها لمدة أربعة أسابيع، فذهبت إلى طبيب الأنف والأذن والحنجرة، وبعد أن فحصها اتضح أنّ هناك شللا في وتر الصوت الشمالي، والوتر اليميني لا يعمل بشكل طبيعي. على الفور، أرسلها الطبيب لإجراء صورة للرأس والصدر واتضح أن سبب الشلل هو أورام خبيثة انتشرت في الغدد الليمفاوية في منطقة الصدر وضغطت على وتري الصوت، ويمكن للعلاجات الاشعاعية والكيماوية أن تساعدها على استرداد صوتها. وهناك إمكانية في ان يرجع الصوت لوحده ويستغرق ذلك من نصف سنة إلى سنة. على التو، بدأت منيرة بالعلاجات الاشعاعية لعل وعسى تسترد صوتها. كانت النتيجة عكسية فقدت صوتها أكثر.

خلال العلاجات الاشعاعية المكثّفة قرّر الاطباء وقف العلاج الاشعاعي من أجل إجراء عملية جراحية في ساقها من الركبة حتى الفخذ، بسبب ورم خبيث في عظم الساق يهدد بالكسر. وبعد اجراء العملية بشهر عادت إلى العلاج الاشعاعي وبعدها مباشرة، بدأت علاجات كيماوية حارقة وصوتها مخنوق لا تستطيع لفظ الكلمات. لا يوجد بها قوة لقول جملة واحدة مكونة من ثلاث كلمات. صوتها مخنوق وتعب وفقدت حيويتها وقوتها. تختنق إذا شربت الماء. تغصّ بالهواء والطعام وتبدأ بالسعال حتّى تبول على نفسها. لم تنجح بإجراء اتصال تلفوني، لم تستطع الحديث في أي ديوان ومع أي أحد. وفقدت حقها بالغناء بعد أن كانت شعلة جبارة موقدة من النشاط.

اتصل بها بعض الأصدقاء الملاعين لشم الاخبار والاستماع إلى صوتها. تهيّأ لها وجود ورم خبيث في حلقها. انتابتها معاناة لا توصف من الألم المبرح والنفسية الضعيفة المتهالكة وفحوصات طبية لا تنتهي.

الوشوشة تدور حولها، ماذا ألمّ بها؟ أين صوتها؟ ما هو السبب؟ العيون الحزينة والشامتة تنظر إليها بتفحّص. كتبت إلى أحد اصدقائها الأطباء رسالة تقول فيها: شلت اوتاري الصوتية بدأت بالجلسات الاشعاعية خمس مرّات للورم في كتفي الشمال وثماني مرّات للغدد الليمفاوية في منطقة الصدر وحتّى الآن لم يعد صوتي، ما العمل؟ أنا بحاجة ماسة لاسترداد صوتي… ساعدني.

لم تتلق جوابا من صديقها الطبيب. لأنه لا يملك الإجابة. لم يشأ احباطها، فعدم رده كان بمثابة رد لها. سكتت على مضض. ألم مبرح في الكتف، زارت طبيب العائلة فأرسلها لإجراء صورة أشعة، ولكن النتيجة كانت جيدة لا شيء في الكتف، ثمّ أرسلها لإجراء صورة أشعة مختلفة والنتيجة كانت جيدة جدا، لا شيء في الكتف، ثمّ ذهبت إلى طبيبة الأورام وكانت النتيجة وجود ورم خبيث في الكتف.

-3-

نظرت حولها في جلسات العلاج الكيماوي، فمعظمهم كبار السن ونادرًا ما تجد أحدا يقارب سنها. فشعرت بالأسى على حالها وأخذت تسأل نفسها: لماذا أنا بالذات ولمَ بهذا الجيل؟ لمَ لمْ ينتظر رب السماوات أكثر سنوات ليبتليها بهذه المعاناة؟ وما أن تدخل إلى غرفة الجلسات الكيماوية حتّى تشعر بغشاوة على العين ودوار بالرأس ويكاد يغمى عليها وهي لا تعرف ماذا تفعل. تتوه في متاهات الفحوصات وشرها. عصفت بها الاحزان. كل يوم تعيشه وكأن خالق الكون يحملها الجميل على أنها تتنفس. أواه يا للسماء. ارحمنا برحمتك يا رب…

منذ شهر اذار وحتى شهر تشرين أول وهي تشعر بمعاناتها بصمت من اوجاع مؤلمة متواصلة، وجهد كبير لإقناع من حولها بأنّها بخير وعلى ما يرام. عيون الناس التي يفترسها الحسد تراقب فشلها وهي تتحدّى بصمت وبضحك ولعب وكأنّ شيئا لم يكن، والاختباء في سرها لأنّها ما زالت شابة ولا تريد الرحمة من أحد. تريد استرداد صوتها فقط.

-4-

ثمّة أمر آخر. زارت منيرة باستمرار قسم الأنف والأذن والحنجرة في المستشفى ليجروا لها عملية لاسترداد صوتها والتقت مع أطباء القسم، ووضعوا أوراقها الطبية أولا قبل جميع المرضى من أجل اجراء العملية لها. كانت تتحدث إليهم بصوت مخنوق غير مفهوم، وكم هي بحاجة إلى مساعدة. تفهّم الأطباء وضعها وتمّ تعيين عملية لها قريبا، ولكنّ لحظها السعيد أنها ستتلقى الجرعات الكيماوية يوما قبل العملية وقد فضلت الجرعات الكيماوية، لأن المرض الخبيث ينتشر في جسدها الشاب، ولذا أشار لها طبيبها بالانتظار حتى الانتهاء منها.

-5-

استيقظت منيرة باكرا، وحضرت قهوتها الصباحية وانضم إليها زوجها وجارتهم ليحتسوا القهوة معًا، وخلال الحديث على حين غرّة قالت لها الجارة:

الحمد الله على السلامة، عاد اليك صوتك كيف حدث ذلك؟

كانت هذه الجملة بالنسبة لها وكأنّها فازت بالمرتبة الأولى في سباق الماراثون الطويل الذي تتخلله الحواجز.

في تلك اللحظة زغردت الأرض واحرقت ثياب الحداد.

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .