(الحلقة الثَّامنة)
لكن منذ ذلك اليوم “راح عليه هذا الاسم ابو الكشك”، حيث انتقل هذا اللقب إلى أولاده واحفاده واسباطه من بعده إلى يومنا هذا، وأصبح أحفاده يحملون هذا الإسم، عائلة الكشك، مع انَّ جدَّهم كجدِّنا الأوَّل الذي أتى هاربًا رضيعًا ووالدته من بلاد الشَّام، من غوطة الشَّام، الظَّهر الأحمر، لسببٍ ما زلنا نجهله، لم نعرفه ولن نعرفه على ما يبدو، ويقين الخبر عند ربِّ الخبر، هل كان زوجها من غير ديانتها، فطلب منها أن تهاجر إلى جليل فلسطين، ريثما يلحق بهما وضاع في البراري..
وقسم من العائلة حافظ على اسم العائلة داود، وهم استمرُّوا باسم العائلة الكشك، لكنَّ المحبَّة والمودَّة والألفة والتَّعاضد ما زال إلى يومنا هذا..
كما انَّ جزءًا من العائلة موجود تحت اسم أحد أجداد العائلة تركي، من ذرِّيَّة داود، حفاظًا على اسم تركي بن يوسف الذي توفَّاه الغفور صبيًّا يافعًا، بعد أن مَنحه والده يوسف هذا الاسم على اسم والده، ليحمله معه إلى ما شاء الباري له أن يحمله، لكن مشيئته القادرة على كلِّ شيئ كانت غير ذلك، فتجد أبناء عمومة من درجة أولى يحملون اسم العائلة داود وآخرون تركي أو كشك أو ابراهيم..
أمَّا كلمة داود، فهي تيمُّنًا باسم الملك داود أو النَّبي داود مؤلِّف المزامير في العهد القديم من الكتاب المقدَّس، فتكون الواو في وسطها، حيث أنَّ هناك خطأ شائعًا بكتابة الإسم داهود، وإذا اعتبرنا، بقناعة تامَّة، أنَّ القرآن الكريم هو مصدر اللغة العربيَّة القويمة فإنَّه في جميع أماكن ورود هذا الإسم، كان حرف الواو مع حركة الضَّمِّ فوقها أو أحيانًا بواوين دون أن يتوسَّطه حرف الهاء، فكان الاسم داود أو داوود أو داوُد، ويجوز أنَّ حرف الهاء وُضِع ليكون لفظ الإسم هيِّنًا..
وجاء إنجيل متَّى، الفصل الأوَّل الآية ﴿..يا يوسفُ ابنَ داوُدَ لا تخَفْ ان تأخذَ إمرأتَك مريم فإنَّ المولودَ فيها هو من الرُّوح القُدُس﴾..
وقد جاء في سورة البقرة ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ ممَّا يشاءُ..﴾..
كنتُ وشقيقتي وضحى، التي لها الفضل الكبير في كلِّ ما أنا عليه الآن، وكانت أعلى منِّي بصفٍّ واحدٍ، ندرس في المدرسة الإبتدائيَّة، مدرسة “مار يوحنَّا المعمدان” وانتقلنا منها إلى “مدرسة الأخوَّة” البلديَّة لضيق الحال والأحوال، وتابعنا دراستنا في المدرسة الثَّانويَّة، “الكليَّة الأرثوذكسيَّة العربيَّة”، ولسببٍ ما، لا أعرفه، فقد تسجَّلت شقيقتي في سجل المدرسة تباعًا، وضحى داود أمَّا أنا فقد تسجَّلتُ خالد تركي، وكنَّا نتواجد سويَّة، بعضنا مع بعض على مدار السَّاعة، صباحًا ومساءً، كحبَّة الفُستق أو الجوز، نصفان في جسد واحد، الواحد منهما يُكمِّل الآخر، في وحدة واحدة، من البيت إلى الكليَّة ومن الكليَّة إلى البيت، من البيت إلى الملاعب، ومن الملاعب إلى نشاطات ابناء الكادحين أو الشَّبيبة الشُّيوعيَّة، الاجتماعيَّة والتَّثقيفيَّة والتَّرفيهيَّة، في حيِّ وادي النِّسناس العريق بأهله وسكَّانه، فشاءت الظُّروف أن تمرَّ معلِّمة البيولوجيا، يهوديَّة، من أصل مصريٍّ، تجيد لغتنا أفضل منَّا، في حيِّنا لتجدنا نلعب سويَّة، فاستغربت سائلة إيَّانا، استغرب منكما ومن صداقتكما، ألا تتركان بعضكما البعض، ما هي قصَّتكما، فأجابتها شقيقتي، إنَّه شقيقي ونسكنُ هنا مشيرة إلى شرفة منزلنا، شارع وادي النِّسناس رقم تسعة وثلاثين، فأصابتها الدَّهشة ولم تصدِّق أُخوَّتنا، “مش معقول ده انتم خوات”، فذهبت في اليوم التَّالي واشية ايَّانا للمدير، بعد أن قصَّت له حكايتنا، الأمر الذي أعطاها القول الفصل، بأنَّنا اشقَّاء فعلاً..
كانت مدرسة والدي في بداية الأمر بجوار وبمحاذاة كتدرائيَّة السَّيِّدة في حارة الكنائس، بحيفا، بيت النِّعمة اليوم، كانت مدرسة كبيرة مكوَّنةً من حوالي عشرة صفوف أو يزيد، ويعود تاريخ تدشين هذه الكنيسة إلى سنوات السِّتِّين من القرن التَّاسع عشر، حيث كانت داخل حدود “العمارة الجديدة” كما اسماها باني حيفا الجديدة ظاهر العُمر الزَّيدانيِّ، داخل الأسوار.
وكان يحدُّها من الجنوب بُرج السَّلام أو البرج، الذي بناه الظَّاهر لحماية حيفا من قراصنة البحر المالطيِّين ومن قُطَّاع الطُّرق في الإمارة، ويُذكر أنَّه كانت على هذه الأبراج مدفعيَّة راجمة منصوبة ومركَّزة على أسوار “العمارة الجديدة” لوقت الحاجة الدِّفاعيَّة عن المدينة، الأمر الذي سبَّب في ازدهار ميناءَي عكَّا وحيفا، شمال فلسطين، كما جاء في كتاب “صفحات من تاريخ حيفا من ظاهر العمر إلى العام الفين وثمانية”، جديد الإصدار، للمؤرِّخ الاستاذ اسكندر عمل، حيفا. وكانت مساحة حيفا الجديدة التي تأسَّست عام الف وسبعمائة وثمانية وخمسين تنحصرُ، في حدود اليوم، ما بين ساحة الخمرة والمنطقة التي يقع فيها عامود فيصل قرب جامع الاستقلال، محاطةً بسور وثلاثة أبراج. وحين أقام ألألمان في مدينة حيفا، أقاموا في منطقة تُعرف اليوم بالألمانيَّة، خارج أسوار حيفا، في ستِّينات وسبعينات القرن التَّاسع عشر، وبنوا بيوتهم التي ما زالت شاهدة على وجودهم في مدينتنا إلى يومنا هذا، إذ هدموا أسوار المدينة كي يتسنَّى للحناطير التي صنعوها أن تصل إلى جميع أحياء المدينة، وكذلك قاموا بشقِّ الطُّرق وتوسيعها ليكون السَّفر أسهل وأسرع. وكانت بوابتا السُّور ضيقتين (البوَّابة الشَّرقيَّة أو بوَّابة عكَّا، والبوَّابة الغربيَّة أو بوَّابة يافا) ولم تتَّسعا لعربات الخيول العريضة فوُسِّعت البوابتان ثم أُزيلتا فيما بعد.
يقول الشَّاعر والمناضل داود تركي:
“بلدٌ بناها الظَّاهرُ العمرُ قد صابه بغيابنا الخَلَلُ
ترنو إلى الأحباب أعيُنُه ويرومُهم حتَّى به الطَّلَلُ”
استغلَّ الألمان هذا التَّفوق وبدأوا بنقل الرُّكاب على خطِّ حيفا عكا بعرباتهم التي كانت تقطع المسافة بثلث الوقت الذي تقطعها بها الدَّواب التي كانت تستعمل حتى ذلك الوقت. اغتاظ أهل حيفا لاغتصاب الألمان للقمة رزقهم، لكنَّهم سرعان ما لجأوا الى اقتناء عربات كهذه من صانعي العربات الألمان الذين ازدهرت صناعتهم ونافسوا سائقي العربات الألمانيَّة وأدَّى هذا التَّنافس الى انخفاض أسعار السَّفر. وكانت تقع العربة على عجلين كبيرين، فيها حوالي ستَّة مقاعد بما فيها كرسي سائق الحنطور وبيده الكرباج أو القمشة، ويجرُّها حصانان، وفي العام الف وثمانيمائة وثلاثة وسبعين شقَّ الألمان طريقًا بين حيفا والناصرة وبقيت وسيلة النَّقل هذه نشيطة لغاية أربعينات القرن المنصرم حيث حلَّت مكان الحناطير في ساحة الخمرة، السَّيَّارات..
وكانت الضَّاحية الألمانيَّة مُميَّزةً بشوارعها الواسعة والرَّحبة، المليئة بالأشجار العالية الجميلة، الباسقة والوارفة، والمثمرة على أطرافها المرتَّبة بشكل منسجم ومتناسق، فتجد شجر العنَّاب والجُمِّيز ﴿والتِّين والزَّيتون﴾ وكروم دوالي العنب، ثمارًا شهيَّة لكلِّ عابر سبيل، طريق تصل في خطٍّ صحيحٍ مستقيمٍ بين مقام عبَّاس افندي للبهائيِّين، قبَّة عبَّاس، والبحر باتِّجاه شارع الملوك، إلى منطقة البُونط، حيث اُقيم هناك رصيفًا واسعًا على شاطئ البحر، البُونط، خصِّيصًا لإستقبال إمبراطور ألمانيا غليوم الثَّاني (ڤيلهلم الثَّاني) عام ألفٍ وثمانيمائة وثمانية وتسعين بعد أن لبَّى دعوة السُّلطان عبد الحميد الثَّاني لزيارة بلاد الشَّام، والأراضي المقدَّسة، حيث أُقيم له نصبًا تذكاريًّا على البُونط نُقِش عليه اسمه وتاريخ زيارته للمدينة.
وكان في منطقة البُونط مصنع لصنع الصَّابون تابع لعائلة شرتوفي الألمانيَّة.
كانت منطقة البُونط منطقة سياحيَّة بحريَّة جميلة تعجُّ بالمتنزِّهين، خاصَّة أيَّام الآحاد، وكانت تنتشر فيها المقاهي، ودار واحدة للسِّينما بقربه واسمها، “كولوز بوم”، وفي كتاب الرَّفيق بولس فرح “من العثمانيَّة إلى الدَّولة العبريَّة” ص 34، يذكر هذه السِّينما: “..عبارة عن مخزن كبير لا يتَّسع لأكثر من مائة وخمسين مشاهدًا. وكانت الدِّعاية لهذه السِّينما عن طريق ركوب المهرِّجين، على عربات الخيل والصُّراخ من فوقها منادين “اليوم ولا كل يوم في سينما كولوز بوم الفيلم الشَّهير والبطل الصِّنديد”، ويُعدِّدون بطولات الممثِّلين وجمال الممثِّلات. وكانت لي (والحديث لبولس فرح) هذه السِّينما بدلاً عن صندوق العجائب، لا أدري ولا أحد يدري كيف يتحرَّك الرِّجال والنِّساء على الشَّاشة، وكنَّا ندفع رسوم الدُّخول غرشًا أو غرشين، وهذا تطوُّر عظيم بالنِّسبة لنا، لأنَّنا كنَّا ندفع لصاحب صندوق العجائب برغيف من الخبز أو البيض”، ويذكر والدي أيضًا سينما “عين دور” في شارع عين دور، وسينما “النَّصر” التي كانت في شارع العراق، منطقة وادي الصَّليب، حيث تمَّ الإنتهاء من بنائها ووقعت النَّكبة صاعقةً على ظهر صاحبها، وربحًا صافيًا للذين أتونا من وراء البحار، وكذلك كانت هناك سينما “الكرمل” وسينما “الأمين” الصَّيفيَّة والمكشوفة، في ساحة جانبيَّة بين شارع يافا وشارع الملوك، بجانب مقبرة الرُّوم الكاثوليك، و”سينما النَّهضة العربيَّة” الصَّيفيَّة في منطقة ستانتون..
يذكر والدي أنَّه كانت تُعرض في أيَّام الآحاد في الكنيسة، الأفلام المتنوِّعة الأجنبيَّة خلال نشاطات الكنيسة في “مدرسة الأحد”، عطلة الطُّلاب الأسبوعيَّة، وكان الخوري يراقب الطُّلاب ويراقب سير الفيلم، وحين كانت هناك قُبلة أو عناق في سير الفيلم، بين بطل الفيلم وبطلته، كان الخوري يضع يده على عدسة جهاز البثِّ، كي لا يرى الطُّلاب “صور الزَّعرنة” هذه ويبدأ الطُّلاب بالتَّصفير والصُّراخ، “شو هذا يا ابونا”، “فرجينا يا أبونا” وحين يُضيئ الخوري القاعة، يصمت الجميع خوفًا من تعنيف الخوري لهم وضربهم بقضبان البلان الجافَّة!
(نتواصل، انتظروا وشكرًا)