حيفا في ذاكرة برهوم، كي لا تُنسى.. د. خالد تركي حيفا

(الحلقة الثَّالثة عشرة)

كان والدي من المرشَّحين لدراسة اللاهوت في دير المخلِّص، في لبنان، ومع ذلك فقد كانت شقاوته تلازمه دومًا، ويُحدِّثني:

في أحد أيَّامه المدرسيَّة، حين أراد وأترابه أن ينتهي الدَّوام كي يخرجوا للَّعب واللهو، حيث كانت لعبتهم المفضَّلة كباقي أبناء جيلهم، كرة القدم، صفَّر أحد تلاميذ الصَّفِّ، “صفرة الحلِّي” الأمر الذي أزعج المدرِّس، وطالبهم بمعرفة مصدر التَّصفير..

كان تلاميذ الصَّفِّ، قلوبهم متجامعة ومتجانسة ومجتمعة ومُلتمَّة في لُمَّة وحزمةٍ واحدة، وكانوا مع بعض كتلة واحدة، تحفظ أسرارها وتحافظ على بعضها البعض. إيَّاك والنَّميمة إيَّاك والوشاية، “ممنوع نفسِد ع بعض” فهذه ليست من شيم الرِّجال، “يا باطل”! عندما سأل المدرِّس عن “الجاني” قال له والدي: إنَّه صوت صفير أجير الفرن، يا استاذ! وهذا الأجير كان يعمل عند أبي محمَّد صاحب الفرن الأبيض، قرب كنيسة الكاثوليك.

كان أجير الفرن يجمع من بيوت الحيِّ أطباق العجين الخامر، لينقله للمَخبز على درَّاجته، لخبزه وإرجاعه إلى البيوت خبزًا محمَّرًا شهيًّا ساخنًا فوَّاح الرَّائحة عطرًا..

عندما لم يقتنع المدرِّس بقصَّتهم، رفع دعوته للمدير، حيث جمع الطُّلاب ليخطب بهم محذِّرًا، متوعِّدًا ومنذِرًا، حتَّى يأخذ منهم اعترافًا، لكنَّه خرج من تهديده ووعيده خالي الوِفاض، بكفَّي حُنيْن. فأصدر قراره الجائر بالعقاب الجماعيِّ، إذ أمر بتركيع جميع طلاب الصَّفِّ في ساحة المدرسة المُزفَّتة حديثاً يوميًّا وفي ساعة الدَّوام ولمدَّة أسبوعين، وعلى مرأى من باقي تلاميذ المدرسة. ليكونوا عبرةً لمن اعتبر، صحيح أنَّ العقاب كان قاسيًا، لكنَّه أعفاهم من الدراسة والتَّحضير اليوميِّ للوظائف البيتيَّة.

بعدها جاء مربِّي الصَّفِّ شافعًا لهم وطالبًا منهم أنْ يقدِّموا قربانًا، “تلميذًا مُذنِبًا” لكي

يُنهي الإشكال مع المدير، ويُنقذ المدير من هذه الورطة، “يُنزلُه، آمنًا، عن الشَّجرة التي اعتلاها” فكان للمربِّي ما طلب، ونالوا عفوًا شاملاً..

لكنَّ والدي وطلاب صفِّه لم ينسَوا العقاب المُرَّ، فقرَّروا جمع العِصِيِّ من جميع الصُّفوف وتكسيرها. فجمعوها وكسَّروها وفي الصَّباح كانت المَهمَّة منتهية، وبدأ التَّحقيق ليشمل جميع الصُّفوف، “يا مين شاف يا مين دري”، “يا مين سمع يا مين قشع”، “واللي بحب الله ويسوع يقولنا مين كسَّر العصي”، “مين شاف اللي كسَّر العصي” بدءًا من أعلى الصُّفوف إلى أن وصل إلى الواشي منَ الصَّفِّ التَّمهيدي، ولسوء حظِّه لم يدرِ الطِّفلُ خطورة فِعلته حين وقف أخوه البِكر فهد المنقَّش مع والدي ووليم عصفور، يعدُّون الخمسين ضربة على راحات أكُفِّهم، اللواتي كُنَّ منفرجات كالصَّليب، بدايةً، وكالصَّليب مصلوبين امام “الحاكم بيلاطس البُنطي”، وشيئًا فشيئًا انضممن وتقوَّسن مع انحناء الظَّهر كقوس النِّشَّاب، في قِمَّة تقوُّسه، قبل أن ينطلق منه إلى الفضاء لفريسته أو هدفه واحيانًا كانوا يتقوَّسون كقوس قزح حين يفرش ألوانه الزَّاهية الرَّائعة والمُنعِشة في قبَّة السَّماء جامعًا بتقوُّسِهِ بين طرفَي اليابسة، ليُكَوِّنَّ نصف دائرة أو يزيد، وحين كانوا يتقوَّسون كانت تنهال العصي بضرباتها القاسية لتلسع ظهورهم وتقصم  مؤخَّراتهم. وإذا كانت الضَّربة تهوي على أطراف الأصابع لم تُحْسَب، وإذا كان الصَّمت يُلازم حناجر المعاقَبين، كان يجد المعلِّم في هذا تحدِّيًا له وإهانة لشخصه، ويزداد في غِلِّه وحقده، ويزيد من قوَّة ضربه ويزداد عنفًا..

لقد طُرِدوا من المدرسة اسبوعًا كاملاً، ولحظِّهم كسبوا فترة إعفاء من الدِّراسة ومن الوظائف البيتيَّة وفترة معافاة لراحتيهم من العصي التي كوَت جلدَ اكفِّهم كَيًّا، واحمرَّت “وطزَّزت” كأقفية السَّعادين في الغابة.

لا شفقة ولا رحمة، لا سماح ولا تسامح بعكس تعاليم سيِّده!

لقد تضرَّعت جدَّتي إلى الله المُعين طالبةً منه أن “يكسِّر إيدين الأستاز” و”يئزَع شواربو” “ويُنَتِّف لحيته شعرة شعرة” ويجازيه على فعلته، وأن يصطفل فيه ربُّ العباد القهَّار إلى يوم الدِّين!

على المربِّي أن يُقاصِص قصاصًا تربويًّا مثقِّفًا، لا أن يكون وحشيًّا، مُذِلاً، مُهينًا، محقِّرًا، هدَّامًا وهادمًا لشخصيَّة الطَّالب، بعد أن يعتدي على أقدس مقدَّسات الطَّالب، على جسده وأمام أترابه..

“الله يكسِّر أيديه” و”يئزَع شواربو وينتِّف لحيتو”..

ما أجمل قوس قزح بألوانه الزَّهية الزَّاهية وما أقسى العقاب بأنواعه السَّاديَة القاسية..

ساور والدي وزملاؤه سؤال مهمٌّ، تُرى هل كان دم الحرادين سيُسعفهم، لو وضعوه ومسحوه ودهنوه على أكفِّهم وعلى مؤخَّراتهم ودُبرهم، وهل سيجعل دم الحرادين راحات أكفِّهم قاسية كجلد التِّمساح لا يشعرون، البتَّة، بألم العصي والضَّرب، لكن السُّؤال يبقى مفتوحًا، أين سيعثرون على الحرادين، لكنَّ والدي إنسان طيِّب الخُلق صبورًا لا يقوى على قتل روح حيَّة، فهو لا يستطيع اصطياد الحرادين وقتلها، وإن أمسك بها حتمًا سيُفرج عنها حالاً غيرة على حلاوة روحها، وقد كانت تربيته في بيته أن يحبَّ الأرض وما عليها وأن لا يؤذي الشَّجرَ ولا الحجرَ ولا البشرَ ولا الحشرة..

لقد كان فتية الحيِّ، “كثيرو الغلبة”، عندما تقع عينهم على حردون زاحفٍ كانوا يُنشدون له، ويتلون صلاته، لكي يُصلِّي هو أيضًا على روحه قبل أن يقع بأيديهم وقبل أن يأخذ الله وديعته، إذ كان دائم حركة الرَّأس، عموديَّة، إلى أعلى وإلى أسفل، ويُصلُّون عليه حتَّى يمسكوا به ليدهنوا جلودهم بدمه حين يُعاقبون على مشاغباتهم:

صلِّ صلاتك يا حردون، إمَّك ماتت في الطَّابون، صلِّ صلاتك يا حردون، وارمِ عباتك ع الطَّابون، ويعيدونها مرارًا وتكرارًا إلى أن يمسكوا به..

لكنَّ والدي لا يُحبُّ الحرادين لأنَّها متلوِّنة، وماكرة وخدَّاعة، في كلِّ بقعة يزحف عليها يتغيَّر لون جلدها بلون المنطقة التي تأتي إليها، وحين سألوا الحِرْذَوْن عن طبيعة عمله، أجاب: معاصري، فأجابوه: ما هو مبيِّن  على جِلدك، ويقول المثل الشَّعبيُّ: “لو الحرذون معاصري كان بيَّن على جلدو” يُقال هذا المثل لمن يدَّعي كاذبًا أنَّ كارَهُ في معصرة زيت، لأنَّه يمكنك أن تتعرَّف على عامل المعصرة من ملابسه، عندما تظهر عليها بُقع الزَّيت، الكبيرة منها والصَّغيرة، نياشين استحقاق على صدره، كما هي ملابس عامل البناء حيث تظهر عليها بقايا الإسمنت أو الطِّين أو ألوان الرَّشق أو الحدَّاد أو القصَّار أو المواسرجي إلى آخره..

لقد كان بإمكان الخوري أن يجمعهم على كرسي الاعتراف، ويتباحث معهم، ويتداول  أمور “الجناية”، ويعاقبهم على “خطاياهم” كما يفعل رجال الدِّين في قدَّاس الأحد، بجزاء الصَّلاة مرَّات عدَّة، فعل النَّدامة وقانون الإيمان والسَّلام عليك يا مريم وأبانا الذي في السَّموات، وكفى الله التَّلاميذ شرَّ العقاب ليكون تأديب الأب الفاضل الرَّئيف مثقِّفًا ومعلِّمًا للقادمات..

كم يكره والدي التَّلوُّنَ..

يقول الإمام عليُّ ابن أبي طالب كرَّم الله وجهه، وأخصَّه الله بالتَّكريم لأنَّه لم يسجد

البتَّة لصنم أو لتمثال، حتى عندما كان في رحم أمِّه، حيث كان يُصيبها آلام المخاض الذي يحول دون سجودها للأصنام:

ولا خير في ودِّ امرئٍ متلونٍ إذا الرِّيحُ مالت مالَ حيثُ تميلُ

جوادٌ إذا استغنيتَ عن أخذ ماله وعند احتمال الفقرِ عنك بخيلُ

فما أكثر الإخوانِ حين تَعدُّهم ولكنَّهم في النَّائبات قليلُ

لقد اصيب جدِّي برصاص الغدر والاحتلال مرَّتين، الأولى في “في ثورة السِّتَّة وثلاثين” في فخذه برصاصة قرب مبنى البلديَّة من قنَّاص عاينه من على سطح عمارة البُخاريِّين، شارع حسن شكري، حين كان راجلاً إلى مكان عمله، وذلك لإثارة الرُّعب والخوف بين أبناء حيفا العرب الآمنين، والثَّانية حين جُرِح جروحًا بالغة في انفجار عبوة ناسفة، في العام الف وتسعمائة وثمانية وثلاثين، حيث انفجرت بقربه حين كان في سوق المدينة الرَّئيسيِّ، الحسبة، الواقعة بين ساحة الجرينة، حيث الجامع الكبير أو جامع الجرينة،  وبين ساحة الخمرة (الحناطير)، حين رأى أنَّ أحدًا من عصابات صهيون قد رمى عليه وعلى إثنين من زملائه في العمل قنبلةً يدويَّةً، هرب جدِّي باتِّجاه آخر معاكسٍ لإتِّجاه رامي القنبلة بعيدًا عن مكان سقوطها، وصاح محذِّرًا زملاءه وطالبهم بالابتعاد والهرب من القنبلة إلا أنَّ الموت وجدهما بسرعة الصَّاعقة دون صاعق وسقطا دون ذنب أو إثم، بعد أن كانت إصابتهما بليغة جدًّا، لكنَّ نفرًا آخر من العصابة نفسها، رمى جدِّي برصاصة، أصابته في فخذه ولازم الفراش في المستشفى للعلاج وبقيت الرَّصاصة في فخذه وجزءًا من أعضاء جسمه وأصبح ذا عاهةٍ لازمته إلى ساعته وأدَّت إلى عجزه عن سدِّ رمق العائلة وهو في عزِّ عطائه وقمَّة تفانيه وتضحياته، حيث قتلَ وهنُه كلَّ ما في داخله من طاقة وارادة وعمل، إلا الأمل بقي حيًّا فيه، لذلك زرع في ذُرِّيَّته روحَه الطَّاهرة، وحالت حالته الجديدة دون استطاعته إعالة أهل بيته، وكان على لسانه دومًا الحديث الشَّريف: “اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ” وتمنَّى أن لا يقتله العوز والفقر لأنَّ الموت افضل منهما، الموت ولا المذلَّة، وأن لا يحتاج إلى مساعدة أحدٍ، وان لا يكون عالةً وعاهةً على أحدٍ..

(نتواصل، إنتظروا وشكرًا)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .