العصيان المدني المستعصي.. لماذا؟ أمير مخول


تتكرر المواقف والتصريحات الموجهة الى لجنة المتابعة العليا والمنادية بإعلان العصيان المدني وذلك ضمن توجّه تصعيدي للنضال النافد والفعال لحماية المجتمع الفلسطيني في الداخل ومواجهة الدولة المتورطة في منظومة الجريمة عن سابق إصرار وإلزامها بتغيير جذري في سياتها في هذا الصدد والقضاء على الجريمة المنظمة وبنيتها وإعادة الأمان الشخصي والجماعي للناس، وكما فعلت في السابق مع الجريمة المنظمة في البلدات والتجمعات اليهودية. كما وتهدف هذه النداءات كما كل المواقف القيادية والشعبية المعلنة بأن الدولة بطبيعتها كما كل الدول هي التي تملك القدرة على فرض سطوتها على منظومة الجريمة وتحرير الناس او المواطنين منها. بهذا المفهوم فإن النداءات المذكورة للدفع نحو العصيان تندرج في اطار الهدف الواحد المجمع عليه.
تأتي نداءات العصيان المدني في مرحلة راهنة من تراجع المد الجماهيري الكفاحي الواعي وأحد مسبباته هو سطوة الجريمة ووظيفتها التفكيكية والتفتيتية للمجتمع، وهذا تماما النقيض لأحد الشروط الأساسية لتوفير الظرف المؤاتي للعصيان المدني. الا ان التداول بالفكرة يحمل مؤشرات بوجود نوع من القناعات بضرورة تطوير الأدوات الكفاحية، وفيه من الدلالات بشأن المردود الضعيف قياسا بالمتوخى من الفعاليات الاحتجاجية ببعديها القطري والمحلي. وهي تأتي في ظل حكومة تختلف عن سابقتها بعامل مهم وهو انها حصلت على الغالبية البرلمانية على أساس برنامج مركباتها القائم على الكراهية للعرب الفلسطينيين، وشرعنة الاعتداءات الدموية عليهم والنظر اليهم كأعداء وجبهة حرب في صراع إسرائيلي متعدد الجبهات، وانها عدو استراتيجي ينبغي استخدام عقيدة الحرب الهجينة القائمة على القضاء على العدو من داخله قبل ان تبدأ الجولة القادمة من المواجهة. وهي حكومة قائمة على هدف سحق قضية فلسطين وعقيدة الحسم، في كل فلسطين اذ لا وجود للخط الأخطر الاحتلالي في مفاهيمها وسلوكها بالمقارنة مع اليمين الوسط. كما انطلقت هذه الأحزاب الحاكمة من مفهوم نزع الشرعية السياسية عن التمثيل السياسي للجماهير العربية لتنتقل الى نزع شرعية وجود هذا الجزء من الشعب الفلسطيني في وطنه وعلى ارضه. وعليه فمهما بدت منظومة الجريمة ذات سطوة وتهديد وجودي للمجتمع، فإنها تبقى في اطار الوظيفية العينية للدولة في ممارسة سياساتها ونحو تحقيق غاياتها.
لو قارنا بين منظومات الدولة الأمنية لوجدنا ان الشرطة مقارنة بالجيش والشاباك ومصلحة السجون والموساد، هي الاطار الأول الذي جرى تطويعه لصالح نوايا الوزير الفاشي العنصري المسؤول عنها – بن غفير. في المقابل فإن منظومة الإدارة المدنية الاحتلالية في الضفة الغربية وإدارة الاستيطان قد تم وضعها بالكامل تحت مسؤولية الوزير الفاشي العنصري الاخر سموتريتش، لتكون كل المسؤوليات الحكومية عن الفلسطينيين من جانبي ما يسمى “الخط الأخضر” في ايدي حزبي الصهيونية الدينية الفاشيين، وكلا الحزبين معنيّ عن وعي بالقضاء على اية كيانية فلسطينية.
في اعقاب هبة الكرامة 2021 بادر حزب بن غفير لأنشاء ميليشيات يهودية مسلحة ضد أهالي المدن الساحلية والنقب، لكن اللافت انه لم يجر تفعيل هذه الميليشيات بشكل واسع، خاصة وان منظومة الجريمة تفتك بالفلسطينيين اكثر، في حين تبقى المليشيات جاهزة للتحرك حيت يتطلب الواقع العنصري الفاشي.
معظم التسويغات لفكرة العصيان تأتي من باب تعطيل الحياة في الدولة باستخدام الوزن الشعبي للمجتمع الفلسطيني في الداخل والوزن النوعي لقطاعات أشغال اختصاصية تضاعف الوزن الاحتجاجي العام وتعطيل قدرة الدولة على الاستمرار في سياستها المتورطة في الجريمة.
من الأهمية بمكان تطوير الأساليب النضالية الفلسطينية، خاصة مع تطور مساحات جديدة للاحتجاج والتأثير ومنها فضاءات العالم الافتراضي ووسائل التواصل الاجتماعي التي زادت إمكانيات الترويج والدعاية السياسية بشكل هائل الا انها قلّصت مساحات القناعات والتفاعل السياسي بالمفهوم الحزبي والحركي وساهمت في إحداث تحولات عميقة تزامنت مع تراجع أداء الأحزاب والحركات السياسية، وفتحته اكثر بمفهوم الحراقات التي تكون في الغالب مؤقتة وتتمحور في مسألة عينية ولا تملك مشروعا سياسيا، وباتت الحاجة ملحّة للنمطين معا وليست المعادلة “إما أو”، ليشكل هذا التكامل بالأدوار دربا واعدا لتحقيق الغايات المرجوّة من الفعل الجماهيري.
تحمل النداءات بإعلان العصيان نوعا من عدم الثقة بأنماط الكفاح التقليدية التاريخية والتي بحد ذاتها أنجزت الكثير، لتشكل أيضا صوت احتجاج وعصيان على أساليب النضال ووتيرته ومضمونه، أي فيها من البعد الجماهيري الداخلي اكثر من فك العِقد القانوني القسري الذي لم يكن امام الجماهير العربية الفلسطينية من خيار بقاء في وطنها دون ذلك الشرط، وعليه فإن الحديث هو عن عقد قانوني قسري وليس عقدا اجتماعيا طوعيا. كما وهناك نزعة أخرى في أصوات داعية للعصيان وهي من باب الإحباط الشديد من إمكانيات النضال الاحتجاجي والمظاهرات ومدى جدواه، خاصة وأن النتائج لا يمكن رؤيتها على المدى القصير، في حين ان المؤسسة الحاكمة لا تبدي أي استعداد لأي تحوّل في سياستها التي لا تزال تحمي منظومة الجريمة اكثر من ضحاياها.
في تعريف العصيان المدني:
تحمل فكرة العصيان المدني اكثر من تعريف ودلالة في الادبيات، ويشهد التاريخ كمًّا كبيرا من أنماط العصيان المدني دون تسميتها بهذا الاسم، بل ان التعريف هو حديث العهد نسبيا ويعود الى الفكر السياسي الأمريكي المناهض للعبودية وحصريا الى ديفيد ثورو في منتصف القرن التاسع عشر، وقد حدثت إضافات عليه من قبل علماء اجتماع مثل يورغن هابرماس واخرين، وما أجمعت عليه التعريفات المختلفة يدور حول الفعل العام، وعمل سياسي واعٍ واسع النطاق ومنظم، غايته في أغلب الأحوال إحداث تغيير في القانون أو في سياسة الحكومة. ينطوي العصيان المدني على خرق واع ومتعمد للقانون ومستند الى مفهوم “العقد الاجتماعي” وما يتضمنه من مبادئ وقيم أساسية لها الأولوية مقابل الانصياع للقانون. كما أنه أعمال تشتمل في المقام الأول على وسائل للاحتجاج غير عنيفة. العصيان المدني على الصعيد الفردي موقف مبني على قيم رفض الظلم والخضوع للطغيان، وعلى الصعيد الجماعي هو تحرك سياسي يتسم بالوقوف الثابت والمنظم والعلني والمتواصل في وجه كل القوانين والسياسات القهرية للحقوق الأساسية للفرد والمجتمع.
ومن اشهر النماذج كان العصيان المدني في الهند بقيادة المهاتما غاندي ضد الاستعمار البريطاني، وفي الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كينغ وكذلك مظاهر عصيان ضد الحرب الامريكية في فيتنام.
الموقف من العصيان المدني ليس مبدئيا، لكن السؤال هل هو ممكن؟. لو نظرنا الى الامتناع عن دفع الضرائب، باعتقادي الامر غير ممكن بتاتا، والامر بنيوي فالضرائب تحسم من الاجر الشهري مباشرة من قبل المشغّل، وبالإضافة، لا تستطيع اية هيئة او أي اطار تحمل مسؤولية ماذا سيحصل لمن يقوم بذلك وتداعيات ذلك قانونيا. احدى الإشكاليات الجوهرية هي اننا نتعامل مع حقوقنا كفلسطينيين بصفتها حقوق جمعية، في حين تتعاطى الدولة بكل منظوماتها بما فيها القضائية بأنها فردية لا اكثر، والمسؤولية والتبعات القانونية فردية فقط. بينما فكرة اضراب متواصل لقطاعات مهنية مثل الأطباء الفلسطينيين العرب في المرافق الإسرائيلية هي أيضا غير ممكنة ما دامت غير منظمة قطاعيا ومهنيا. وحاليا لا توجد اطر نقابية قطاعية تلائم هذا المطلب. لكن من الأهمية بمكان باعتقادي التداول في هذه الفكرة، بينما الأطباء بطبيعة المهنة واخلاقياتها الملزمة لا يستطيعوا الامتناع عن تقديم العناية للمرضى. بينما هناك إمكانيات بينية وهي ما يطلق عليه “الاضراب الإيطالي” وهو التمارض جماعيا في يوم معين وبالتناوب في كل يوم مجموعة، وهذا ممكن فقط في اطار تنظيمات نقابية او شبه نقابية غير متوفرة فلا يوجد اتحاد أطباء عرب ولا اتحاد محامين ولا نقابة لسائقي الحافلات ولا في اية مهنة باستثناء جمعية أطباء الاسنان العرب شبه النقابية. آتي بهذه الأمثلة لتبيان ان العصيان إذا كان ممكنا أصلا، فهو بحاجة الى بنية عصيان وتمرّد، وعلى المستويات القُطرية والقطاعية والمحلية، ولو كانت هناك اية بنية حقيقية لحكم ذاتي او إدارة ذاتية ممأسسة لأمكن التفكير بالعصيان.
يقع العصيان المدني خارج حدود رد الفعل والاحتجاج المباشر وهو عمل مخطط للمدى البعيد. النموذج المحلي الأقرب الى العصيان المدني كان في العام 1976 في يوم الأرض، وهو الحدث المفصلي قد يكون الوحيد الذي أقيمت له بنية قامت على الوعي والتنظيم… اضراب جرى التمهيد والتحضير له ما يقارب العام… وأقيمت هيئات لجنة الدفاع عن الأراضي بإطارها القطري وانبثقت عنها اللجان المحلية في كل بلدة.. العمل النقابي العمال خاصة عمال البناء والذين شكلوا في حينه القطاع الاوسع الذي ممكن تنظيمه والسعي مسبقا لأقناع الجماهير الواسعة والسعي لتوفير الحماية للمتضررين لاحقا والاقتناع العام بالمخاطرة في هذا الصدد حتى وإن كانت غير مضمونة النتائج لكن مضمونة المساعي وبثقة عالية بالهيئة القيادية، وفعليا تعطلت موافق عمل كبرى في البلاد. لم يكن الهدف حينها عصيانا متواصلا لكن الاضراب الذي تمحور في التصدي لمصادرة الأراضي والتهويد، قد نجح آنذاك في إيقاف السياسة الرسمية ولو مؤقتا وعزز من القوة النوعية للفلسطينيين في الداخل وأدركت ذلك الدولة.
راهنا هناك القناعة بأنه اذا لم تتيقن الدولة من الوزن الكفاحي الاحتجاجي للجماهير العربية، وبالقدرة على تعطيل الحياة الإسرائيلية فلن تتحرك. وهذا ما تدركه الحركة السياسية ولجنة المتابعة والاطر المجتمعية المختلفة، وكانت مبادرات في اغلاق محاور سير ومواصلات كما حدث في مجد الكروم قبل ثلاثة أعوام وعلى مستوى قطري، وكما كانت المبادرة التي بدأت محلية في الفريديس وأغلقت محاور السير المركزية. وفي هذه الخطوات ومثلها العديد مواصفات جزئية من العصيان المدني والتحول من الظاهرات الاحتجاجية الى مبدأ التعطيل وذلك لمضاعفة الأثر.
فكرة العصيان منوطة بأن نكون اقوى ومنظمين، وليست استعاضة عن الضعف وحالة الوهن السياسي الجماهيري العام. بل من اهم شروطها ومقوماتها هو حالة النهضة الوطنية والوحدوية والثقة بين الجماهير والقيادات، والوعي بأنه ما من طريق للتحرر من منظومة الجريمة ومن جريمة الدولة المتمثلة بسياساتها، سوى مواجهتها حتى اسقاطها. بتقديري ان الظرف الراهن ليس مؤاتيا لفكرة “العصيان المدني” لا من حيث البنية التنظيمية ولا السياسية ولا الاجتماعية المؤاتية، وقد تكون الأولوية هي اكثر تواضعا واكثر اثرا للمدى البعيد وهي نمط العمل التراكمي المتواصل والمستدام وتوفير بنية تتيح خيارات كفاحية اكثر اثرا مبنية على الكيانية ومبدأ الإدارة المجتمعية والذاتية.
إن دمغ إسرائيل بالمسؤولية عن منظومة الجريمة والقتل اليومي من على منصة الأمم المتحدة ومن قبل الرئيس الفلسطيني محمود عباس هو فرصة هامة للغاية من اجل الانطلاق في حملة عربية ودولية في هذا الصدد، وهو قائم على جدول اعمال لجنة المتابعة وهي الاطار الكياني المنوط به مثل هذه المهمة. لكن الساحة الأساسية لمواجهة سياسات الدولة هي على ارض الواقع وتنبع من قوة الناس وكتلتها البشرية.
ليست تسمية الفعل السياسي بالعصيان بالأمر المهم، بل ما تقوم به الجماهير الفلسطينية في الداخل في التصدي المنظم والوحدوي والواعي لمنظومة الجريمة ولارتباطها بسياسات الدولة التي هي عنوان المواجهة. انها فرصة كي تنطلق مبادرات لتنظيم المجتمع وشرائحه المختلفة على أسس اتحادية ونقابية محلية وقطرية تتيح مستقبلا اعلان العصيان، وابتكار أنماط نضال ملائمة لمستوى التحديات، وفي مقدمة ذلك ادراك جماهير الشعب بأنها تستعيد الأمل والقدرة على التغيير وتعطيل منظومة القهر.
(نشر في موقع فارءه معاي 1/10/2023)

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .