الروائية فاطمة ذياب ، رسولة الاعماق التي تكتب معاناتها واحلامها ..!!

 

شاكر فريد حسن

فاطمة ذياب قاصة وروائية  تتميز بالشجاعة والجرأة الكتابية ، وقامة ابداعية تحتل مكانة وموقعاً متقدماً على خريطة الأدب الروائي والقصصي في الداخل الفلسطيني ، عرفتها منذ ان صدرت روايتها الأولى ” رحلة في قطار الماضي ” التي تصور الواقع وتقدم صورة حقيقية لحياة المرأة العربية ، في ظل مجتمع تقليدي محافظ لا يرى فيها سوى حيوان جنسي ، وللفراش والمطبخ ، والتي اثارت في حينه عاصفة من ردود الفعل المتباينة ، فبوركت من قبل المثقفين ورجالات الادب والثقافة والابداع ، وهوجمت من المجتمع المحافظ ، وكان والدها مع من هاجم وصرخ وتوعد ، اذ ان مضمون الرواية لم يكن مألوفاً ولا حتى في أسوأ احلام والدها المختار الذي قال :” هذا ليس أدباً ، بل قلة أدب” ، ووصل الأمر الى حد من طالب بإحراق الرواية ومعاقبة صاحبتها .

وانقطعت فاطمة ذياب حوالي عقد من الزمن عن الكتابة ، ولكنها عادت الى القلم والكتابة ، وكما قالت ما احلى الرجوع اليه قلمي ومداد حبره .

رأت فاطمة ذياب نور الحياة في طمرة الجليلية ، وعن ولادتها ونفسها تقول في احد المقابلات التي اجريت معها : ” في قرية لا تشبه القرى ، وفصل لا يشابه الفصول ، ويوم لا يشبه الايام ٢٧ / ٩/ ١٩٥١، كانت القلوب تلهث بالدعاء ( يا ربي صبي) ارادوني اخاً لوحيدهم بعد ثلاث من الاناث ، وجئت اختاً ، وليست كأية اخت ، وظل رحم امي ينزف اربعين يوماً حزناً وتأثراً ، وحرفتي في اللغة تعلن ميلادي كما اراد الله لا كما ارادوا ، ومن ذلك اليوم بدأت مسيرة الايام والعمر في محطات نفقية لولبية لها اول من غير آخر ، وعام ١٩٥٤، يأتي الفرج وتعم الفرحة وتقام الحفلة الكبرى والمهاهاة ، يا ناس صلوا عالنبي / مرة المختار جابت صبي.

وتتابع فاطمة ذياب حديثها قائلة : ” كانت مدينة عكا بأزقتها واسوارها وناسها ملهاة لي ومدرسة . تتلمذت مع الغوارنة الوان اخرى من العنترية والشقاوة كالاعتداء على ممتلكات الغير ، السرقة التحدي والرقص على انغام الطبلة وهز البطن ، وكل ما يحظر وما لا يحظر ببال احد ، وقد جسدت في رواية ” الخيط والطزيز ” بعضاً من ذلك الماضي المتجذر باعماقي ، ففي بيت ملاصق لبيت ابي كانت تسكن جدتي زليخة ، امرأة غورانية من غوارنة عكا ، كانت تساعد امي في البيت والحقل مقابل لقمة العيش ، وفي نهاية كل اسبوع وفي العطل المدرسية ، كانت تصحبني ليرتاح اهلي من شقاوتي ، وهكذا تكونت لي علاقات مع ابناء جلدتي ، فأخذت عنهم العناد والتحدي والجرأة ، وعندما كنت اعود الى القرية استعرض امام الحضور من ديوان الوالد او ركن النساء الواناً من الفنون العكاوية من رقص وغناء وهز بطن وتهريج وتقليد ،تتبعني العقول والقلوب الضاحكة ، وتضج في رأسي ” حرام يا رب لو كانت صبي ” ؟! ولم تكن وكانت .

عملت فاطمة ذياب في الصحافة في جريدة ” الصنارة ” الاسبوعية  العام ١٩٩٤بكتابة زاوية اسبوعية تحت عنوان ” مذكرات زوجة ” استبدلتها بعد ذلك ( بحروف ليلكية واخرى) ، ثم استدعيت للعمل المكتبي في الجريدة ، وبدأت كعضو من هيئة التحرير للإعداد لمجلة ( ليلك ) الصادرة عن مؤسسة الصنارة ، الى جانب كتابتها الكثير من المقالات والمقابلات والاهتمامات الصحفية ، التي تميزت بالجرأة والشجاعة ، ثم كانت لها مساهمات في صحيفتي ” بانوراما” و” فصل المقال ” .

استطاعت فاطمة ذياب ان تشق طريقها بقامة عالية ، وبخطوات ثابتة وراسخة في عالم الأدب ، وحين نقرأ رواياتها نتفاعل مع كل صفحاتها ، مع احداثها وتفاصيلها الصغيرة والكبيرة ، وتطور الاحداث فيها .

انها في طليعة النخبة الممتازة من المبدعات الفلسطينيات في مجال القص الروائي في بلادنا  ، ووجه ادبي متألق ومعبر وجميل ، وقد لفتت الانظار بأسلوبها الشائق الممتع ، وفكرها المتحرر المستنير ، ونظرتها الواضحة للأشياء والامور ، وبسعة افقها والمامها القوي بشتى نواحي الادب والمعرفة ووفرة الانتاج والعطاء والابداع القصصي والروائي والادبي ، فكأن ينابيعها الثرة التي لا تمل من العطاء والتدفق ، وخواطرها الشعرية والنثرية والادبية لا تسأم من التحليق في الافاق البعيدة ، والغوص في اعماق المجتمع واعماق الحياة تستخرج منها الفرائد واللآلئ ، وهي احدى اركان القص الروائي الابداعي المتأصل في ادبنا وحركتنا الثقافية المحلية ، لم تهمل ناحية من النواحي الاجتماعية دون ان تعالجها ، وانغمست اعمالها القصصية والروائية في واقعنا المعيش ، ونجحت بأسلوبها السردي والحواري السهل ان تدخل الافكار في القلوب من اقصر الطرق .

وهي تعتبر ان الاديب والمبدع الحق والمثمر ان يكون وليد عصره وابن بيئته ، وبغير ذلك يصبح الادب او الفن شيئاً ضعيف الاثر ضئيل القدر بعيداً عن قضايا العصر منعزلاً عن مصائر البشر ، فالأدب والفن يجب ان يتناولا شؤون البيتة والمكان والزمن ، وقضايا الناس والمجتمع قبل كل شيء.

وتعتبر السهولة في اسلوب فاطمة ذياب ميزة ادبية لها شأنها ، وتشف عما وراءها من سمو الموهبة ، وعمق الفكرة ، ورهافة الحس ، وتوثب الخيال ، وبراعة في الاداء ، وسهولة العبارة من المعنى النفيس الذي ترمي اليه ، وذلك تجربة للحياة وابنائها ، من امرأة مجربة عاشت وعايشت القهر والظلم المجتمعي وعانت الكثير ، واختبرت الناس في شتى مظاهرهم ، وتقلبهم بين السعادة والشقاء والاحباط والرجاء ، وتزودت بذلك كله لغاية انسانية سامية هي تركيز مفهوم الحقيقة التي تؤمن بها ، وهي : الله ، الانسانية ، المحبة ، الخير ، الجمال ، والقيم العظيمة الراقية .

ترى فاطمة ذياب ان المرأة المتحررة هي ذات الفكر الخاص ، التي تواجه حياتها بالطريقة التي تراها صحيحة من خلال نظراتها الخاصة ، والتي تعمل من اجل مبادئها التي تؤمن بها حتى لو كانت مخالفة للقاموس العام ولمفهوم المجتمع السائد ، لان المجتمع قيمة تتغير وتطور ، والمرأة المتحررة لا تنظر حتى يقوم الآخرون بتغيير مفاهيم المجتمع الخاطئة نيابة عنها ، فهي تمتلك الشجاعة الكافية لتقوم بذلك التغيير بنفسها .

ومن الممكن جداً أن تكون المرأة متحررة وفي الوقت نفسه محافظة على القيم والتقاليد التي ترى انها صحيحة واصيلة .

وفي كتاباتها لا تفكر فاطمة ذياب اذا كان ما تكتبه متفقاً مع مفاهيم المجتمع ام لا ، ولكن هنالك قيماً ثابتة ، وقيماً قابلة للتعديل مثل حق كل فتاة في اختيار شريك حياتها واختيار دراستها ، ونوع عملها ، ولكن ذلك يتطلب كثيراً من الوعي والنضج العاطفي والعقلي للفتاة ، وهي تعتقد اننا في مجتمعاتنا الشرقية بحاجة ملحة كي ننظر للمرأة باحترام اكثر ، فكلما اعطيناها الثقة ورفعنا الوصاية عنها ازداد عطاؤها لنا وبهرتنا اكثر .

فالمرأة الشرقية العصرية تبحث عن المشاركة ، اما الوصاية فيجب ان تنتهي . لا بجب ان يكون للمرأة مكان فسيح في عالم الكتابة والممارسة العملية لمختلف مجالات الحياة .

وفي كل رواياتها تقدم فاطمة ذياب سرداً انثوياً وحواراً ايقاعياً مركزياً مع محافظتها على تسلسل الاحداث ، فيما تتداخل وتتشابك التداعيات في مونولوجات ذاتية ما بين الماضي والحاضر والمستقبل .

وبلغتها السلسة الجميلة المنسابة الاخاذة ، تأخذنا فاطمة في رحلة عشق في عالمها القصصي والروائي ، الزاخر بالهم الانساني والهموم الذاتية ، كونها امرأة مستلبة ومظلومة تعيش في مجتمع يمارس القهر ضد المرأة ويكبت مشاعرها ، وتقدم لنا صورة لنموذج امرأة في قمة معاناتها وهمومها وخصوصياتها الذاتية .

فاطمة ذياب تنشد المحبة والصفاء ، والامن والسلامة للناس اجمعين ، وتلك رسالة الادب ، ان لم تطلب الخير وتكافح الشر ، وتقف في معبد الحق والجمال ، فتتلو الآيات والروائع وتبصر ما لم يبصره الناس فتحاول الارتفاع والسمو بهم لمستوى الكريم . انها تؤمن بحرية الانسان المطلقة الشاملة اينما كان وكيفما اتجه ، وطلبتها للمرأة ، التي علتها التقاليد فجعلت منها دمية تعبث فيها الايدي ، وسلعة تباع وتشترى ، وللكلمة ارادت لها ان تنطلق صادقة مخلصة من قلوب اصحابها فلا تسجد على الاعتاب ، وتدعو لتعفير الجباه وتجوز بالبيان غايته الاساسية النبيلة ، وهي التعبير الصادق ، والسير بموكب الحياة للغاية المثلى ، التي تبني ولا تهدم ، وترفع ولا تضع ، وللدين تريد له ان يكون الامر بالمعروف ، الناهي عن المنكر ، الصلة التي تربط المجتمع وتبشره للأهداف السامية ، بعيداً عن الاستغلال والاضطهاد والمفاخرة ، والمباهاة لا يكون وسيلة لنفوذ الرؤساء ومتاجريهم ولا سلاحاً يستعمله من يشاء للكسب والتجارة ، يجمع ولا يفرق ، فالخلق عيال الله واحبهم اليه انفعهم لعياله .

تتميز فاطمة ذياب بصفاء الذهن ، وبهاء الديباجة ، وعمق الفكرة ، والبحث عن الجواهر المتألقة في النفس البشرية ، وهذا الاسلوب لا يجيده غير الموهوبين الذين يحملون رسالة روحية يؤمنون بها ، وتبرز من خلال كتاباتهم ، واي توفيق وراء هذا ، تطمح له موهبة ابداعية تعمل لخير الانسان وفلاحه .

فاطمة ذياب ترقب وتتأمل ، وتصيح سمعاً للنداء المجهول فيتملكها الشوق والحنين ، لم تفرض رأياً ، وانما تتساءل وتفكر وتقف امام الطبيعة واسرارها فترتل صلاتها بصدق وخشوع ، تحمل كتابها بيمينها وتقول لك هذا وحده هو الحق قصارى ما لديه من ظنون وافكار ، انها تأتي بأفكار واضحة ومحددة باقية مع الزمن ولا تتغير ، وهي ليست مقاييس وموازين ولكنها فكر صانب ، ونظرة شديدة ، وعاطفة صحيحة ، وتعري الحياة من المغلفات وأردية الوهم والخيال .

فاطمة ذياب الانسانة والروائية والقاصة والشاعرة المبدعة كما يقول الاديب رشدي الماضي : ” غيمة مثل اللغة ، تمتلئ بالحزن والفرح ، بالحب في اعمق معانيه، بيمر النحل الى جذع شجرة واقفة ، كما السراج من النهر الى البحر ، فاطمة ايتها النسمة التي تهب في مدينة الريح بسمة ، انا لا اريدك شجرة وحيدة ، فلتظل امام الحرف تغتسلين بالماء الذي يتدفق ، قدماك الريح ، وجسدك الاثر ، فاطمتي ، انت اعلنت الحب في الناس ، وصارعت شعرة للزمن وانتصرت “.

فاطمة ذياب غواصة ماهرة في صميم واقعنا وحياتنا الاجتماعية ،،تصورها بكل تفاصيلها وبكل دقة ، وتسبح في عمق الناس وتعري رياءهم وزيفهم وتفاقهم ، وترسل اشعتها الذهبية ، وتوجه الضوء الهادئ الى مختلف تفاعلات وتداعيات المرحلة ، نحو المستقبل المشرق الافضل ، بتأسيس وارساء دعائم المجتمع التحرري المدني الحضاري الذي يتسع لكل الافكار والاختلافات والمعتقدات الفكرية والمذاهب العقائذية ، وهي تنحاز للإنسان وتنتصر للمرأة ، وتتحيز للصدق الفني الابداعي ، ولرسالة الادب رالفكر الانساني الحر ، وتنتمي لمعسكر جيوش الناس البسطاء اصحاب القلوب الطاهرة الصافية الطيبة النبيلة .

فكل التقدير لك مبدعتنا الروائية الراقية فاطمة ذياب ، يا من تتحسسين آلام البشر وتكتبين معاناتهم واوجاعهم وعذاباتهم اليومية ، وتتفاعلين مع قضية المرأة وتسجلين همومها ، وتطرحين قضايا مجتمعك الانسانية . دام عطاؤك وابداعك وسطوعك الطاغي في المشهد الثقافي القصصي والروائي الفلسطيني في هذه الديار .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .