البوْحُ الجنسيُّ الرّمزيُّ الاستعاريُّ في مَجموعةِ “أُدَمْوِزُكِ وَتَتَعَشْتَرِينَ”! بقلم: د. منير توما

 

לכידה

مِن اللّافتِ، أنّهُ حينما نتناوَلُ قراءةَ ودراسةَ المَجموعةِ الشّعريّةِ “أُدَمْوِزُكِ وتتعشتَرين” لآمال عوّاد رضوان، نجدُ فرادةً في العنوان، حيثُ يَستعصي إدراكُ مَعناهُ إلى حدٍّ ما على قارئٍ عاديٍّ غيرِ مُطَّـلعٍ على الأساطيرِ الشّرقيّةِ، أو ليستْ لديهِ خلفيّةٌ ميثولوجيّةٌ، لا سيّما وأنّ شاعرتَنا في هذهِ المجموعةِ قد صاغتْ فِعليْن للعنوانِ بصيغةِ المُضارع، الفِعلُ الأوّلُ بضميرِ المُتكلّم على وزن الرّباعيّ المُجرّدِ فَعْلَلَ يُفَعْلِلُ، واشتقّتْهُ مِن اسمِ الإلهِ السّومريِّ دُموزي(Dumuzi) إلهِ الخصب، القطعان، الحنطة وإلهِ العالم السّفليّ.

أمّا الفِعلُ الثاني في العنوان فقد جاءَ بضميرِ المُخاطبِ على وزنِ الرّباعيّ المَزيدِ بحرفِ تَفعْلَلَ يَتَفعْلَلُ، واشتقّتْهُ مِن اسْمِ الإلهةِ الأكّديّةِ عشتار، إلهةِ الخصب، الصّيدِ، الحُبِّ والحرب، وهي أخت الإله دُموزي (ويُطلق عليهِ الإله تمّوز).

وفي سِياقِ حديثِنا عن المَجموعةِ الشّعريّةِ التي نحنُ بصددِها، سيتمحورُ الموضوعُ حولَ ثيمةِ الخصبِ والحُبِّ، وهو ما تَتداولُهُ الشّاعرة آمال عوّاد رضوان في قصائدِ المجموعةِ برُمّتِها، وكأنّي بها تأتي بحبيبَيْنِ عاشقيْنِ، ليَتماهَيا معَ إلهِ الخصب دُموزي وإلهةِ الحُبِّ والخصبِ عشتار، حيثُ يُشيرُ إلى ذلك العنوانِ الّذي أطلقتْهُ شاعرتُنا على مجموعتِها هذه، باتّخاذِها الفِعل الّذي صاغتْهُ “أُدَمْوِزُكِ” ليَعني؛ أجعلُكِ تنتمينَ بكيانِكِ وذاتِكِ إلى دُموزي حُبًّا وعِشقًا وخِصبًا جنسيًّا، بينما صِياغتُها للفِعل “تتعشتَرين” تعني، أنّ هذهِ الأنثى تَستجيبُ لإغراءِ الرّجُلِ العاشِقِ، جاعلًا منها شبيهةً بحُبِّ وعشقِ وخصبِ الإلههِ عشتار، أو فينوس في الميثولوجيات الأخرى.

وممّا يَسترعي انتباهَ القارئِ لقصائدِ الكتابِ، أنَّ المُتكلّمَ في هذهِ القصائدِ هو الرّجُلُ العاشقُ المُحِبُّ لمعشوقتِهِ الأنثى الّتي يُخاطبُها، وأنَّ طغيانَ أوْصافِهِ الحِسّيّةِ والجنسيّةِ يَعكسُ روحَ التّعبيرِ المُتوهِّجِ، والمُفعَمِ بالحُرّيّةِ الذهنيّةِ والعاطفيّةِ لدى شاعرتِنا، وقد لا نكونُ مُغالينَ إذا قلنا، إنَّ قصائدَ المَجموعةِ، خصوصًا النصف الأوّلَ مِنَ المجموعةِ، تتّسِمُ بإيرادِ رموزٍ وإيحاءاتٍ جنسيّةٍ واضحةِ المَعالمِ ومَلموسةِ الأجواءِ، عابقةٍ بالاستعاراتِ المُوحيةِ بالعلاقةِ الجنسيّةِ المُباشِرةِ، وبمعنى أكثرَ تحديدًا، بالعمليّةِ الجنسيّةِ بينَ الحبيبيْنِ أو الزوْجيْنِ، وذلك مِن خلالِ التّرميزِ المَشحونِ بالقرائنِ الدّالّةِ على هذهِ المَعاني، ففي قصيدة “يَابسَةٌ.. سَماواتي” (ص9- 10) نقرأ النّصَّ التّالي:

رُحْمَاكِ .. أَدْخِلِينِي غَيْمَةً شَهِيَّةً

وَبِلَمَسَاتِكِ الْمُضْرَمَةِ بِالرَّغْبَةِ

أَمْطِرِينِي .. وَلْيَحْمِلِ النَّاسُ الْمِظَلَّاتِ

فَلَا نَظَلُّ مُبَلَّلَيْنِ

عَلَى نَاصِيَةِ رِيحٍ .. بِلَا مَصَابِيح!

سَأَجْعَلُ الْغَيْمَةَ

حُـــــبْــــــــــلَــــــــــــــــى .. بِشُــــــمُـــــوخِـــــكِ

أَحْرُسُهَا .. أَنَا رَاعِيهَا

وسَاعَةَ الْوِلَادَةِ .. أَهُشُّ عَلَيْهَا .. بِعُكَّازِي

وَبِلَا آلَامٍ .. يَأْتِيهَا الْمَخَاضُ يَسِيرًا

كَرِيحٍ .. تَنْثُرِينَ الشَّهْوَةَ هَسيسَ نَشْوَةٍ

في أَعْــمَــاقِــي

وَقَدُّكِ .. يَجْلِبُ لِيَ الْمَطَرَ

مِنْ كُلِّ أُفُقٍ فَجٍّ!

وتضيفُ شاعرتُنا في القصيدةِ نفسِها (ص12) قائلةً على لسانِ الرّجُلِ العاشقِ المُحِبّ:

فِي عَبِيرِ نَهْدَيْكِ .. أَسُووووووحُ

فيُمْطِرَانِنِي شَوْقًا .. يَتَّقِدُنِي

وَأَذْرِفُكِ .. عِطْرًا مُتَفَرِّدًا

***

تَـسْـجِـنِـيـنَـنِـي .. بِمَفَاتِنِكِ

تَـنْـسِـجِـيـنَـنِـي .. مِنْ لَدُنِ رُوحِكِ

فأَطْفُوَ عَدْوَ ظَبْيٍ .. إلَى مَقَامِ الْهُيَامِ

وأُجِيدُ طُقُوسَ هُطُولِي

عَلَى أَجِيجِكِ الثّائِرِ!

إنَّ مِن قرائنِ الفِعلِ الجنسيِّ بينَ العاشقين هي الكلمات: “غيمة شهيّة”، “المُضرَمة بالرّغبة”، “أمْطِريني”، “عكّازي”، “هسيسَ نشوةٍ في أعماقي”، “يَجلبُ لي المطرَ”، “الثائر”، فهذهِ الكلماتُ جميعُها يَعتري بعضُها الوضوحُ، والبعضُ الآخرُ يَحملُ في ثناياهُ مَعاني رمزيّةً كالغيمةِ مثلًا، حيثُ أنَّ الإخصابَ مِن رموزِها، وهو الجانبُ الشّهوانيُّ المُصاحِبُ لها، وواردٌ في الميثولوجيا اليونانيّةِ، لا سيّما إذا كانتِ الغيمةُ مصحوبةً بالمطرِ، كما هو الحالُ في هذهِ القصيدة.

بالإضافةِ إلى ذلك، فإنَّ كلمةَ “عكازي” في سِياقِ القصيدةِ تحملُ رمزًا قضيبيًّا (phallic symbol)، بكلِّ المَعاني والدّلالاتِ المُصاحِبةِ في السّياقِ التي تُؤطّرُ للعمليّةِ الجنسيّةِ، كالكلمات: “الهطول”، “الأجيج الثائر”، “هسيس النشوة”، حيثُ أنّ كلَّ هذهِ تَقودُنا إلى تداعياتِ بلوغ ذروةِ أو قمّةِ النّشوةِ الجنسيّةِ (orgasm)، لدى العاشقينَ في أوْج العملِ الجنسيّ.

وإذا ما سَبَرْنا غوْرَ القصائدِ، لوَجدْنا أنّ شاعرتَنا يتكرّرُ في كتابِها كلمة “الغيم”، ممّا يُبيّنُ أنَّ رمزيّةَ “الغيمة” كما أشرنا، مَقرونٌ بالعنصرِ الشّهوانيّ، كما نرى في مَقطع مِن قصيدة “غاباتي تعُجُّ بالنمور” (ص15)، حيثُ يَبدو الدّوْرُ الجنسيُّ الحاسمُ والفعّالُ للأنثى هو المُؤثّرُ في نفسيّةِ الرّجُلِ، وها نحنُ نسمعُ الرّجُلَ يُخاطبُ أنثاهُ ومَعشوقتَهُ:

أَيَا فَاتِنَتِي

أَنَا مَنْ خُلِقْتُ.. لِأَحْتَرِقَ بِكِ

احْتَرَفْتُ الاتِّكَاءَ

عَلَى غَيْمِكِ

على لهْفَتِكِ .. على جُنُونِكِ

وَقَدْ خَضَعْتُ .. لِحُلُمِي طَوِيلًا

فِي انْتِظَارِكِ!

إنَّ شاعرتَنا تُقدّمُ الصّورَ الحافلةَ بالمَعاني الحِسّيّةِ، لِتقولَ لنا أنّها تقتحمُ أبوابًا يَدخلُ في نِطاقِها المُحرّمات، فهي تُريدُ أنْ تُشيرَ إلى أنّنا نقفُ على أرضٍ جائعةٍ جنسيًّا، والرّجُلُ فيها جائعٌ جنسيًّا أكثرَ مِنَ المرأةِ، وأنانيٌّ ونرجسيٌّ أكثرَ منها، فالجنسُ كما تُوحي لنا الشاعرةُ، هو هذا الهاجسُ الدّائمُ الّذي يُسيطرُ على أفكارنا وأذهانِنا ليلًا نهارًا، ولا يَتركُنا نُفكّرُ أو نكتبُ بشكلٍ طبيعيٍّ، فهو يَستحوذُ على عقلِنا وعقيلِنا وأحاسيسِنا وعواطفِنا، كما يتّضحُ مِن النّصّ التالي مِن قصيدةِ “رِضابي مُشَمَّعٌ.. بزقزقةِ طيورِكِ” (29):

دَعِينِي أُمَرِّرُ شَفَتَيْكِ .. عَلَى شَفَتَيَّ

لِأَنْذَهِلَ اتِّقَادًا

لَا تُدْخِلِينِي .. فِي طُقُوسِ الاعْتِرَافِ

حَيْثُ تَبُثِّينَ الرَّمِيمَ.. بِنَارِ الْحَيَاةِ!

بَعْثِرِي  شِـــ فَـــ ا هِـــ ي

عَلَى ضِفَافٍ .. تَلْتَهِبُ بِنبوغِ الْقُبَلِ!

آااهٍ لَوْ تَعْلَمِينَ

كَمْ يَشُوقُنِي يَنْبُوعُ قُبَلِكِ

اِسْـقِــنِـيـهَـا.. اِرْوِنِـيـهَـا

فَـقَوَارِيرُ رِضَابِي

مَا انْفَكَّتْ تَتَــشَــمَّــعُ

بِــزَقْـــزَقَــةِ طُــيُــورِكِ

لَا يُوقِظُنِي

إِلَّا هَدِيلُ حَمَائِمِك!

تُبيّنُ لنا شاعرتُنا آمال عوّاد رضوان في قصيدةِ “مُشتَهاتي” (ص39) نموذجًا، للشّابِ أو الرّجُلِ الّذي يَحتفلُ بكلِّ شيءٍ مِن فتاتِهِ أو مَعشوقتِهِ، ويَكسو كلَّ ما يعودُ إليها صورًا جنسيّةً بديعةً مِن خيالِهِ، قد لا يكونُ لها ذرّة مِن الواقع، فيُضفي على فتاتِهِ حُلّةً مِن شعورِهِ الخصبِ. أين منها حقيقتُها، وشاعرتُنا على لسانِ الشّابِ أو الرّجُلِ، على هذا النّمطِ تأخذُ للرّجُلِ “شيئًا” مِن فتاتِهِ، كانَ يَجدرُ بهِ أنْ يَراهُ كما هو في حقيقتِهِ العاريةِ، غيرَ أنَّ شعورَهُ يَأبى إلّا التّدخُّلَ، مُلوِّنًا هذا الشيءَ على هواهُ، ومُتنقِّلًا بهِ مِن لونٍ إلى آخرَ بلحظةٍ، ليُصيبَهُ مِن ذلكَ تعويضٌ جزئيٌّ، وهو التّعويضُ السّيكولوجيُّ (Psychological  Compensation ) الّذي يَسُدُّ جزئيًّا فراغًا أحدَثَهُ الكبْتُ والحرمانُ، وفي هذا ما يلي من هذهِ القصيدة:

وَلَمَّا يَزَلْ طَعْمُ نَهْدَيْكِ

عَلَى لِسَانِي .. مُذْ كُنْتُ رَضِيعَكِ

وَلَمَّا أَزَلْ.. أَفْتَقِدُ بَيَاضَ حَلِيبٍ

يَدُرُّ شَبَقًا عَلَى شِفَاهِي!

مَا أَفُلَتِ اللَّذَّةُ .. فِي رَعْشَتِهَا

وَمَا اكْتَنَزَ ارْتِوَاؤُهَا.. إِلَّا بِتَعَطُّشِكِ الصَّامِتِ

إنَّ الشابَّ أو الرّجُلَ العاشقَ الّذي تتغنّى بلسانِهِ شاعرتُنا آمال عوّاد رضوان، يَجري وراءَ المتعةِ الّتي يَندفعُ إليها اندفاعًا مُستميتًا في قصائدِ المجموعة، ويَندفعُ وراءَ النّرجسيّةِ الّتي عملتْ على استيعابِ الجنسِ استيعابًا كاملًا وشاملًا، في شتّى مَجالاتِهِ وصُورِهِ، وفي قصيدةِ “خَبِّئِيني.. تحتَ قَمِيصِكِ الْمُعَطَّر” (ص134–135)، نَلمحُ تلكَ النّزعةَ الوجوديّةَ المُتمثّلةَ في خطابِ الشّابِّ أو الرّجل الّذي تتكلّمُ شاعرتُنا بلسانِهِ، حيثُ يَنطلقُ المُتكلِّمُ انطلاقَ صراحةٍ طفوليّةٍ وصِدقٍ شموليٍّ، ونَلمسُ روحَ طفولةٍ مَشوبةٍ بالشّهوةِ والجنس، وقد جاءَ في القصيدةِ المذكورةِ بهذا الشأن:

آهٍ أَيَّتُهَا الْهَارِبَةُ

أَنَا دُونَكِ “لَا هَارِبَ لِي وَلَا قَارِبَ”

فَلَا تَتَمَلَّصِي مِنْ مَرافِئِ اسْتِجْمَامِي

بَلْ.. أَرْفِئِي سَفِينَتَكِ فِي مَرْسَايَ

لِأَرْفَأَ قَلْبِي مِنْ جِرَاحِكِ!

لَا تَتَنَصَّلِي مِنْ دِفْءِ جَسَدِي

بَلْ رَفِّئِيني .. بِوِئَامِكِ وَالْهَنَاءِ!

أُرُيدُكِ.. أُنْثًى مُشْبَعَةً بِي

تَهْذِي في مَجَاهِلِ الدِّفْءِ

بِحَرَارَةِ ذِرَاعَيَّ

أرُيدُكِ.. امْرَأةً لَا تتَحَسَّـرُ

عَلى ضَيَاعِ شَغَفِ الصَّبَاحِ!

وأخيرًا وليسَ آخِرًا، يُمكنُ القولُ بأنَّ الشّاعرةَ آمال عوّاد رضوان قد تَبنَّتْ في هذهِ المَجموعةِ الشّعريّةِ مَوْقفًا جريئًا، يَتَّصفُ بتَحَدٍّ وإقدامٍ في الانطلاقِ نحوَ حُرّيّةِ الكلمةِ، دونَ التّقيُّدِ بأغلالِ المُحرَّماتِ الأدبيّةِ الفكريّةِ (taboos)، فعبَّرتْ في قصائدِ كتابِها هذا عن روحٍ تَحرُّريّةٍ تَعكسُ علاقةَ الحُبِّ والعِشقِ المَكشوفِ بينَ الرّجُلِ والمرأةِ، كعاشقيْنِ يُمارسانِ علاقتَهُما الحِسّيّةَ والجنسيّةَ بشكلٍ مُتحضِّرٍ غيرِ مُبتذلٍ، وذلكَ مِن خلالِ شِعرٍ رقيقٍ رومانسيِّ النّزعةِ، صريحٍ بمَعانيهِ، يَمتازُ بشجاعةِ الإفصاحِ دونَ أنْ تتعثَّرَ بعقباتٍ وعَوائقَ غامضةٍ، بل جاءتْ كلماتُها وأوصافُها شفّافةً تُداعبُ ذائقةَ القارئِ الحِسّيّةِ، مُستخدِمةً الرّموزَ والاستعاراتِ والمَجازَ اللّغويَّ بكلِّ جَماليّاتِهِ وآفاقِهِ الفَسيحةِ.

فلِشاعرتِنا الكريمةِ آمال عوّاد رضوان أجملُ التّهاني، وأطيبُ التّمنّياتِ بدوامِ التّوفيقِ، والمَزيدِ مِنَ العطاءِ والإبداع.

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .