إدمانٌ من نوعٍ آخر.. بقلم: سهير شحادة ـ كفرياسيف

كَتبتْ على صفحتها الرئيسيّة في ” الفيس بوك” “ستاتوس” جديدًا، كعادتها كلّ يوم أَو يومين. رغبت في أن يكون بمثابة سبق صحفيّ ينفجر كانْفجار ماء العين، متدفّقًا ومتألّقًا ليحصد أكبر عددٍ من المعجبين، فيزيد رصيدها الاجتماعيّ وتعلو أسهمها أكثر فأكثر…

وبعد تعديلٍ وتنقيحٍ ل “ستاتوس”، وإضافة بعض الصّور هنا وهناك، جاءتها الرّدود من كل حدبٍ وصوبٍ، ونالت ما يستحق منَ ” الثّناء والتّقدير”، ممّا جعل أصابعها تلتصق بكلّ شغف بهذا المتحكِّم الصّغير.

الرّدود كانت متوقّعة وبديهيّة: ” واو…بتجنّني”، ” منورين الفيس”، “الله يخلّيكو لبعض…”، ” الطّبق بيشهّي”، “معدّلة…يا ستّ الكلّ”.

ها هي عقارب السّاعة لا تزال تدور وتدور دونَ كللٍ، وعيناها تستقطبان ما ينجلي أمامها، في تلك الشّاشة الصّغيرة من صور وكلام منثور، ابتسامات هنا وتعليقات هناك، وعقلها يهرول ويجتهد لمتابعة كلّ الرّدود…

أحيانًا يقتضي الأمر أن ينشغل بالها بأمور تكون هامّة، أو مُلحّة عليها إنجازها على الفور، فتفكُّ قيد ذلك الجهاز الواقع بين يديها، وتتركه ليمضي إلى حال سبيله على الرّفّ، أو على المنضدة القريبة، وتعود إليه حالما تفرغ من القيام بأعمالها الطّارئة المُلقاة على كاهلها.

أمّا هو فتجدهُ قد أصابَتْه حالةٌ من البرودة، مغايرة لحالته حين كان ينعم بالحضن الدّافئ بين أصابعها. فما أن تعيد تشغيله حتّى تتوهّج شاشته ضياءً ودفئًا، فتقف مشدوهة أمام السّيل الغامر من الصّور، التّعليقات والأخبار التي عجزت عن مواكبتها جرّاء انشغالها بأمور أخرى.

أصاب جهازها العطب مما استدعى إرساله الى خبير تقنيّ، ليتمكّن من معالجة ما تضرّر، وباتت بطلتنا دون جهازٍ بعد أن رفضت تسلّم جهاز آخر لفترة مؤقتة، مدّعيّة أن رفضها جاء كَنوْعٍ من الإلحاح، للتّسريع في عملية تصليح جهازها… وكم ندمت!
فقد طال الانتظار بسبب ظروف طارئة ألمّت بذلك الرّجل الذي أوكلت اليه المهمّة.

أيّ نوع من التّوتر يصيبها؟! ينتابها شعور بالتّوتر لا تعرف مصدره، تفتقد لشيء هي بحاجة إليه، حتّى بدا لها بأن كفّها الصّغيرة هي الأخرى مشتاقة للجهاز، فما أن يقع في كفّها حتّى تبدأ بملامسة سطحه برفق ورقّة، والجهاز بدوره يبادلها العطاء بطريقته الخاصّة.

والآن تشعر بأنّها تعيش حالة من الضّياع …هذا هو شعورها حيال غياب الهاتف، فهي تُؤْثِر ذلك الّذي يستوطن بقعة من يدها لتتحرّك بحريّة في أرجاء المكان، عِوضًا عن الجلوس في مكان واحد، لفترة طويلة كالمذنب الّذي يواجه تحقيقًا جرّاء تورّطه في أمر شائك.

وفي لحظة ما أعادت شريط ذكرياتها سنوات الى الوراء، قبل “ولادة الفيس بوك” وغيره من “المواليد الإلكترونية “، وتساءلت كيف تمكّنت حينها من مزاولة أعمالها وإنجاز مهامها، دون ذلك الهاتف المتسلّط، ودون هذا النّوع من التّواصل بين النّاس؟!  ألهذا الحدّ باتت الحياة دونه شبه مستحيلة؟!!

تزاحمت الأفكار وتضاربت في رأسها، وأحسّت بذاكرتها تستحضر شتّى الصّور والذّكريات في آن واحد، صور لم يلتقطها جهازها المعطوب ولم تُخزّن فيه صور، أو توثّق أيّ ملفات.

شرعت تستحضر ذاكرتها وهي في طور الطّفولة ألعابًا شعبيّةً كَـ”الغمّيضة”، “السّبع خشبات”، “حجارة الزّْوَقيطة” وغيرها من الألعاب التي تركت أثرًا بريئًا عفويًّا في ذاكرتها، ممّا جعل الابتسامة تخطّ تضاريسها على محيّاها دون إذن. حينها أحسّت إحساسًا غريبًا؛ لقد تملّكها إحساس بغربة غريبة، وهي لم تبرح مكانها قطّ. أيقنت بأنّها عاشت زمانًا غير هذا الزّمان، زمنًا اصطبغ برائحة الدّفء، فتشبّعَ حنانًا وعاطفةً وشوقًا لا يمكن تفسيره بكلمات أو عبارات…

وراحت تستحضر الذّكريات بحنينٍ هادئٍ، خاصّة حينما تذكّرت كيف اعتاد أفراد العائلة التّناوب في النّظر الى الصّور الّتي التُقطت في المناسبات السّعيدة، والتّمعّن فيها، وتذكّرت بحنانٍ رهيبٍ تلك التّعليقات المازحة تخصّ بعض الصّور. كانت صور الزّفاف والخطوبة تدخل بيوت الجيران بلهفةٍ، وعند خروجها كانت تُزَفُّ بأجمل التّمنّيات القلبيّة…

آهٍ… كلّ شيء تغيّر، كلّ شيء صار في متناول اليد بشكل “سحريّ”، كأنّ المارد خرج من قنديل نحاسيّ عتيق، تكمن سعادته في تحقيق رغبات النّاس دون تردّد، لا ليصبح حرًّا طليقًا…

غرق تفكيرها عميقًا في تساؤل متكرّر: كيف تمكّن هذا الشّيء الصّغير من الاستحواذ على حياتها بهذه السّهولةِ؟ وكيف استطاع من “سحب البساط من تحت رجليها” رغم حكمتها ورزانتها؟!

هي تدرك بأنّ هذا الاختراع تكمن قوته في أنّه بات أكثر من مجرد اتّصال ضروريّ بين شخصين، بل صار حافظًا للصّور وأمينًا على الأسرار، فيه لُملمتِ الحكايات والذّكريات، وفيه حُفِظت الأسرار باحتراف، بنقرة إصبع متكاسل. ولم يغب عن ذاكرتها سحر البريد الإلكترونيّ، فهو يذكّرها ببساط الرّيح الذي امتطاهُ علاء الدّين…

وراحت تعيد حساباتها من جديد؛ أليس الهاتف وحاشيته من جعلها تركِن الحياة جانبًا على حافّة الطريق، فلا تتذكّرها إلا في حالات الطّوارئ، فتدرك قيمتها؟!

شعرت بأن عالمها الحقيقيّ فقد شيئًا من بريقِه وطيبتِه وعفويّتِه. انتبهت بأنّ العفويّة فقدت مصداقيتَها في العالم الإلكترونيّ الزّائف… فتلك الصّور المصحوبة بنعومة الكلام، تجعلها تنسى مَنْ في الصّورة… مجرد صورة تدفعُها صورةٌ أخرى، صُورٌ فقدت حميميّتها وخصوصيّتها وبراءتها وبساطتها. والكلمات أصابتها الرّتابة، فباتت تندرج تحت عنوان جهل أو نفاق أو فراغ بائس.

معركة ضارية تدور الآن في نفسها تشوّش عقلها، وهي تأبى أن تكون أسيرة لدى أيّ طرف. يا للمفارقة!! كانت تعتبر نفسها ممّنْ يتسابقون في نحت “ستاتوس” جديد، أو نشر صورة تلفت الأنظار…

لكنها عادت تتساءل من جديد: “ما العيب في ذلك؟ أليست العولمة طرقت أبواب الجميع، ونحن بدورنا جزء من العالم، استقبلناها بكلّ رحابة صدر؟”
نعم، هي تريد أن تكون عضوًا ممّن يواكبون التّطوّر، وإلا وقعت فريسة نوع من “الجهل” أو ربما تكون على قناعة بوجوده الحيويّ في حياتها. فما هو التّطّوّر؟! سؤال جعل عقلها يبحث بلهفة عن الإجابة.

يا لها من أرجوحة فكريّة مرهقة…

إنّ هذا المتحكّم تمكّن من الهيمنة على حياة النّاس، فهو منبرٌ مفتوحٌ للنّقاشات السّياسيّة والاجتماعيّة وغيرها، مع أنّ الأمر لا يخلو للأسف من انفلات بعض الألسنة الجارحة التي تضرّ بصلاحيّة النّقاش وتبطل مفعوله، أو من أفواه تنطق وتحثُّ على ارتكاب العنف بأشكاله بذريعة ما تقتضيه الشّريعة او باسم الدين…
في الوقت نفسه لم يغب عن ذهنها أنّه بات من الوسائل الأكثر تأثيرًا في تسويق منتجات مختلفة، لقدرته على استقطاب أكبر عدد من المشاهدين المستهلكين…

طالما أبهرها هذا الجهاز بقدرته على التّحول في لمح البصر إلى صحفيّ من الدّرجة الأولى يكون في خضمّ الحياة في كلّ مكان، ينقل الخبر في بثّ حيّ ومباشر.

تخبّطات وأسئلة كثيرة لها إجابات محيّرة، تَخلِق أسئلةً أخرى تحتاج إلى إجابات غير تلك الإجابات… يا لها من فوضى ليست بعارمة، بل فوضى تسيطر بانتظام على منطق بشريّ، يتساءل باستمرارٍ لأنّه يروم الأفضل.

أمّا هي، فلا تزال الأفكار تتخبّط في رأسها، ترغب في بسط سيطرتها، فجاءها تساؤلٌ حيّرها أكثر: من سيكون المتحكِّم الآن؟!!

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .