في العاشر من تموز 1992 ثكلت ثقافتنا الفلسطينية بوفاة الشاعر سميح صباغ وهو في شبابه، بعد مرض صعب في الكبد، حول حياته الى معاناة طويلة.
ولد الشاعر سميح صباغ، لعائلة مستورة الحال، في 1947 – 06 – 19 في قرية البقيعة التي تقع في الجليل الأعلى من بلادنا فلسطين، ذي الطبيعة الساحرة.
تفتّحت شهية سميح للأدب العربي وللشعر العربي وهو طالب ثانوي، عشق اللغة العربية وقرر ان يكون معلّماً للغة العربية التي أضحت معشوقته الأبدية، فالتحق بعد الثانوية بدار المعلمين العرب في حيفا. العمل في سلك التعليم كان يعني أيضا في تلك الظروف التي سادت الواقع العربي في اسرائيل، إنقاذ عائلته من العوز، وضمان اللقمة الشريفة والمستقبل الأفضل. والأهم انه كان يرى انه سوف يصبح معلماً مخلصاً لأطفال شعبه ووطنه…
بدايات سميح الشعرية لفتت انتباه القراء والمثقفين العرب، وللأسف لم يحظَ بتغطية ملائمة لأعماله الشعرية، رغم انه يعتبر أحد الشعراء المجيدين وذوي المواقف الوطنية التي لا تساوم.
يا وطني يا حبي الآسر يا أغنيتي الاولى
أنا كبرت
فخلني أحمل عنك بعض ما حملت
سميح، الذي ولد ليكون معلماً، لم يكن مقبولاً على جهاز التربية والتعليم في دولة اسرائيل: “لأن قلبه محب للعدل، كاره للظلم ولسانه لا يتغنى الا بالحق الصراح”، كما يقول صديقه، الشاعر حسين مهنا.
عمل سميح بالبناء مكرها، وبالدهان وبأعمال حرة.. وكان ينشر قصائده بأسماء مستعارة أشهرها اسم “شادي الريف”. ولفت الأنظار الى جمالية قصائده ورقتها وحسن قوامها..
انتسب الى الحزب الشيوعي، الذي كان في تلك الفترة بيتاً حقيقياً لأبرز المثقفين والأدباء العرب في اسرائيل، وعمل في صحيفة الحزب “الاتحاد” وقست عليه الحياة أكثر حين أصيب بمرض في كبده. ارسله الحزب للعلاج في ألمانيا الدمقراطية، حيث أجريت له عملية جراحية خطيرة، عاد بعدها أوسع أملا وأكثر تفاؤلا.
تزوج عام 1974 من فتاة أحلامه التي كتب لها أجمل قصائده: “سلمى جبران” (أم شادي) تزوجته رغم علمها بخطورة مرض سميح. وكان جني هذا الزواج ثلاث ثمرات طيبات: شادي وفداء وحازم.
تظلين في البال
زنبقة المرج، تفاحة الوعر
رمانة في الجليل
تظلين في كرم دوال،
على سطح حيدر
ونرجسة في الحقول
عاد، بعد علاجه في المانيا، الى عمله في صحيفة “الاتحاد” ثم في تحرير مجلة “الجديد” الثقافية… ولكن المرض لم يمهله طويلاً.. وتوفي في 1992 – 07 – 10.
صدر للشاعر :
* ديوان داخل الحصار (1971)
* وطني حملني جراحه (1974)
* دمي يطاردكم (1977)
* عهود مودة (صدر بعد وفاته – 1993)
* الأعمال الشعرية الكاملة ( 1993) (مرفق رابط الديوان بصيغة pdf )
رحل الشاعر سميح صباغ قبل أوانه، مخلفاً وراءه تراثاً شعرياً أصيلاً في مضمونه، ورائعاً في أصالته الفنية، وساحراً في صياغاته ورؤيته الشعرية، وبليغاً في لغته وحلمه الانساني.
وما عدا مراجعة أو أثنتين، نُسِيَ سميح، واندثرت ذكراه الا من قلوب القليل القليل من محبيه شاعراً وانساناً، وأخص بالذكر الشاعر المبدع حسين مهنا، ابن قرية الشعراء البقيعة، قرية سميح أيضا… الذي نشر مقالة رائعة في ذكرى وفاة شاعر البقيعة وشاعر الوطن، وشاعر الهم الانساني، “شادي الريف” سميح صباغ وكتب مقدمة الديوان الكامل الذي وزع بصيغة (PDF) على الانترنت، وأوجّه أنظار القراء لهذا الديوان وخصوصية شعر سميح صباغ.
كلما مرت على الدرب صبية،
في قميص أزرق
ذكرتني.. آه – ثوب المدرسة..
يوم كنا نلتقي
ذكرتني.. قعدة الظهر بظل الشجر..
وانتظاري.. ومشاويري.. اليك.
سميح صباغ مات قبل أوانه.. حقا لم يكتب في سنواته الأخيرة الشعر.. ربما حالته الصحية الصعبة انتصرت على الشاعر وأصمتته. وهو الذي عاش حياته متحديا رافضا الذل، فكان منذ بداياته على وعي سياسي ووطني أصيل، كانت فترة نشوئه هي فترة سيطرة الحكم العسكري على جهاز التعليم، وعلى كل تفاصيل حياتنا.
أبــى الفقــر الا ان يجـــرعني كأسي
مـــرارة ذل من مراشفهـــا الكـــــدر
وما كان فقـري عن خلاعــة عابـــث
ولكن جــور الدهــر يسلبني يســـري
وضويقت حتى في شعوري ولم أخن
وأمضيت أيامي على لهب الجمــــــر
ويقول في نهايتها:
ومــا انـــا بالنـــذل المقـــــود بعيشـــه
وان لجموا شعري أو اضطهدوا فكري
غــدا أخلـع الحجــب المقيتـة والخنــــا
وأحمــل قرآنـــي أطــوف في الجهــــر
ففي غـد عمري الغـض ثــورة أمـــــة
يقود لهـا شعـري، وينبئهــا فجــــري!
الحكم العسكري بأزلامة القذرين، عرفوا من هو طالب دار المعلمين العرب المتخفي وراء اسم “شادي الريف”.. وكانت الصفعة الاولى رفض قبوله في سلك التعليم…
أحس اني أخون
قضية الانسان، في بلادي
أحس انني أملك أن أكون
مطرقة في قبضة الحداد
ومنجلا في قبضة الحصاد
يروق لي أن أعطي نموذجا شعريا كاملا لشاعرنا الراحل عنا والباقي في روح ثقافتنا، قصيدة نشرها في (1967–07–06) ووقعها باسم “شادي الريف” ومنشورة في ديوانه الكامل أقرأوا معي هذه القصيدة الرائعة:
اني بغير كرامتي لن أشبعا – للشاعر سميح صباغ
نغــم يضـج بجانبــي ملوعــــــا
يحكـي شكاياتـي فيقطــر ادمعــا
ارنو الى الماضي الكئيب مفجعا
فيكاد قلبـي ان يشــق الأضلعـــا
وتهــزنــي أصــداؤه فيــذيبنـــي
نغماً على لهب الحروف موقعــا
سنتان من عمري وليس بهيـّــن
عهد الشباب يمر أقتم موجعـــــا
حبسوا القصيد ولم يزل في مهده
رياّن يدفــق بالمشاعـــر طيّعـــــا
*****
يـا لقمـة حبست نشيــدي حقبــــة
ايظـــل لحنــي خلفهـــا متقنعـــــا؟!
قـدر يعـذبنــي ويـدمـي خاطـــري..
فينز من دمــي النشيــد ملوّعـــــا
دربان في قلبي الجريح تصارعــا
فوقعت بينهما اخاف المصرعــــا..!
قـيــد الطـغــاة بأضلعــي متربــــعٌ
ونداء حرفـي لــم يــزل متوجعـــا
يــا لقمــة وقــع الفـؤاد بقيدهــــا
انـي بغيـر كرامتـي لـن أشبعــــــا
سأخـط دربــاً لي، جديـداً نيّــــراً
فـي موكـب العمـال زاهٍ مطلعـــــا
ولسوف احكي للطغاة مصيرهــــم
بقصائدي والشعب يصنع مصرعا
تمر السنوات.. وما زال التوهج الشعري في قصائد سميح صباغ متقدا، وأختصر كل الكلام في هذا الموقف المؤلم لأقرباء وأحباء شادي الريف – سميح صباغ، وللغيورين على ثقافتنا، وأقول:
أنت حيٌّ بشعرك أيها الشاعر!!