أن تكون عربيا في “دولة اليهود”- دراسة في رواية “نوار العلت”

 

                  

مقدمة وأكثر

تقوم هذه المقالة بدراسة رواية “نوار العلت” (2021) للأديب محمد علي طه التي تعتمد في طرحها الرئيسي على تصوير حياة الإنسان العربي الفلسطيني الباقي هنا، في حدود ما يعرف بمنطقة ال48، الذي ما زال يصارع في سبيل ترسيخ وجوده وتثبيت وجهة نظره اعتمادا على رؤى وأفكار متناقضة ومتناحرة مع رؤى الآخر. تعمل المقالة على تبيان الصراع الفكري وأبعاده وانعكاساته على حياة الأقلية العربية كما يتجلى في النص ذاته، دون إغفال البيئة الحاضنة لهذا النص، وتشريح أهمية توظيف أكثر من أيديولوجيا في الرواية، وانعكاس ذلك على رسم الشخصيات وعلى بناء هيكل الرواية الفنيّ. ليس بالإمكان الحديث عن عمل أدبي فلسطيني مؤدلج دون ربطه بالمكان والزمان، وبالظروف التي يعيش في ظلها الأديب والأدب، خاصة حين يكون الكاتب صاحب تجارب سابقة تؤكد على ترابط وثيق بين إبداعه وبيئته.

عاش طه النكبة ورآها بعيون طفل، ورأى النكسة بعيون البالغ، وهو يرى اليوم واقع الفلسطيني بعيون الرجل المجرب الذي ما انفك يربط بين ما يحدث اليوم وما كان بالأمس القريب. ولدت “نوار العلت” لتلقي الضوء على هذا الواقع الراهن، فاختار الكاتب طلابا عربا جامعيين يحملون أيديولوجيات مختلفة، يتحاورون ويتناقشون حول التكتيك والاستراتيجية، واتفاق أوسلو وحيثياته وأبعاده، يختلفون ويتفقون، ويحاورون الآخر حوارا أيديولوجيّا في أهم القضايا المصيرية والفكرية.

لم يعد لدي أدنى شك في أنّ الرواية العربية الفلسطينية هي من أهم المصادر التي تواكب تاريخ هذه البلاد وترصد أهمَّ المستجدات على الساحة الاجتماعية والسياسية، بحيث باتت اليوم “ديوانَ” القضية الفلسطينية، يستطيع المتابع، من خلالها، الاطلاع على الأحداث التي عصفت بالمنطقة، والتوقف عند محطات لافتة جرت فوق ترابها. وكان من الطبيعي أن تنال كل من النكبة والنكسة والمواجهات، على اختلافها، حيّزا كبيرا من هذا الإنتاج الروائي.

لقد أدرك الأدباء أهمية الرواية ودورَها في خلق عوالم متشعّبة فعمدوا إليها وطوروا صورتها وشكلها وأثرَوها بتقنيّات عدة كي تتمكن من مجاراة تعقيدات العصر الحديث. فقد أثبتتْ، في الآونة الأخيرة، أنّها أكثرُ الأجناس الأدبية قدرة على لملمة الخيوط عبر الزمان والمكان. ويقيني أنّ الروائيّ الفلسطيني أدرك ما لها من سجايا ومزايا خاصة تتيح له أن يحيط بعوالم أكثر اتساعا من قدرة الشعر، فزوّدوها بما تحتاج إليه كي تكون زادا للأجيال القادمة، وحجة ينافح بها عن حقه أمام رواية الآخر، وسار بها في مسالك جديدة.

تمتح رواية “نوار العلت” أحداثها من الواقع الفلسطيني المعاصر، وتشرّح العلاقاتِ العربيةَ اليهودية اليومية، دون أن تفصل الحاضر عن الماضي، وتعالج حياة الإنسان العربي الفلسطيني داخل “دولة اليهود”، ملقية الضوء على الغبن اللاحق به، متمثّلا بالتعامل العنصري والنظرة الفوقية الاستعلائية. هي رواية تتناول قضية وجود الإنسان الفلسطيني الباقي هنا فوق تراب وطنه، من زاوية مغايرة؛ فالصراع الفلسطيني الإسرائيلي متشعب ومتعدد المناحي، وقد تعدى الصراع حول الأرض ليصبح صراعا حول الوجود بشكل عام. لذلك فهي واحدة من الروايات التي تنتمي إلى رواية ما بعد الصدمة في بعدها النفسي. فالجرح الفلسطيني، كما قلنا في دراسات أخرى، ما انفك ينزف، وكل صدمة جديدة، مهما كان حجمها، لا بد أن تستعيد الصدمة الأكبر.

تعيد الرواية الفلسطينية إلى الواجهة طرح قضية وظيفة الأدب ودوره، بشكل عام، ووظيفة الرواية بشكل خاص. فهل يُكتب الأدب من أجل التعبير عن الذات؟ أم يُكتب من أجل تناول قضايا الإنسانية: أوجاعها، همومها وأفراحها؟

علّمنا التاريخ أن لا شيء يبقى على حاله. فكل شيء في سيرورة وفي صيرورة، وهكذا الأدب يتبدّل ويتغيّر وفق الظروف. فقد ولدت الرومانسية والسريالية في أوروبا نتيجة ظروف سياسية واجتماعية عاشها الأوروبي، وظهرت الواقعية الاشتراكية في ظل ظروف أخرى، وكتبت روائع الروايات العالمية إثر أحداث كبرى، مثلَ رواية الحرب والسلام لتولستوي التي تعالج قضايا هامة في ظل احتلال نابليون لجزء كبير من روسيا. ومن الطبيعي أن يقوم بعض الروائيين الفلسطينيين بمتابعة ما بدأه السابقون ولكن من زاوية أخرى، يعاينون ما يحدث اليوم، ويرصدون أهم المتغيرات عموديا وأفقيا. من هذه الزاوية بالذات ننظر إلى رواية “نوار العلت”.

 

ملخص الرواية

تتمحور الأحداث في هذه الرواية حول التحقيق في مقتل طالبة جامعية يهودية تدعى “يافا”، ألقى القاتل جثتها ليلا عند طرف أحد الحقول بالقرب من قرية عربية. يتولى متابعةَ القضية محققان يدفعهما طموح بالترقي إذا ما اكتشفا الجاني، فيسارعان إلى إلقاء القبض على أخوين عربيين قرويين. يعتمد المحققان في ذلك على تواجد الجثة قرب الحقل الذي يرعاه أحد الأخوين (أحمد) الذي لم يتوان في إخبار الشرطة صباحا حال اكتشافه جثة القتيلة، وعلى العلاقة التي تربط هذه الفتاة بالأخ الثاني (سمير) الذي جمعته الظروف بها، بشكل عفويّ، في مقصف الجامعة، سرعان ما تحابا، بعد أن كانت قد أحبّت طالبا جامعيا يهوديا متدينا متشدّدا اعتاد أن يصطحبها إلى المستوطنة التي سُلبت أرضها من إحدى قرى فلسطين المحتلة سنة 1967، مقتنعا تماما أنه يقوم بتحريرها مع رفاقه المستوطنين ليضمها إلى “أرض الآباء والأجداد”. كان من الطبيعي أن يرفض الأب اليهودي ارتباط ابنته بشاب عربي مسلم، وأن يتصدّى صديقها اليهوديّ لهذه العلاقة وألا يتركها تذهب في حال سبيلها.

يلجأ المحقق الرئيسي إلى شتى وسائل الضغط على صديقها العربي كي يعترف بتهمة القتل، لكن هذا الفتى الذي يحمل فكرا مستنيرا وموقفا سياسيا ثابتا يقف صامدا في وجه المحقق، الذي بنى مواقفه على أفكار مسبّقة تجعل من العربي قاتلا ومتهما، خاصة إذا كان يحمل آراءً سياسية تتناقض مع سياسة الدولة الرسمية.

 

افتتاحية الرواية

تختلف النظرة، برأينا، إلى افتتاحية الرواية ودورها، ما بين بدء القراءة والانتهاء منها. ففي البداية يدخل القارئ في متاهات اللغة، والوصف، والمكان والزمان، وينصب الاهتمام على محاولة فهم المضمون، ومتابعة ما ستقوله الرواية عبر فكرتها المركزية. ثم تأخذ الأمور في الانكشاف بشكل تدريجي وفق تخطيط مسبق للروائي. ويقيني أنّ الروائي، كما الشاعر والقاص، يفكّر جيدا في الافتتاحية؛ كيف تكون البداية؟ من أين؟ وبأي الوسائل السردية؟ وأي تقنيّة هي الأكثر مناسبة؟

يقوم القارئ العادي، بعد الانتهاء من القراءة، بإلقاء الرواية جانبا، يعتريه شعور بالراحة أنه انتهى من القراءة، وما عليه سوى أن يستريح، أو أن يبدأ بالبحث عن غيرها من الروايات للروائي نفسه، أو لغيره من الروائيين. أما القارئ الباحث، فإنه كثيرا ما يعود إلى البداية أثناء عملية القراءة، وبعد الانتهاء منها، في محاولة ربط الأحداث ببعضها، وفهم العلائق بينها. تحدث غادامير عن “أفق التوقعات”، فشغل بالفكرة بعض المنظرين لاعتبارها نقطة هامة في علاقة القارئ بالنص. ونحن اليوم، بعد هذه التجربة الطويلة من القراءة، نقرّ بما يعترينا من تساؤلات قبل ملامسة الصفحات الأولى من الرواية، إذ لدينا ما نتوقعه حين يكون الروائي فلسطينيا، من ناحية، وما نتوقعه من روائي نعرفه من خلال كتاباته السابقة.

لقد شعرت وأنا أقرأ رواية “نوار العلت” في صفحاتها الأولى أنني أقرأ محمد علي طه كما عهدته في كتاباته السابقة، وجدت الفضاء القروي الفلسطيني نفسه؛ الحقل والفلاح والكلب والطيور وابن آوى، ووجدت أمامي خرافات الفلسطيني وحكايات الجنية ومعتقداته، لكني لم أفكر بدلالة هذه البداية إلا في القراءة الثانية للرواية التي تتيح التوغل أكثر في متعرّجات النص وتشعّباته، وتفسح المجال لاكتشافات جديدة قد تغيب عن القراءة الأولى، ما يؤكِّد نظرة وولفجانج إيزر وأمبرتو إيكو وغيرهما من المنظرين الذين تحدثوا عن تعدد القراءات وعن دور “القارئ في الحكاية”.

لم يخفَ عليّ أنّ محمد علي طه كاتب “مراوغ” مثل كل الأدباء، ولم يخفَ عن بالي دور السيميائية في كشف العلامات والدلالات التي تحملها افتتاحية “نوار العلت” منذ الكلمة الأولى: “كان الليل هادئا ساكنا لا يعكّر صفوه سوى عواء بنات آوى بين حين وآخر، حيث يعلو صوت إحداها حزينا يثير الشفقة كأنها تنشد طعاما أو شرابا، أو تندب والدة ماتت أو ابنا ضل، فتجيبها مجموعة من أخواتها نادبة نائحة، ويستمر العواء الباكي دقائق قليلة، ثم يخيّم الصمت على السهل والهضاب الشرقية، وعلى الوادي الذي يلفّعه الظلام الدامس…”. (الرواية، ص7)

هذه الفقرة وغيرها هي إشارة لما تحمله الأحداث من مفاجآت أكبر بكثير من “مضايقة” هذه الحيوانات المزعجة، خاصة وأنها ليست مفاجئة لأي فلاح فلسطيني. أما ظهور الضبع أكثر من مرة ومحاولته الاعتداء على الكلب وصراع الشاب معه فما هي سوى تلميح لأمر أكبر قد يحدث فيما بعد. ما لم يخطر ببالي أن يقوم محمد علي طه بتوظيف تقنيّات سينمائية، وأن يمهّد للحدث تمهيدا بوليسيا، فقد بدا لي وكأنّ هناك موسيقى تبعث على التوتر ترافق الوصف الدقيق للمشهد السينمائي بكل تفاصيله، تتحرك عين الكاميرا ترصد كل حركة وكل نأمة، فيما تنبعث من مكان ليس بعيدا أصوات ابن آوى، يتلوها معركة مع ضبع يحاول الانقضاض على الكلب الذي يرافق أحمد، الشاب الذي يحرس كرمه من الطيور والحيوانات. ويتكرر مشهد المعركة وانكماش الكلب وهجوم أحمد ودفاعه عن روحه وعن كلبه الأمين المذعور وعن كرمه وثماره. تثير هذه المشاهد عبر الوصف الدقيق واللغة الشاعرية المكثفة كل إمكانات النص المفتوح حول هذا الحدث، وحول بنات آوى والضبع وما تحمله من رموز ودلالات وإيحاءات. تتفتح فجوات وفراغات ما على القارئ إلا أن يحاول ملأها من خلال متابعة القراءة وكشف مراوغاتها.

يتكسّر أفق التوقعات حين نكتشف أن هذه الرواية ليست من عالم محمد علي طه المألوف، ولا تمتح أحداثها من عالم القرية التقليدية حيث القرية والمختار والفلاح والخواجا، ولا تتقاطع مع روايته الأولى “سيرة بني بلوط” في المكان والزمان والشخصيات واللغة، بل إنّ عالمها المركزيّ يتمحور فيما يواجه الشابّ الفلسطيني اليوم، في جامعته، وفي مكان عمله، وفي الشارع. هي رواية عالم اليوم غير مبتورة عن ماضي العربي في هذه البلاد منذ النكبة وحتى اليوم. يتحقق ذلك حين يُعتقل الشابان العربيان ويبدأ التحقيق البوليسي والبحث عن مرتكب جناية قتل الشابة اليهودية، فتدخل الأحداث في مسار جديد غير مألوف في كتابات محمد علي طه، ولكنها تحقيقات مألوفة للعديد من الطلاب الجامعيين الذين يعبّرون عن مواقف سياسية وأيديولوجية لا تتماشى مع سياسة المؤسسة الصهيونية.

أنا على ثقة تامة أنّ الروائي خصص حيّزا كبيرا من الوقت قبل أن يبدأ بكتابة هذه الافتتاحية، ويقيني أنه أصيب بالإرهاق وانتابته وساوس كثيرة حتى اهتدى إلى الجملة الأولى في الرواية لأنها تقرر مسار الرواية كله. “ففي الفقرة الأولى تحل معظم المشاكل التي تواجهك في كتابة الرواية”، كما يقول ماركيز، وهي اللقاء الأول بين القارئ والنص ولها دور هام في جذب القارئ أو نفوره. لقد تمكن الكاتب من مفاجأة القارئ عبر هذه الافتتاحية، من ناحية، وحثّه على المتابعة في تلميح شفّاف إلى أنّ هناك أمورا كبرى سوف تحدث.

لا يخفى على القارئ أنّ افتتاح الرواية من هذا الموقع بالذات، يشير بما لا يقبل الشك إلى أهمية الحقل والأرض في الحفاظ على كرامة من بقي هنا، بل إنّ ما تبقّى من أرض لهو عامل قوة يساهم في تجذّر الإنسان وارتباطه بالمكان، لقد أراد الكاتب أن يؤكد على أنّ الصراع الذي تمتدّ جذوره أكثر من قرن من الزمن كان حول المكان وسيبقى، ولذا فالحقل هو الأرض التي تُنبت شجرا وتطعم ثمرا، ولن يتمكن “الضبع” أو “ابن آوى” من تبديل هذه الحقيقة.

 

جدلية المكان والزمان والهوية

يعتبر طه أحد أكثر الكتّاب الفلسطينيين الذين عملوا على ترسيخ صورة القرية العربية الفلسطينية بعاداتها وتقاليدها وحقولها وناسها، وأثّثها بكل ما تحتاج كي تبدو صورة حية نابضة، فأسهب في وصف البيئة الفلاحية: بيوتها وأزقتها وطيورها وحيواناتها ونباتاتها. فقد كتب عشرات القِصص التي تدور أحداثها في الحقل والقرية، أبطالها فلاحون وعمال، ونساء فلاحات، وصبايا يعدن من العين يحملن الجرار على الرؤوس. كما كتب قصصا تدور أحداثها في المدينة، أبطالُها مدرّسون وموظّفون، وعرّج على جيل الشباب فعرض لهمومهم ومشاغلهم واهتماماتهم. ولم يتخلّف عن متابعة كل ما هو جديد. لكنه لم يهجر أسلوبه القديم حتى وهو يكتب عن المدينة والمدنية والتكنولوجيا والشوارعِ الواسعة. كان وما زال يطعّم كتاباته بخرافات وحكايات شعبية شاعت في المجتمع العربي الفلسطيني، ويكثر من سرد قصص من التراث موظّفا الأمثال الشعبية واللغة بكل مستوياتها.

كتب محمد علي طه روايته الأولى “سيرة بني بلوط” سنة 2004، تناول فيها صراع الفلسطيني مع المستعمر البريطاني، ثم كتب سيرته الذاتية “نوم الغزلان” (2017) تناول في جزء منها النكبة وآلامها وأوجاعها، وفي “نوار العلت” يصل إلى أوسلو وإلى “محادثات السلام” وما تبع ذلك من أحداث ومواجهات، ومن نقاش سياسي عند الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي الذي ما انفك يدور حتى ساعة صدور الرواية. فهل يرمي الكاتب إلى رسم صورة متكاملة تتتّبع صيرورة وسيرورة الإنسان العربي الفلسطيني خلال المائة سنة الأخيرة؟

لكل رواية شخصياتها وبيئتها وزمانها وفضاؤها الذي تتبدل صورته تبعا لتبدل الزمان، وبالتالي فإن القارئ يمكنه أن يعاين تبدلات المكان وحيثياته، وأن يتابع تطوّر صورة الشخصيات وأن يقرأها قراءة سوسيولوجية؛ ثقافية وفكرية وسياسية. فالشخصيات في “سيرة بني بلوط” شخصيات شعبية نمطية، أما في “نوار العلت” فهناك طلاب عرب جامعيون مثقفون وقادرون على التحدي والمواجهة الفكرية مع الآخر ومع روايته ورؤيته.

يكتب محمد علي طه روايته الأخيرة -نوار العلت- بعد سبعة عقود ونيف من وقوع النكبة، وفي ظل متغيرات سياسية لم تكن لتخطر ببال أي عربي فلسطيني قبل سبعة عقود، أو حتى لم تكن لتخطر ببال أي عربي، قبل النكسة أو بعدها بقليل. فهل بإمكان كاتب مؤدلج أن يغضّ الطرف عما يحدث حوله؟ وهل على الأديب أن يخضع لتبدلات الزمن؟ وأن يستسلم للواقع وأن يخنع له؟ أسئلة لا بد أن يتواجه معها الأدباء الفلسطينيون.

لقد رفض غسان كنفاني الواقع العربي بعد النكبة والنكسة، لكنه لم يتعامل إلا مع هذا الواقع رغم قسوته، فالشعب الفلسطيني تشتّت، وأخذ يبحث عن لقمة الخبز، كما يتجلى في رواية “رجال في الشمس”، فجاءت الصرخة المعروفة “لماذا لم تدقوا جدران الخزان”! كما طرح كنفاني بديلا آخر للواقع العربي في “عائد إلى حيفا”، دون التغاضي عن الواقع المؤلم للعربي عامة والفلسطيني خاصة.  وقام إميل حبيبي في مجمل كتاباته بمعالجة واقع العربي الفلسطيني من موقع آخر، ومن زاوية نظر أخرى، وقام بتشخيص هذا الواقع بأسلوبه الساخر موظفا المفارقة (Irony) بكل تجلياتها، بالذات في رواية “المتشائل” (1974) حيث قام بتشريح الواقع الذي يعيشه العربي الفلسطيني بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل وفرض الحكم العسكري والبحث عن هوية يُراد لها أن تختفي وأن تضيع.

لست بصدد إقامة مقارنة بين الأساليب التي وظّفها الروائيون الثلاثة، لكن مما لا شك فيه أن كل كاتب منهم كان يعيش تبعات الأحداث الكبرى، ويعاين المتغيرات ويتوق إلى ما هو أفضل وأجمل. أما ما أريد التأكيد عليه فهو أنّ هؤلاء الثلاثة، مثل جلّ الروائيين الفلسطينيين، يسعون إلى بلورة الهوية الفلسطينية وإلى العمل على ترسيخ مركباتها، خاصة وأنّ الآخر يسعى، بكل ما يحمل من وسائل، إلى بلبلة هوية الإنسان الفلسطيني، خاصة من بقي ضمن حدود ال 48.

لم يعتد محمد علي طه، في إنتاجاته السابقة، على الخروج من إطار القرية الفلسطينية التقليدية وفضائها المعروف إلا نادرا، وحين حاول الخروج منها إلى المدينة كان هذا الخروج ضيّقا وخجولا. وبالرغم من أن رواية “نوار العلت” تأخذ منحى جديدا في مسار الكتابة لديه إلا أنّ مركز الأحداث يدور حول عائلة عربية تعيش في القرية، وما الخروج منها إلا بهدف الدراسة الجامعية في المدينة كمرحلة انتقالية. ولذلك رأينا الراوي الرئيسي يستهل الرواية بوصف من صميم القرية العربية الفلسطينية، وبالتحديد من أحد حقولها. فتتجلى البيئة القروية بصورتها التقليدية المعهودة. يرى الباحث أنّ انطلاق الأحداث من الحقل بالذات، ومن الزمن الحاضر لهو تأكيد على الترابط الوثيق، الذي كان ولا يزال يجمع بين الإنسان الفلسطيني وبين أرضه. فهي الأصل والجذور التي لا يمكن الاستغناء عنها، إذ مهما تحضّر الفلسطيني وتمدّن تظل تحت قدميه تعطيه الانتماء والقوة والصمود.

لا يتعامل القارئ مع أي حدث في الرواية تعاملا عفويا، ولا يرى أنّ وصف مكان ما أو زاوية معينة إلا ليؤدّي وظيفة ما. فلكل وصف دورٌ ولكل شخصية صوت ودلالةٌ، ولكل مكان مَهمَّة يؤدّيها وفق الجو العام لعالم الرواية. لذا يرى الباحث أنّ ابتداء السرد من الحقل بالذات، ووجود طالب جامعي يرعاه ويحمي زرعه من الطير والحيوان لهو تنبيه إلى أنّ لبّ الصراع هو حول الأرض وما عليها، حتى لو كان الخلاف فكريا، بل إنّ الصراع الفكريّ يتمحور حول الحق في الوجود، والوجود يعني الحفاظ على الحقل. أما انتقال هذا الدور من الفلاح إلى طالب جامعي فهو ذو دلالة هامة، كما تعلمنا من السيميائية التأويلية. يمثّل الحقل في الرواية ملاذا آمنا، وبديلا يضمن للشاب الجامعي وعائلتِه لقمةَ الخبز الشريفة النظيفة، بالذات حين تغلق السلطة أمام الجامعي أبواب العمل في المعاهد والمؤسسات. ما يؤكد على ضرورة الحفاظ عليه.

مر الشعب الفلسطيني ظروفا غير اعتيادية بعد النكبة وتحوّل من أكثرية إلى أقلية. سعت هذه الأقلية بعد الصدمة مباشرة للبحث عن لقمة العيش، ثم بدأت بشكل تدريجي تستوعب ما حدث، بعد أن جرت مياه كثيرة في مسار القضية الكبرى. تسعى رواية نوار العلت” إلى معاينة التحولات في حياة الإنسان الفلسطيني الباقي هنا بعد مرور سبعة عقود على النكبة، حيث ما زالت القضية حية تتفاعل، رغم عامل الزمن. أما أهم التغييرات فهي في مدى الوعي، وفي طريقة المواجهة؛ غاب المختار والخواجا، ولم يغب الفلاح، رغم المصادرة المتواصلة للأرض، لكن هذا الفلاح الباقي هنا يحمل الشهادات الجامعية ويتسلّح بفكر وثقافة تتيح له أن يحاور وأن يناقش وأن ينجح، أحيانا، في اختراق الآخر وتجنيده إلى صفه. يبحث هذا الباقي هنا عن “نصر” معنوي مدركا واقعه ومحيطه القريب والبعيد، وتعقيد المعادلات الكبرى التي قد تسبب له القهر والاكتئاب والاستسلام للواقع الصعب، لكنه بدلا من ذلك يسجّل نصرا فكريا عماده تثبيت الهوية التي يسعى الخصم، على الدوام، إلى تفتيتها وتشويهها ومصادرتها.

تعمل الرواية، بتوجيه من الروائيّ، على إبراز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي يتمحور حول الحق التاريخي في الوجود، وهو وإن كان في لبه صراعا أيديولوجيا، فإنما هو صراع يدور بين أشخاص يمثلون طرفين، يحمل كل طرف فكرا مضادا لفكر الآخر ورؤياه. إنّ الأيديولوجيا، أية أيديولوجيا، ليست مجرد رؤيا وإيمان بعقيدة فحسب، بل هي أفكار تؤمن بها فئة من الناس، وتسعى إلى تطبيقها. وقد اختار الروائي عائلة عربية مكوَّنة من أم مات زوجها وترك لها ابنين وابنة قامت بتربيتهم وتعليمهم، وحمّل هذه العائلة وزر مقارعة الأيديولوجيا الصهيونية، كممثلة للمجتمع العربي الفلسطيني الباقي هنا، وبالتحديد في المنطقة التي اصطلح على تسميتها منطقة ال 48.

بناء على عنصري المكان والزمان فالشخصيات مغايرة؛ الأبناء طلاب جامعيون، والأم مثقفة تعمل في التدريس، إذ كان معظم الشخصيات في أعمال محمد علي طه الأدبية عمالا وفلاحين وسيّدا ومسودا ومناضلا ومختارا وخواجا متجبرا. هنا الأنا والآخر يحملان صورة حديثة مختلفة عما هو مألوف، فالأنا هنا واثقة بذاتها، اعتمادا على ما اكتسبته من علم ومن تجربة، رغم الخسائر المتتالية؛ خسر العربي الأرض، وخسر في كل المعارك، لكنه لم يخسر إيمانه بصدق قضيته ورسوخِها. يعارك العربي كي يستعيد ذاته وكرامته وكيانه كإنسان يدرك جيدا هول ما كان، فيعمل بإصرار على استعادة وعيه وهويته، مدركا هول الصدمة، رافضا أن يتابع في نفس طريق من سبقوه، يغيّر التكتيك والاستراتيجية في التعامل مع الواقع الجديد. يلملم الفلسطيني شظاياه في ظل ظروف عالمية ومحلية غاية في التعقيد؛ عالَم عربي مهشَّم، متفرّق ومشتَّت، ومواطَنة منقوصة الحقوق، أراض صودرت وحيز حريّة ضيق، ومع ذلك لا يفقد البوصلة، يرى إلى البعيد إلى الضوء الذي ينبثق من آخر النفق.

يعمل الروائي محمد علي طه على تصوير اليهودي، من زاوية أخرى تعكس، إلى حد بعيد، مركبات “هوية” المجتمع اليهودي الإسرائيلي، فكريا واجتماعيا وسياسيا، وهي صورة أخرى مغايرة لليهودي عما عرفته الرواية العربية عامة والفلسطينية خاصة. في الرواية شخصيات يهودية متنوعة ومركّبة، فيها “اليساري” و”اليميني المتطرف”، “المتدين” و”العلماني” و”الشكنازي” و”السفرادي”، ومن خلال هذا الخليط من الشخصيات تبرز صورة “دولة اليهود” المتطرفةِ في نظرتها الاستعلائية العنصرية، ورفضِها التعايشَ مع الفلسطيني، لدرجة عدم قبول إقامة علاقة حب بين فتاة يهودية وشاب عربي.

يلفت نظر القارئ حين يدخل في عمق النص، للتعرف إلى الشخصيات عن قرب، اهتمامُ الراوي والروائي معا في الخوض في تفاصيل حياة الشخصيات. فالعربي ولد في بلدة فلسطينية، ورث أرضه عن والده، كما ورثها هو الآخر عن الجد يتعيّش من خيراتها، يكدّ جميع أفراد العائلة من أجل الحصول على لقمة الخبز الشريفة يحدوهم أمل بتحقيق أحلامهم وإنهاء الدراسة الجامعية. في حين تشير تفاصيل حياة الشخصيات اليهودية إلى أصول أوروبية أو شرقية وصلت البلاد بعد هجرتها إليها من بولونيا وتشيخيا والعراق ورومانيا على سبيل المثال، ومن هذا المزيج تولّد المجتمع اليهودي الإسرائيلي الصهيوني، وتم التعارف بين بعض هذه الشخصيات أثناء الخدمة في الجيش، أو في وظائف حكومية. كما تتضح صورة الصراع الطبقي الخفي بين اليهود من أصول غربية ومن أصول شرقية، حيث ينظر الغربيون (الإشكنازيون) إلى الشرقيين (السفاراديم) نظرة فوقية استعلائية.

لا يستطيع القارئ أن يمرّ على مثل هذه التفاصيل مرّ الكرام، فلكل كلمة في النص دور ولكل معلومة تضاف إليه هدف، كما يدعي ميخائيل باختين، وما على القارئ إلا أن يبحث عن دلالة كل معلومة وأن يقوم بملء فراغات النص دون العودة إلى تنظيرات إنجاردن وإيزر أو إيكو وغيرهم من أصحاب نظريات “جماليات التلقي”، هذه المعلومات حين يطرحها الراوي الرئيسي المشرف الكلي المعلق تكشف بما لا يقبل الجدل عن موقفه المنحاز للعائلة العربية. فالأم العربية تستقبل صديقة ابنها في بيتها بحفاوة، وترى في عينيها لون نوار العلت، رغم أنها أمّ مهجرة من قريتها الطنطورة.

“نوار العلت” رواية تستلهم أحداثها من الحاضر، من الواقع الراهن، حيث الصراع يأخذ منحى جديدا بناء على عاملي الزمان والمكان وما تولد عن ذلك، فالجيل الحالي يتزوّد بعلم وثقافة ورؤى فكرية مؤدلجة، يستفيد من الماضي ويتعلم من تجارب السابقين، وبالذات من أخطائهم. لا تتوصل الرواية إلى حل نهائي، كما يتمنى البعض، وليس من شأن العمل الأدبي والعمل الفني أن يعملا على حل قضايا كبرى، يعمل الفن على معاينة الماضي والحاضر للاستفادة منهما. لكن ما لا شك فيه هو الإصرار على التمسك بالهوية العربية الفلسطينية بكل مركباتها، رغم تبدل الزمان وتغير صورة المكان وما عليه.

 

التخييل الروائي

تحدثنا أعلاه عن بعض عناصر الرواية ومركباتها، وقلنا إنها تمتح أحداثها من الواقع، ومن صلب الصراع الفلسطيني اليهودي، فأين الجديد إذن؟ إنّ هذا الصراع لهو واقع نحياه كل يوم، نقرأه ونسمعه عبر كل وسائل الإعلام، ونشهد أحداثه دون أية وسيلة مساعدة. إنّ الرواية عمل فني في أساسه، وليست صورة طبق الأصل عن الواقع، وبالتالي لا تصوِّر الحياةَ في شكلها المتكامل، بل هي تقتطع منها صورا وأحداثا، تماما كما يفعل الرسام حين يصور يدا مقطوعة، أو وعاء طعام فارغا، أو يرسم طفلا تدمع عيناه.

فالتخييل أساس العمل الأدبي والفني، وبدونه سيكون العمل الروائي سردا تاريخيا أو كلاما مباشرا، “معلوم أنّ التخييل هو ما تتفتّق عنه المخيّلة من صور ومشاهد تستمدّ عناصرها من الواقع المحسوس والمرئيّ، ولكنّها تعيد صياغته وتوليفه بحسب الموقف أو الحكاية المبتدعة التي يتوسّلها الروائي لينسج عالمه الخيالي ذا الصلة بالعالم الخارجي… ونتاج التخييل هو ما نسميه المتخيَّل وعلى رغم أنّ المتخيل هو عالم مستقل، قائم الذات نتيجة للغة والرموز والأخيلة، فإنّ صلته بالمرجعية الخارجية تنتظم عبر اللغة والدلالة والتقاطع بين الواقعي والرمزي في مجرى الحياة”. (برادة، محمد. الرواية العربية ورهان التجديد. دبي: مجلة دبي الثقافية، 2011. ص80)

اعتمادا على قول الباحث محمد برادة، أعلاه، فإننا بحاجة إلى إعادة النظر في مفهوم “الواقع”، وفي بيئة الفنان ومحيطه. إذ بات البعض يعتقد طبقا لذلك أنّ الفنان/ الروائي لن يكتب إلا بناء على الواقع الذي يراه، وبناء على البيئة التي يعيش فيها. نعود لنؤكّد على أنّ الفنّان يقتطع من واقعه مشاهد وأحداثا، لكنه لا يرسمها وفق الأصل، ولا يصوّرها صورة فوتوغرافية.

على الروائيّ، أيّ روائي أن يُقنع القارئ بشخصياته التي خلقها، وذلك من خلال منطوق هذه الشخصيات التي تتحدث بلسانها وفق واقعية الأحداث الداخلية لا الواقعية الخارجية، لأنّ العمل الفني يخلق منطقا خاصا به، وليس ذلك مقتصرا على العمل القصصي بل هو سمة هامة من سمات الشعر أيضا. لكنّ ذلك لا يعني بتر العمل الأدبي نهائيا عن الواقع الخارجي فهو، كما قال بعضهم “المرآة والنافذة”، بكل ما يحمله هذا القول من عمق ودقّة. فهل على القارئ أن يرى إلى الحدث الرئيسي كإشارة إلى شبيه له في الحياة اليومية؟ وبالتالي هل يرمي محمد علي طه إلى معالجة قضية زواج العربي من يهودية؟!!

لو كان هذا هو الموضوع الحقيقي لكان أولى بالكاتب أن يعبّر عن رأيه من خلال مقالة اجتماعية يقوم بنشرها في بعض المواقع يعطي فيها رأيه مباشرة، لكنّ أساس العمل الأدبي هو قدرته على التشظّي، وتوظيف لغة غنيّة قادرة على السرد والتوصيف والترميز، وفتح باب التأويل على مصراعيه، وخلق فجوات نصية يملأها القارئ وفق ثقافته، وبالذات القارئ “السوبر”، كما يقول ميشيل ريفاتير، أو النموذجي والموسوعي، كما يقول غيره،.

ينشغل محمد علي طه، مثل معظم الأدباء والمفكرين الفلسطينيين بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي بكل أبعاده المباشرة وغير المباشرة. لكنه، كروائي، لا يدخل في تفاصيل الصراع ولا في أسبابه ونتائجه فذلك دور المؤرّخ لا الأديب. فقد فتح غسان كنفاني النقاش مع الآخر على مصراعيه في روايته “عائد إلى حيفا”، وكان حوارا على أكثر من مستوى، جمع فيه بين المرأة اليهودية وبين سعيد وزوجته صفية، وأجرى بينهم حوارا إنسانيا، كان في خلفية هذه المواجهة حوار خفيّ مع الحركة الصهيونية حيث لا مهادنة. يدير طه في “نوار العلت” حوارين: الأول بين أناس عاديين ينتمون لقوميتين وديانتين مختلفتين، قد يختلفون فيما بينهم في أمور الحياة اليومية وقد يتفقون، والثاني بين أيديولوجيتين متضادتين متناحرتين ليس الحب حلا لهذا الصراع الأيديولوجي، وهذا هو الجانب الأقوى في عملية التخييل، حين يجمع بين الشاب العربي الفلسطيني والطالبة اليهودية صدفة في مقصف الجامعة ويتحابان، فكانت النهاية درامية؛ مقتل الشابة اليهودية، وما يحمله ذلك من دلالات وأبعاد فكرية واجتماعية وسياسية.

قد تكون فكرة الرواية المباشرة مستمدة من خبر في إحدى وسائل الإعلام التي تحدثت عن مقتل صبية يهودية واتهام شاب عربي بتنفيذ ذلك حتى قبل القيام بعملية التحقيق. هذا الخبر يشبه في حياتنا اليومية، بهذا الطرح، خبرا عاديا، لكنه حين يتحوّل إلى عمل روائي عمدته التخييل تصبح “القصة” أكثر أهمية، وذلك من خلال توظيف تقنيّات فنية تعتمد على تهشيم الزمن، وعلى سرد ووصف عمادهما اللغة الفنية بمستوياتها المختلفة، وإقامة حوارات حاذقة، والانتقال من مكان لآخر وفق الضرورات الفنية، مما يجعل النص قابلا للتصديق بفضل عوامل التخييل وتقنيّاته المتعددة.

يتغيا الروائي محمد علي طه من خلال هذا العمل، كما ذكرنا، أن يتحدث عن موضوع حارق يتعلق بحياة العربي اليومية وما يتعرض له من ظلم وضيم نتيجة السياسة العنصرية، فاختار الحديث عن مقتل فتاة يهودية في منطقة عربية، لتبدأ عملية البحث عن الجاني، ثم تتشظّى الحكاية وتتفتّق عن عوالم تجمع بين الواقع والخيال، وتبنى الأحداث وفق منطق المبنى الفني الروائي مع التشديد على أهم الميزات الخاصة التي تتعلق بحياة العربي ومعاناته اليومية في أكثر من مجال، بحيث يصبح النص “منطقيا” وفق عاملي المكان والزمان، واعتمادا على سارد قادر على الحفاظ على بُعدٍ ما من الحكايات، بحيث يبدو محايدا، يساعده في ذلك توظيف تقنيات رواية تيار الوعي التي تحيّد السارد الرئيسي، ومن ثم تحيّد الروائي، وذلك من خلال المونولوج، والحلم والذكريات والاستطراد، أو الوقف أحيانا، وخلق الفراغات النصية ليصبح القارئ جزءا من عملية الخلق لا مجرد مستقبل سلبي. وكي تتحقّق عملية التخييل وظّف الروائي المفارقات الزمنية وتهشيم التسلسل الزمني وحاول جاهدا توظيف أكثر من صوت عبر تعدد الضمائر وتسليم السرد لرواة ثانويين بهدف خلق رواية ديالوجية، وهي خطوة نحو الأمام مقارنة مع روايته الأولى “سيرة بني بلوط” لكنّه لم يرخ للرواة العنان، ولم يفلتهم من عقاله فكانت حرية مقيدة.

لقد أجاد محمد علي طه في توظيف كل هذه التقنيّات بالذات في توصيف المكان بكل ما يحمله من ميزات محلية خاصة، لذلك كنت أتمنى على الروائي أن يسلك أكثر سبيل الإيجاز والتلميح بعيدا عن الإطالة والاستطراد أحيانا.

يسلك الكاتب في هذه الرواية سبيل المغامرة، وقد تجلى ذلك في أكثر من جانب، بدءا من الموضوع ذاته، نظرا لما فيه من حساسية. أما المغامرة الكبرى فهي في مجال الحوارات بين شخوص الرواية بهدف تعدد الأصوات، وهي في معظمها أصوات متناقضة تمس صلب القضية الفلسطينية في بعدها الأيديولوجي، مما يفسح المجال للآخر المختلف أن يقول رأيه بوضوح قد لا يروق لبعض القراء، لكنّ الروائي، عملا بتعدد الأصوات فتح باب الحوار على مصراعيه بكل ما فيه من تناقضات بين كل الأطراف. في محاولة منه خلق رواية ديالوجية (حوارية) لا رواية مونولوجية (أحادية الصوت).

 

خلاصة وأكثر

“نوار العلت” واحدة من الروايات الفلسطينية الحديثة التي تعمل على زرع الثقة يالذات، وتساهم مع بعض الروايات في معاينة ومتابعة الصراع العربي اليهودي في إطاره اليومي، وفي حدود الفكر الأيديولوجي على أرض الواقع بعيدا عن التاريخ، قريبا من الواقع اليومي المعاصر. نشر محمد علي طه عدة مجموعات قصصية تناولت القضية الفلسطينية منذ الانتداب البريطاني مرورا بالنكبة والنكسة وما تبعهما. لكن اللافت حقا أنّه يحسن الإفلات من التاريخي باتجاه الفني، من ناحية، ويدخل في عمق الحياة اليومية للإنسان الفلسطيني في أبعادها الاجتماعية والفكرية من ناحية أخرى. وهو يفاجئنا، بعد تجربته الطويلة، حين يعالج قضايا شبابية، لكنها، بلا شك، نابعة من حكمة الكبار ونضوجِ تجاربهم التي تجعلهم حريصين على مواكبة كل صغيرة وكبيرة بقلق وانفعال يحدوه الأمل بمستقبل أفضل.

يتعدى محمد علي طه في روايته الجديدة مواضيعه التقليدية، التي أجاد فيها، ودخل في مغامرة جديدة حين حمّل روايته بُعدا بوليسيا، عبر تحقيقات تمتدّ على حيز واسع من الرواية، هذه التحقيقات التي تضع “الجاني” نصب عينيها لإلصاق التهمة به نظرا لانتمائه القومي، دون حاجة إلى برهان أو دليل يدينه، لكن المتهم يخرج هذه المرة من التهمة بريئا، ويحقق نصرا على خصمه رغم عدم توازن القوى.

لا تقدم الرواية نصرا فلسطينيا مجانيا، ولا تتحدث عن “نصر” دون معاناة، ولا عن بطولة خارقة لشاب قادر على الوقوف في وجه دبابة، أو في وجه جندي مدجّج، بل رسمت صورة للمعاناة اليومية التي يتعرض لها المواطن العربي هنا، وإمكانيةِ الوقوف في وجه الآخر بثقة وثبات شريطة التسلح بالفكر الاجتماعي الواعي الحر، دون الاكتفاء بالفكر السياسي التنظيري فقط. إنها واحدة من روايات المقهورين الذين لا يفقدون الأمل.

إن صمود الأخوين في وجه المحققين، رغم ممارسة كل وسائل الضغط والترهيب، وانتزاعَهما البراءةَ وسجنَ القاتل اليهودي الفاشي يحمل رسائل وإشارات واضحة تصوّر العربي الفلسطيني الذي يواجه “دولة اليهود” مواجهة فكرية، لأن الصراع الحقيقي هو صراع فكري، قبل أن يكون صراعا آخر. ولم تكن النكبة والنكسة لتحدثا لولا ضعف الفكر العربي وانعدام الوعي. رواية “نوار العلت” واحدة من الروايات الفلسطينية القادرة على محاورة الآخر، بسلاسة، وقادرة على إقامة نقاش بين مؤيد ومعارض لدى القراء على اختلاف الانتماءات الفكرية والعرقية، في حال ترجمت إلى لغة يقرأها الملايين. لم يكن عفوا أن تترجم رواية “عائد إلى حيفا” إلى أكثر من لغة لأنها طرحت قضية مقتطعة من واقع مؤلم يمكن أن يُحرِّك مشاعر أي إنسان حيثما كان، وعرضت حوارا إنسانيا بين أناس عاديين ينتمون لأيديولوجيات متناحرة، بعيدا عن التشنجات والصراخ رغم صعوبة الموقف.

يحاول محمد علي طه أن يقيم مشروعا روائيا يعاين من خلاله مسيرة العربي الفلسطيني بدءا من المواجهة مع الانتداب البريطاني، مرورا بالنكبة وانتهاء بالصراع الفلسطيني اليهودي اليومي بناء على المتغيرات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وذلك من خلال رواية “سيرة بني بلوط” (2004)، والسيرة الذاتية “، نوم الغزلان” (2017) ورواية “نوار العلت” (2021)، فحملت هذه المؤلَّفات وجهة نظر الروائي الذي عاش أهم الأحداث السياسية منذ النكبة وحتى اليوم.

تعالج الرواية الصراع العربي اليهودي من زاوية أخرى تلائم جيل أبناء القرن الواحد والعشرين، من خلال المواجهة اليومية المباشرة، وبالتحديد من خلال حياة الطالب العربي الذي يدرس في الجامعات الإسرائيلية وما ينتج من صراع داخل البيت الواحد؛ نقاشات الطلاب العرب، واختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية، والنقاش مع الآخر؛ اليهودي الصهيوني، سواء انتمى للفكر “اليساري” أو الفكر “اليميني”. يبحث الفلسطيني عما يعوّضه عن الانكسارات والهزائم، فذهب باتجاه تثبيت الإيمان بصدق قضيته والحفاظ على الهوية بمفهومها الواسع. عمل الروائي على إبراز أكثر من صوت لتوضيح الصراع الحاد بين الخصوم، وقد عمد، أحيانا، إلى كشف بعض ملامح الشخصيات عبر سرد مباشر بعيد عن اللغة الشاعرية الروائية، وبرأيي أن ذلك لم يساهم في تعدد الأصوات، إذ هناك تقنيات قام الروائي بتوظيفيها بصورة رائعة في مواقع أخرى تعتمد على التلميح والترميز.

بناء على عالم رواية “نوار العلت” واختلاف المكان والزمان والشخصيات فقد تجرأ الروائي على إقحام مشاهد جنسية لم نألفها في كتاباته، أو في كتابات معظم الروائيين الفلسطينيين، فقد يكون وجود شخصيات يهودية تنتمي لثقافة أخرى وبيئة مختلفة عاملا مساعدا يتيح للكاتب ولوج هذا الجانب، مما يساهم، برأينا، في تبيان الفرق بين فكرين لا يقتصر اختلافهما على الرؤية السياسية، بل يتعداه إلى الجانب الاجتماعي.

هذا المزيج من الأصوات ومن الآراء ووجهات النظر الاجتماعية والسياسية يستدعي توظيف لغة تتجاوب مع هذا التناقض الفكري. تستحق الرواية وقفة مطولة مع اللغة وتعدّد مستوياتها من ناحية وتوظيف ما أسماه باختين وغيره “التهجين” كأسلوب يساهم في توليد لغة جديدة خارج إطار اللغة الفصيحة المعيارية التي تُوظَّف في كتابة الرواية والقصة القصيرة التقليدية، فقد وجدنا الروائي يقحم مزيجا من اللغة الفصحى والعامية، وما يسمى بالعامية المفصحة، وهذا ما اعتمده الكاتب في إنتاجاته السابقة. كما نجد أن الروائي يقحم كلمات “عصرية” أو “حديثة” من عالم لغة الشباب تتعلق باللباس والعطور والمأكولات وغيرها تعكس كلها، معا، الفكر الشبابي.

نحن أحوج ما نكون إلى بناء عالم روائي متكامل يرصد المكان والزمان وأبعادهما الاجتماعية والسياسية والفكرية، ويكمل مشروعَ الروائيين الفلسطينيين الذين وضعوا اللبنات الأولى لهذا المشروع الكبير، يقوم به مجموعة من الروائيين، ويبدو لي واضحا أن محمد علي طه يدرك جيدا أهمية هذا المشروع فكتب “نوار العلت”.

لا يكتب الروائي اليوم من أجل تغيير يقتصر على بيئة محلية، فهو اليوم يكتب مخاطبا هذا العالم “الصغير” الذي لم يعد شاسعا وبعيدا ومشتَّتا وفق شريعة الجغرافيا وقوانينها الحدودية التي تفصل بين مناطق ودول وقارات، فالعالم متشابك متداخل تراه أمام عينيك مُجتمِعا في كفة يديك. وبات الكاتب اليوم عرضة للتأثّر والتأثير بعد أن كان رهين محيطه البيئي الضيق.

 

                                                                                                              رياض كامل

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .