ملك كوميديا السينما الصامتة في أميركا

C17N4
قبل خمسين عاماً رحل أكبر كوميدي أميركا باستر كيتون (1895-1966)، تاركاً وراءه إرثاً ثميناً، طليعياً، وإبداعياً، من الأعمال الكوميدية بدءاً من «السينما الصامتة»، إلى الناطقة بالأبيض والأسود، فإلى الملونة. وقد تمكن بموهبة فذة من التكيف مع هذه التحولات، لكنه أحس بالغربة في كل مراحلها (على عكس شارلي شابلن الذي تزامن وجوده معه في البدايات).

«باستر» لقب اختاره له والده ويعني «مغامر». كما سمي أحياناً «الرجل الذي لا يضحك أبداً» على نقيض شارلي شابلن. نشأ في عائلة من الممثلين: والده جوزف هالي كيتون ووالدته ميرا إيديث كاتلر كانا يمثلان في الكاباريه. إذاً نشأة هيأت لهذا «العبقري» أن يتربع على قمة الكوميديا الهوليوودية.

فهو يمارس اللعب الهزلي (المفاجئ دائماً) بدقة الجوهرجي، ومشهد واجهة البيت عندما تسقط فوقه (ويخرج منها)، في فيلم «كاديه»، أو رمي كرة المدفع في فيلم «الميكانو» هما قمة الأسلوب الآلي الكيتوني. فهو دائماً يفاجئ الجمهور. يأتي من حيث لا تنتظره ويدفع الجمهور إلى تكهن ما سيحصل وأخيراً ليباغته بلعبة لم تخطر ببال المتفرج، كما في فيلم «البيت»، حيث يعمد كيتون إلى رفع المنزل المستحيل رفعه عن سكة الحديد، لأن هناك قطاراً يبرز آتياً، لكن منزله يتحطم قطعاً قطعاً، من قطار آخر آتياً من الجهة الأخرى.

ويتمتع هذا الممثل الذي أسرني قبل أيام عندما بثت «آرتي» (الفرنسية الألمانية) حلقتين عنه، وعرضت بعض أفلامه، ولقطات مثيرة من مشاهده، بحس دقيق بالمكان، وبالأشياء وبالأحجام، فمشاهده الطويلة «الترافيلينغ» نماذج لهذا النوع، كما في «المخطوبات في الجنون»، فالسيطرة على مراحل القيم، وتقنياته: المونتاج والوسائل البصرية المركبة، تظهر مواصفات الإخراج العالية عنده.

وكان «الكوميديون الهزليون في تلك المرحلة يستخدمون شخصيات ظل يكتشفها المتفرج مباشرة: شابلن ببدلة المتشرد، وكيتون بقبعته، وملبسه السلس، وفرقة هارولد ليود والنظارات…

وكيتون الذي سمي «الرجل الذي لا يضحك أبداً»، يستخدم هذه الواجهة بوجه هادئ وأعصاب باردة، ليضع الشخصيات في مواقف ليس لهم فيها مكان ولكن جاهزون دائماً للمواجهة. في «رحلة» النافيغاتور لقاء مع حبيبته المقبلة، أن يعيش كثنائي، وحتى كثلاثي، لأن السفينة، وهي همزة الوصل بين الممثلين، هي جزء من السياق. هذا الفيلم يجعل من كيتون الرجل ذا المرأة الواحدة.

لكن الغريب أن كيتون في حياته هو نقيض شخصياته، فقد تزوج مرات عدة. فعلى الشاشة، ليس لشخصيته موقع اجتماعي محدد، والمال لا يعني له في «شارلوك جونيور»، هو مصور يهرب عبر الأفلام التي يصورها، لكن في سعيه للحب، يضع النجاح الاجتماعي في المرتبة الثانية. ففي «الكاميرامان» لا يهمه سوى المرأة التي يحبها.

وما يميز هذا الممثل امتلاكه ثورة عجيبة على تحويل الأشياء عن وظيفتها الأولى. والأشياء المتحولة هذه تفرض أحياناً على كيتون سياقاً مختلفاً عن المنطق الواقعي في موقف لم يختره حيث يجب أن يواجهه. فمثلاً، في «ميكانو» يجعل جزئياً من «ميكادو» عملاقاً بفروع كثيرة من الأشجار. ولهذا فالمادة تكتسي عنده أهمية رئيسية. إنها مغرية بصرياً. في فيلم «الأجيال الثلاثة» يلعب باستر «البيسبول»، بضربة من شريكه يوجه فيها الطابة نحوه. فهي على بعد أمتار عدة، أما تحقيق هذه اللقطة فتطلبت ساعات من التحضير وعدداً من التكرار. وفي «شيرلوك» عندما يتبع البطل «الشرير»، يرمي هذا الأخير سيجارته في الهواء، ومرة جديدة، يصوب كيتون بدقة متناهية السيجارة في الهواء ويأخذ في التدخين، وعندها، فالظل الفيزيقي لـ»الشرير» وهذا التحول يتجسدان، ليحولا وظيفة «الشيء» ليبرزا اختلاف البطل عن الشرير: أي السيجارة.

لكن ما ساعد كيتون على فرض هذا الإيقاع المفاجئ أو غير المنتظر، أو اللحظوي المتراكم في فضاء العمل ككل، هي تربيته الفيزيقية، ثم خفته، وقدرته على أداء حركات متعاكسة في المشهد الواحد. نحيل، عصبي، «سيركي» في لعبه على عناصر المكان، والأشياء، والديكورات، بدقة متناهية. الخفة، الحركة، اللعب، البلهوانية، كل هذه العناصر غذّت إيقاعاته المتعددة، والمتضاربة، والمعاكسة، والمرنة، والصلبة، مما شدّ البناء العام للعمل: والإيقاع هو البنية في النهاية. وهذا بالذات ما يميزه عن شابلن من حيث الجهوزية الجسدية، والسرعة، والسلاسة، ومتانة الحركة. لم يكن يمتلك شابلن مثل هذه المواصفات، فلا هو خريج السيرك، ولا رشاقة الأداء.

لكن أهم ما يميز الإثنين عن بعضهما، أن «باستر» لم يكن منخرطاً لا في السياسة، ولا في الإيديولوجيات، ولا حتى في القضايا الاجتماعية (إلا لماماً أو في بعض أعماله)، بينما نجد أن شابلن عنده «موضوع» يعالجه في كل عمل: مكنته الإنسان، وقولبته، أو الفقر «The Kid»، أو الحروب، أو تناول شخصيات معينة كـ»هتلر»، من دون أن ننسى أن شابلن اعتنق الإيديولوجيا اليسارية، وقد طاردته ملاحقات هوفر والمكارثية، حتى غادر مع العديد من الفنانين أميركا إلى أوروبا: كـ اورسون ويلز مثلاً!

لكن إذا كان كيتون حقق نجاحات مذهلة في أفلامه الصامتة، فإن السينما الناطقة خففت من هذا الحضور. فمحاولاته السينمائية الأولى في السينما الناطقة لم تلق نجاحاً يُذكر. فصوته فاقد الانسجام مع شخصيته، وكل مواقفه وأداءاته خضعت للتغيرات، فخفته وتعابيره الجسدية وضعت على الهامش بوجود الكلمة واللغة. وبسرعة فقد السيطرة الفنية على أفلامه (مثل شابلن)، ما سدد ضربة قوية لمهنته.

وبعد براعته «المصور»، وجد انه فقد استقلاليته الفنية، وابتداء من 1930 بعد هذا الفيلم. وقد زاد الطين بلة زواجه من ناتالي تالدمادج (ابنة منتج هوليوودي الكبير)، ثم اهملته الاستديوات، فغرق في الكحول.

وعلى امتداد اربعين عاماً لم يعد يعمل سوى افلام مراقبة ومصححة من قبل المنتجين. لم يعد مخرجاً بل مجرد ممثل. وما آلمه، انه، وبعد حضوره المشع السابق، صار يعطى ادواراً صغيرة.

من ابرز اعماله الغزيرة ما هو افلام قصيرة، وافلام طويلة.

القصيرة

«فتى الجزار» (1917)، «La Noce de fatty« (1917) و»Fatty bishop« (1918)، و»One weet» (1920) و»الفزيعة» (1920) و»The klay house« (1920) و»البيت المسكون» (1921)، و»الباخرة» (1921) و»مجد والخطاط» (1921) و»The fozen north« (1922) و»الساعاتي العاشق» (1934). و»البيت الكهربائي» (1922) و»شرطي رغما عنه» (1934) و»مايسترو وغماغه» (1936) و»ديتو» (1937) و»Hollyood handicap» (مخرج)، (1978)، «Nothing but pleasure« (1940) و»General neisace» (1941)، «فيلم» (1965).

الأفلام الطويلة

«The three ages» (1923)، «قوانين الضيافة» (1923)، شيرلوك جونيور (1924)، «البحار» (1924)، و»بقرتي وأنا» (1925) «رياضي حباً» (1927)، «The camera miau« (1928) و»هوليوود تغني وترقص» (1929)، و»المخرج» (1930)، و»باستر مليونيرا» (1931)، و»البرونس» (1930) و»باستر مليونيرا» «1931)، و«البروفسور» (1932) و»ملك البيرة» (1933)، و»ملك الشانزليزيه» (1974) و»قبلة من فضلك» (1935)، و»فردوس لباستر» (952)، و»حول العالم في 80 يوماً» (1956)، و»Pajama party« (1964).

وأخيرا اعود الى تلك اللحظات الرائعة التي عشتها مع هذا الفنان المدهش، سواء بتتبع مراحله من السينما الصامتة الى الناطقة (ومجده وانكساراته)، أو بالاستمتاع ببعض افلامه «العجائبية» التي عرضت على «ARTE« على مدى يومين، بمناسبة الاحتفال بمرور نصف قرن على رحيله.

تقاسم الحضور الأخاذ مع شارلي شابلن، وهما يتشابهان في المناخ السينمائي العام، ويختلفان في معالجة الأمور والمواضيع.

لكنهما اجتمعا بعدما تقدمت بهما السن، داخل زمن السينما الصامتة، ليقدما فيلماً رائعاً سوياً، كان هذا الفيلم.. وداعاً مراً، فيه من الحنين الى الماضي، بقدر ما فيه امل في مستقبل السينما الهوليوودية! لكن بكل اسف.. لم يكن المستقبل مهماً!

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .