من المآخذ التي توجه إلى المثقفين، أنهم مذنبون كبار. فهم لم يحترموا العهود التي قطعوها على أنفسهم بالابتعاد عن السلطة السياسية، وعدم الرضى بالاسترضاء والعيش في حاشيتها. بل على العكس من ذلك، انغمسوا فيها، وأحدثوا بذلك أذى وضرراً. وحين توصلوا إلى الحكم، تسببوا بمصائب وكوارث، وذلك من خلال تجييش المجتمع وعسكرته، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء فهم تلك السيرورة التي تتناقض مع جوهر ما عرفوا به وتأسسوا عليه، من أنهم خلقوا ليحافظوا على الثقافة ويصونوها وينقلوها. ولهذا قالوا عنهم أنه بدل أن يقوموا بوظيفتهم ويحافظوا على دورهم، أصبحوا نقاداً وسلبيين. ولم يلبثوا أن تحولوا إلى التهجم على السلطة، وبذلك خدعوا الشعب في جميع ا لظروف الهامة كافة.
ويتهم المثقفون عادة، بأنهم أصحاب نزعة “دوغمائية”. فهم يصدرون عن مبادئ مجردة غير ملموسة، ولهذا لم يكن باستطاعتهم أن يقرروا ما ينبغي فعله ويتوجب عمله، وما ينبغي أن يرفض جزئياً أو قطعياً. ولهذا نرى من ينادي بالفم الملآن بموتهم، وذلك تحت تأثير أفكار، تطلق التكهنات بزوال هذه الطبقة من الناس، الذين يدعون معرفة كل شيء، ويتنبأون باضمحلالهم، لأن تقدم العلم سيفضي لا محالة، إلى الاستغناء عن هؤلاء الموسوعيين المزعومين، بأن يحل محلهم فرق من الباحثين المختصين، التخصصات الصارمة والدقيقة.
والواقع أن المثقف في بلادنا، وفي بلاد الغرب، منشأه التاريخي، هو إنسان يتدخل، ويدس أنفه في ما لا يعنيه في كثير من الأحيان، وربما بدوا في الأصل والمنشأ، مجموعة متنافرة من الناس، مالوا إلى بعض الشهرة، لاشتهارهم في أعمال ذات صبغة فكرية، ولكنهم تخطوا حدود معرفتهم وتصدروا النقاشات على المنابر التي تنتقد المجتمع والسلطة بتصورهم الاجمالي الدوغمائي.
وإننا نتساءل عن هذه المآخذ الأساسية، وما إذا كانت مطابقة للواقع أم لا، وما إذا كان المثقف يتجاوز صلاحيته، وهو لهذا يلام، وينظر إليه، نظرة فيها الكثير من الحقد والخبث. وحتى وقت قريب كان المثقف يتصدر المجتمع لأنه يحوز على العلم والمعرفة. وعند احتكاكه برجال الدين، كان يؤخذ عليه علمانيته من جهة وعقلانيته من جهة أخرى. وكانت القراءة الثقافية لألوان الحياة المتعددة، يجب أن تكون برأي رجال الدين من اختصاص أهل الدين. ولهذا نرى كيف بدأ التباعد بين المثقفين ورجال الدين. وعندما احتاجت السلطة لرجال الدين في مشروعها الشمولي الطغياني، أبعدت طبقة المثقفين، وأدنت منها طبقة رجال الدين.
وعندما تقدمت البرجوازية، على الارستقراطية والشمولية، وجدت من مصلحتها، نزع الصفة المقدسة عن سائر القطاعات العملية. وكان من مشروعها علمنة القطاعات المقدسة، انطلاقاً من تصور اجمالي عن العالم: أي من أيديولوجيا. مما أوجد “أزمة الفكر”، لأن رجال الدين، ليس بإمكانهم تشييد هذه الايديولوجيا وإنما اختصاصيو المعرفة من فلاسفة وأطباء ورياضيين ورجال أدب وحكماء. فتقدم العقل ليحتل مكانه من جديد. وتقدم المثقف ليلعب دوره، في تصوره العقلاني عن الكون والعالم، ويثبت نجاعته وفعاليته في ميدان علوم العصر وتقنياته.
ومع العودة إلى العصر الديني في البلاد العربية اليوم، عاد رجال الدين لطلب يد السلطة والتعامل معها على قاعدة وحدة المسار والمصير. وعاد المثقف ليجد نفسه منبوذاً، ويعيش بأسى عميق محنته التاريخية من جديد مع السلطة. وبدا تقني المعرفة المنشق عن المثقف، يجند من الأعلى، وما عاد يجد نفسه في نفسه، ولا في طبقة المثقفين التي كما يبدو غيرت خطابها ولسانها، وبدأت تروج للديني.