لماذا يتفوق الشعراء على الشاعرات

يمثل تراجع أعداد الشاعرات اللاتي يكتبن بالعامية قضية محورية في عالم الأدب، ليس لأنها تعكس سيطرة الرجال على مفاصل الأدب العربي، بل لأن هناك ندرة في تقديم أعمال جيدة. لكن بعض النقاد يرون أن الترويج لعدم وجود شاعرات مبدعات هو اختلاق لظاهرة وهمية نتجت عن احتكار سمات الاختيار والنقد الأدبي لدواوين المرأة عموما، والظروف القاسية التي يفرضها المجتمع عليها.
 يشهد عالم الشعر انخفاضا في تنويعاته وإنتاجاته المختلفة، وبات الشعر العامي الأكثر تداولا بين الشعراء والقرّاء، ما جعل الكثير من المهتمين يسلّطون الضوء عليه، ويطرحون الكثير من القضايا المرتبطة به، بينها الغياب العددي للمرأة الشاعرة عن ذلك العالم الثري، وهو ما يثير تكهنات متباينة حول أسباب الظاهرة.
وهذا لا يعني عدم وجود شاعرات عربيات قديرات، فهناك مبدعات قدمن للشعر والأدب عموما نتاجا رفيعا، بما يتجاوز إشكالية التفرقة بين الرجل والمرأة في مجال الشعر أو غيره، لكن الوضع يبدو مختلفا في شعر العامية. وتدور في مصر الآن بدايات معركة أدبية لم تتبلور ملامحها النهائية بعد حول تواري شاعرات العامية.
احتل الرجال منذ صعود نجم العامية راية القيادة، بداية من بيرم التونسي ثم فؤاد حداد وصلاح جاهين، ومرورا بالشاعر عبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وسيد حجاب وزين العابدين فؤاد، ووسط كل هؤلاء لم تتقدم السيدات الصفوف، وأضحت ببليوغرافيا شعر العامية نائية تقريبا عن الشاعرات.
تنوع الكتابة
أكد الشاعر مسعود شومان، سكرتير تحرير مجلة شعر العامية (ابن عروس) تفوق الشعراء مقارنة بالشاعرات، من خلال دراسة أعدها، ظهر فيها التفوق الذكوري، وصدر 1018 ديوان شعر بالعامية بين عام 1981 و2000، ولم يكن نصيب المرأة منها سوى 93 ديوانا فقط.
وأوضح شومان أن الظروف القاسية على المرأة المصرية في ما يخص الإبداع، مثلت سببا مباشرا لتلك الظاهرة، فالشاعرة تواجه ظروفا اجتماعية
تمنعها من الوصول إلى أقصى درجة من التنويع في الكتابة، وهي مطالبة بأن تكون زوجة جيدة وأمّا صالحة، فضلا عن عملها الوظيفي.
وأضاف أن قلة عدد الجوائز التي تُمنح لشعراء العامية هي سبب آخر لإحجام المرأة عن كتابة شعر العامية، بجانب النظرة المتدنية التي يتعاطى بها النقاد والباحثون والأكاديميون مع القصيدة العامية.
غياب تواجد المرأة عن شعر العامية ليس مبررا بعدم وجود شاعرات بارعات يذهلن القراء والمستمعين بأشعارهن، فهناك نماذج جيدة مثل سهير متولي ووفاء بغدادي ووفاء المصري وكوثر مصطفى، لكن أغلبهن لم يواصلن الإبداع، وانتقلن إلى كتابة الأغنية وأخريات اعتزلن.
وقال حسين حمودة، أستاذ الأدب العربي بجامعة القاهرة، منذ فترة الخمسينات وحتى الثمانينات من القرن الماضي، كان الإسهام الأكبر في شعر العامية المصرية للشعراء، لكن الأمر في العقود القليلة الماضية تغيّر إلى حد بعيد، وأصبح هناك شاعرات يكتبن بالعامية، وتزايد عددهن مؤخرا، وحصدن بعض الجوائز القليلة التي تُخصص لشعر العامية.
ورغم وجود فجوة كبيرة بين أعداد الأعمال الشعرية للرجال والسيدات في العالم العربي، لكن يختلف الكثير من
النقاد على مسمّيات احتكار الرجال لذلك العالم، الذي يتحكم فيه البعد الإبداعي والموهبة بصورة أساسية.
ويدلل البعض من النقاد على تلك الفكرة بالتأكيد على أن الشاعرات أمثال فاطمة قنديل وأمينة عبدالله وإيرين يوسف وسامية مصطفى، حققن إنجازا مهمّا في مجال شعر العامية.
وتستطيع شاعرة مثل إيرين يوسف بديوانها “شبرا مصر” الصادر عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، مضاهاة الشعراء الكبار أمثال عبدالرحمن الأبنودي وسيد حجاب.
الحضور والغياب
أوضح الشاعر زين العابدين فؤاد أن سيطرة الرجال لا تنفي وجود شاعرات كُثر يكتبن شعرا حقيقيا يضعهن في مصاف المبدعات، وأنه في عام 2017 كان محكما في جائزة المسابقة المركزية للثقافة الجماهيرية لشعر العامية، وقرأ 150 قصيدة عامية، وأوصى بثلاث قصائد، من دون معرفة أصحابها، وتبيّن أنها لشاعرات، وحصلن على المراكز الأولى للمسابقة.
وأكد أن الهيئات الرسمية تدعو الشخصيات المشهورة لحضور مناسبات التكريم ومعظم الحاضرين من الرجال، وتبقى مشاركة النساء في الفعاليات الرسمية قليلة جدًا، إما لأنه لا تتم دعوتهن وإما لا يستطعن الحضور لظروف خاصة، ما يتطلب شجاعة كبيرة من الضروري أن يدعمها المجتمع لمساندة المرأة.
ولفت فؤاد إلى أن المجتمع العربي ذكوري في الأصل، ويبخس إبداع المرأة في سنوات مبكرة، ويقف عائقا أمام نمو قدراتها الإبداعية، وقد يمنعها من الظهور بحرية تامة.
وتضطر معظم الشاعرات في غالبية الفعاليات الثقافية إلى المغادرة في وقت مبكر لظروف مجتمعية ترفض وجودها خارج المنزل لوقت متأخر، وبعضهن لا يستطعن الخروج أصلا إلا بعد موافقة الأسرة، والتي يأتي ردها بالرفض.
وقالت الشاعرة عبير الراوي، الحاصلة على جائزة أحمد فؤاد نجم في دورتها الخامسة لعام 2018، إن جميع الشعراء يقفون على عتبة مُنجز الشعراء الكبار، ولا إنجاز لامرأة أو رجل في مجال شعر العامية في الوقت الحالي بعد رحيل العظماء (جاهين وحجاب والأبنودي ونجم)، وما يجري هو محاولات لا ترقى لكونها منجزات حقيقية تضاف لشعر العامية.
وشرحت أن غياب المرأة عن جزء كبير من المشهد الثقافي جاء نتيجة ما تعانيه المرأة من حالة الفصام السائد في المجتمع العربي، وقد يصيبها بالإحباط والسكتة الإبداعية.
وفي اعتقاد الراوي فإن المجتمع لا يبهره سوى الشكل الخارجي للمرأة ودرجة جمالها فيما يحجب عن رؤية إبداعها أحيانا، ولا يطلق عنان حسه الأدبي، “البعض يفضلن البعد عن الوسط الثقافي غير اللائق لوجودهن كمبدعات وبعضهن يحاولن محاربة هذه الفكرة المشوهة”.
وأشارت الراوية إلى أن المرأة تحاول سد الفراغ وتصحيح هذا الواقع وفرض وجودها من خلال إبداعات حقيقية، وإذا كان ذلك غير ملحوظ، فهو يحتاج إلى وقت ليظهر جليا أمامنا.
ويجزم البعض بأن ما تعيشه الشاعرات من تحيز هو سمة عامة لا تقف عند عالم الشعر والأدب وحده، لكنها سمة في المجالات التي تتبدل فيها المعايير لتتحول من قياس مستوى الإبداع والموهبة إلى معايير مرتبطة بالجنس واللون والدين.
وترى الناقدة نجاة علي أن بعض الشاعرات تركن كتابة القصيدة العامية وبعضهن يكتبن الفصحى، وثمة من توقفن لقلة الوعي بما يكتبن، لكن الأجيال الجديدة من الشاعرات يتواجدن بشكل جيد في الأدب بشكل عام.
وتضيف أثناء حضوري في لجنة تحكيم جائزة أحمد فؤاد نجم لعام 2018، قرأت من بين سبعين ديوانا المشاركة نسبة جيّدة لشاعرات، ورشحت شاعرتين للفوز، الأولى كانت زينب أحمد عن ديوان “أحراز من أوضة على السطوح”، والثانية عبير الراوي عن ديوان “الأكل في الميت حلال”، وفاز الديوان الثاني، لكن الإعلام لم يلق الضوء على الشعر الحقيقي للشاعرات، ولذلك يحصل الشعر الرديء على مساحة من الانتشار، ولا يستطيع القارئ التمييز بين الجيّد والرديء”.