جمعتْني سهرةٌ بيتيةٌ انيسة بعددٍ من الاصدقاء منهم ابو صلاح امين صادق الذي يرافقني كظلي وارتاح لمجالسته. دار الحديث حول شؤون مختلفة، لكنّ حصة الاسد كانت لقضية إضراب المدارس الاهلية، باعتبارها قضية آنية ملتهبة تُشغل بالَ الرأي العام، كما تمَّ التطرقُ – بطبيعة الحال- الى المقال الذي كنتُ قد نشرتُه قبل بضعة ايام بعنوان “أنا اتّهم المدارسَ الاهلية”.
قال احدُهم: “فهمتُ من المقال ان المدارس الاهلية هي كزيتون بلادنا تجذّرا”. فاجابه آخر بألمٍ بيّنٍ : “طبعا، وكزيتونِ بلادِنا يُجابهُ الاقتلاع َ “. تدخل ابو صلاح قائلا: “يا جماعة بلاش تقلبوها همّ، بكفينا هموم، خلوا جو السهرة مسترخي”. ثم تابع ابو صلاح حديثه موجها الكلام اليّ بابتسامة قائلا: “مَنْ يحضِّرُ لائحة َ إتهامٍ ، يُتوقَّعُ منه تقديم الشهود ايضا. فاين هم؟”.
إنسجاما مع الاجواء المسترخية في السهرة، كِدتُ أجيبُه ممازحا “الله بشهد”. لكني امتنعتُ عن ذلك، لاني تذكرتُ قصة ً لطيفة كنتُ قد سمعتُها من صديقي الكاتب المبدع سلمان ناطور، عن رجلٍ يهوى المبالغة وتهويلَ الامور. كان هذا الرجل كلما ارادَ ان يُقنع مستمعيه بصدقِ حديثه، يردّدُ بين الفينة والاخرى، تعبيرَ “يشهد الله يا جماعة”. فقال له يوما احدُ المستمعين اليه وقد سئمَ مبالغاتِه : “يا اخي جِبِلْنا شاهد غيرالله حتى نقدر نسْألو”. لذلك قلتُ لصديقي بلهجة جادة: ” انا في حِلٍ من تقديم الشهود، وذلك لأن المدارس الاهلية والجمهور العربي يعترفون بكافة بنود لائحة الاتهام، ومع ذلك أنا اعترفُ واقرّ انني عندما كنتُ اكتبُ لائحة الاتهام إيّاها ، كانت تتداعى الى تفكيري احداث وقصصٌ وحكاياتٌ عديدة ٌ مرحة ٌ إكتنزتْها خلايا ذاكرتي، منذ مطلع الخمسينات من القرن الماضي، فعلى سبيل المثال:
عندما اتهمتُ المدارسَ الاهلية بانها مؤسساتٌ تربويةٌ عريقة، تذكرتُ انني كنتُ قد دُعيتُ قبل نحو عشرين سنة لحضور حفل اقامتْه رابطةُ خريجي مدرسة تراسانطه في الناصرة، بمناسبة مرور 350 ىسنة على تاسيس المدرسة. كان عريف الاحتفال زميلي على مقاعد الدراسة وصديقي المهندس ايلي نخله (من الناصرة) طيب الله ثراه. قال ايلي في مستهل حديثه: “نحتفل اليوم بيوبيل ال 350 لتأسيس مدرستنا” واضاف بخفة دمه المعهودة وبابتسامته العريضة: “يُرجى من خريجي الفوج الاول ان يقفوا كي نتعرف عليهم”. تريّث ايلي قليلا وكأنه ينتظر فعلا وقوفَ احدٍ ما، ثم قال ضاحكا: “يبدو لي انهم لم يتمكنوا من الحضور هذه المرة”.
وعندما إتّهمْتُ تلك المدارس بانها بوتقةُ إنصهارٍ عملت على إذابة ما يفصلُ ابناءَ الشعب الواحد من حواجز طائفية واقليمية وغيرها، تذكرتُ افضالَ مدرستيَّ الابتدائية والثانوية ألأهليتين: مدرسة فسوطه الابتدائية الاسقفية الوطنية وكلية تراسانطة في الناصرة. الاولى أسّسها طيبُ الذكر المطران حجار في مطلع القرن الماضي، وكان يؤمُّها بالاضافة الى اولاد فسوطه، طلابٌ من القرى المجاورة مثل دير القاسي وحرفيش وعرب المواسي والمنصورة. اما كلية تراسانطه في الناصرة، فلقد كانت تحتضن في مطلع الخمسينات ، بفضل مستواها الراقي ووجود داخِليّة (اي قسم داخلي) فيها، طلابا كثيرين من النقب جنوبا حتى فسوطه والجش شمالا. وهكذا اتيحت لي كما اتيحت لغيري، فرصةُ التعرف على مئات الطلاب ليس من الجليل فحسب، إنما ايضا من النقب كالدكتور يونس ابو ربيعة(من اوائل الاطباء العرب في بلادنا والطبيب البدوي الاول على الاطلاق) ومن المثلث الجنوبي(الطيبه) كالمرحوم وليد صادق حاج يحيى(نائب وزير وعضو برلمان) ومن المثلث الشمالي(عين السهله) كالاستاذ وجيه عيسى كبها الذي كانت لي معه قصة ظريفة اوردها فيما يلي:
كان وجيه اعلى مني صفا واحدا. انهى دراسته في حزيران 1956، وغابَ كلٌّ منّا عن مسرح حياة الآخر. بعد نحو 16 سنة التقينا مرة اخرى. كان هذا اللقاء في مدرسة عاره الابتدائية، حيث عقدتُ كمفتشٍ جديد في وزارة المعارف، اولَ يوم دراسي لمديري مدارس المثلث الشمالي. وصلتُ قبل الموعد المحدّد بقليل. اخذ المديرون بالتوافد تدريجيا. كنتُ اتبادل مع كل منهم التحية وبضع كلمات تعارف. لكن عندما وصل الاستاذ وجيه قمْنا بمعانقة بعضنا بحرارةٍ بارزةٍ إسترعتْ انتباهَ زملائه المديرين وربما اثارت ايضا تساؤلات لديهم عن هذه العلاقة الحميمة بين ابن الجليل وابن المثلث. فقلتُ لهم في مطلع حديثي: “يقال يا اخوان، انَّ اقوى الصداقات نوعان: زمالة الدراسة وزمالة السجن. الاستاذ وجيه وانا تعلّمْنا في ذات المدرسة وقضينا في ذات السجن ثلاث سنوات متتالية”. لاحظتُ علاماتِ الاستغراب الشديد، بل الذهول، التي بدتْ على وجوه المديرين، فاردفتُ قائلا وانا ابتسمُ: “الاستاذ وجيه وانا كنّا زميلين في ذات المدرسة وفي ذات الداخِليّةِ ايضا”.
أمّا عندما “إتّهمتُها” (اي المدارس الاهلية) بانها دفيئةٌ رعت ونمّت طاقاتِ ابنائنا، فنسفت مقولةَ العنصريين “لا نستطيع ان نطالب الطالب العربي باكثر ممّا يملك من طاقات”، تذكرتُ القصة الواقعية التالية:
أجرِيَ في اواسط السبعينات امتحانٌ قطري في المدارس الحكومية الابتدائية العربية والعبرية. معدل التحصيل في المدارس العربية كان دون المستوى في التعليم العبري بصورة صارخة، ممّا استدعى دعوتي كعضو في لجنة مفتشي التعليم العربي(التي كانت مؤلفة آنذاك من الدكتور ابراهيم عودة والاستاذ اهرون زبيده وانا) لحضور اجتماع طاريء يُعقد في السكرتيرية التربوية في وزارة المعارف. دارَ نقاشٌ حاد حول الموضوع، شارك فيه احد المسؤولين الكبار في الوزارة، محاولا إقناعي بانه لا يوجد تمييز ضدّ التعليم العربي بدليل ان هناك بعض المدارس العبرية التي كان مستواها في ذات الامتحان متدنيا. أزعجني جدا هذا التبرير، فانفجرتُ ضاحكا بعصبيةٍ لاقول له وللمسؤولين الآخرين، دعوني اقصّ عليكم القصة الواقعية التالية:
مدير مدرسة ابتدائية عربية حكومية في احدى قرى الجليل التي تضمّ كمعظم قرانا الجليلية، أقلية ً مسيحية، قرّر في مطلع الخمسينات، ان يساعد خوري القرية في إعالة اسرته الكبيرة. قرّر المدير ان يعطي للخوري بالاضافة الى حصص الدين المسيحي القليلة، عددا من حصص الحساب في الصف الثالث الابتدائي. لم يكن هذا الخوري بالذات متعلما كما ينبغي ان يكون، ولم يكن ليعرف شيئا عن اساليب التدريس، كما لم يكن مواظبا على الحضور وعلى تعليم موضوع الحساب، بسبب التزاماته الكنسية ، فضلا عن إنشغالاته الاجتماعية العديدة داخل القرية وخارجها. بعد بضعة اشهر من بداية السنة الدراسية، إكتشف ابو محمود صُدفة ً أن ابنه محمود لا يعرف جدول الضرب مع انه في الصف الثالث. غضب ابو محمود جدا وقرر ان يذهب بصحبة محمود الى بيت الخوري مستفسرا ومعاتبا، قائلا للخوري: ” يا محترم، انت معلم الحساب ومحمود لا يعرف جدول الضرب!!”. أدرك الخوري ان موقفه حرجٌ، فاستدعى على الفور حفيدَه بطرس وهو زميل محمود في ذات الشعبة. سأل الخوري حفيده على مسمعٍ من ابي محمود : ” 5 ضرب6 كم تساوي؟” لم يعرف بطرس الجواب الصحيح، كما لم يعرف ايضا 4 ضرب 8، ولا 6 ضرب 9 الخ…..انفرجت اساريرُ الخوري قائلا: “شايف يا ابو محمود، لا تقول قضية مسيحي او مسلم، أنا ما في عندي تمييز، كلهم بعرفوش”.
اللهم إجعلنا من العارفين….
Hatimkhoury1@gmail.com