لمؤسساتنا العامة – وعلى رأسها سلطاتنا المحلية– الدور الأساسي في ضمان جودة حياة عالية، وذلك من خلال تزويد خدمات في مجالات حيوية عديدة ومنها التربية والتعليم، الثقافة، البنية التحتية، النظام العام، الرفاه، الرياضة والشباب، العمل وغيرها. لكن هذه المؤسسات –للأسف– لا تنشط من تلقاء نفسها؛ إنما هي منوطة بشكل تام بالموظفين والمدراء القائمين عليها، بحيث تتشكل علاقة طردية بين كفاءات ومهنية الموظفين والمدراء وبين مستوى عمل المؤسسة وجودة خدماتها. بناءً على هذا، فإن انتقاء منتخبي الجمهور وموظفيه حسب العلاقات العائلية، بدلًا من معايير مهنية وموضوعية، لهو محاولة إفشال، ولربما تقويض جدي، لقدرة مؤسساتنا على القيام بمهمتها الأولى، وهي تزويدنا بخدمات ذات جودة عالية. وهكذا، فإنّ المنظومة الحمائلية تضمن للحمولة توظيف أفرادها، وفي ذات الوقت، تصدّر لكافة أبناء المجتمع مؤسسات ضعيفة، تفتقر للمهنية وبعيدةً كل البعد عن تحديات المرحلة.
منذ سنوات عدة تحاول الحمائلية السياسية الحفاظ على مكانتها وقوتها في وجه الحداثة والتطور والديمقراطية. تُصب الجهود بالأساس في محاولات منع انفصال المتعلمين من أبناء الحمولة عنها، الذين يهددون بكسر هيمنة قيادة الحمولة وتشكيل قوائم انتخابية جديدة. من هذا الباب، وفي بدعة غريبة من ضرب الخيال، تم تشكيل آلية اتخاذ قرار جديدة تتقنع بالديمقراطية والمساواة وإشراك الجمهور، ألا وهي الانتخابات التمهيدية (البرايمريز) داخل الحمولة.
للوهلة الأولى يمكن أن نقع في فخ هذه الآلية الجديدة، والتي يمكن أن يستدل منها على تغييرات إيجابية في المنظومة الحمائلية. إلا أن الهدف الأساسي من هذه الألية هو تجذير الحمائلية وتثبيتها من خلال نصب فخ إشراك أفراد الحمولة في عملية اتخاذ القرار؛ وبالتالي إلزامهم باحترام “عملية الحسم الديمقراطية” والتي تفرز مرارًا وتكرارًا نفس الأوجه. بينما الحقيقة هي أنه لا توجد ديمقراطية، مساواة ولا إشراك في الانتخابات التمهيدية، إنما هي ألعوبة أخرى للحفاظ على المكانة والمنصب لمخاتير الحمولة.
إحدى النتائج البارزة للحمائلية السياسية هي تهميش الشباب والنساء وإقصائهم عن مواقع اتخاذ القرارات. بطبيعتها، المنظومة الحمائلية تبحث عن قائد يسيطر على قرارات أفراد الحمولة في دورهم الديمقراطي الأهم: التصويت. ولأن أفراد الحمولة يختلفون من حيث الجيل والقدرات والمواقف، فأن سمات القائد (من منظورهم) واضحة: رجل، متقدم في السنّ، غالبًا دون خلفية أكاديمية وصاحب قدرة على فرض رأيه (أحيانًا بالقوة). هكذا، دون تصريح رسمي ولكن بمثابة نتيجة حتمية، تقصي المنظومة الحمائلية الشباب والنساء من مواقع اتخاذ القرار وتقزم دورهم إلى واجب التصويت في يوم الانتخابات للرجل الذي اختارته الحمولة بآلياتها الرجعية والذكورية. من يريد سلطات محلية تكفل المساواة الجندرية ودور الشباب، في التمثيل أولًا وفي الممارسة في المرحلة التالية، يجب أن يضع الأصبع على المعيق الأساسي لتقدم النساء والشباب وهي الحمائلية السياسية.
رص الصفوف من أجل الحمولة، تتويج وحدة الحمولة بواسطة قائمة انتخابية، وغيرها من الشعارات النارية والرنانة تخفي في طياتها شرخ واضح لانتماءٍ أوسع: للبلد بأكمله. تعزيز الانتماءات المفُرقة في الحيز السياسي، وعلى رأسها الانتماء العائلي، يضعف بطبيعته الانتماء الجامع الأوسع على مستوى الحكم المحلي. وهنا، وجب التنويه أن الرباط العائلي-السياسي لا ينتهي في يوم الانتخابات، بل يستمر بعده في الممارسات المتواصلة لتسديد الفواتير الانتخابية لأفراد العائلة، على حساب الجمهور عامة، في محاولة لضمان النصر القادم. طبعًا، علينا أن نفخر بقدرة مجتمعنا في الحفاظ على الروابط العائلية وما يترتب عليها من دعم وتعاضد ووحدة حال، إلا أننا أيضًا ملزمون بأن نضع حدًا واضحًا وسَدًّا عاليًا للعائلة والحمولة وهو عتبة الحراك السياسي. لا يوجد أي منطق ولا تفسير يدعو لانتخاب الأفضل من الدائرة الصغيرة لأفراد العائلة عوضًا عن انتخاب الأفضل من الدائرة الواسعة لكل سكان البلد. من يريد مستقبلًا أفضلًا لبلده، عليه انتخاب المرشحين الأفضل للمناصب. وعليه، من يختار الأفضل من عائلته يضع، ولو دون قصد، مصلحة عائلته فوق مصلحة البلد ومستقبلها.
النتائج السلبية الناجمة عن أنماط التصويت الحمائلية وعن التداخل الشائع بين العائلة والسياسية تحد من تطور سلطاتنا المحلية وتبقيها عالقة في وحل الإحترابات العائلية العنيفة. يتوجّب علينا كسر هذه الدائرة بواسطة الامتناع عن دعم المرشحين الحمائليين والقوائم الحمائلية، ورفض كل حملة انتخابية عمادها الحمولة ومصالحها وأهدافها. الانتخابات هي فرصة لدحر أنماط التفكير والتصرفات الحمائلية واستبدالها بقيم جامعة وموضوعية كالمهنية والكفاءة والنزاهة؛ التي تضع مصلحة البلد فوق المخترة العائلية والعصبيات المضرة. لكل منا دوره وعلينا به، بالعمل والنشاط والتصويت والإقناع والتغيير والتثقيف. في الانتخابات القريبة، التحدي الأساس هو دحر الحمولة وانتخاب المرشحين الأنسب للمناصب، وإن انتصرنا به، انتصرت سلطاتنا المحلية جميعها، وانتصر مجتمعنا وشعبنا.
المحامي نضال حايك،
المدير العام لجمعيّة “محامون من أجل إدارة سّليمة” الّتي تعمل لتطوير الإدارة السّليمة في السّلطات المحلّيّة العربيّة.