قصة قصيرة: رحيل جولييت / ميسون أسدي

 

 

 

شعرت أم وفيق بحركة غريبة في البيت وحدّثها حدسها بأنّ شيئًا ما ليس على ما يرام، جالت في خاطرها أمور كثيرة، وهامت بتفكيرها وتأملها وإذ بها ترى جولييت صغيرتها وأحبّ المخلوقات قاطبة إلى قلبها والتي عاشت في حضنها مدة طويلة، ملقاة على ظهرها جثة هامدة بلا حراك. ارتعبت ام وفيق وناحت كذئب جريح وصرخت بأعلى صوتها: جولييت، جولييت يا حبيبتي، ماذا حل بك؟..

قبل أن يشقشق الفجر وتضيء الشمس المكان بوجودها، استيقظت العجوز أم وفيق باكرًا ووضعت أمامها كأس الحليب المحلى مع كسرة الخبز وأخذت تمضغ طعامها رغمًا عنها، فهي تعاني من وحدة نفسيّة قويّة نتيجة نقص في العلاقات الودودة مع الآخرين، خاصّة مع أبنائها وأحفادها الذين سكنوا بعيدا في بلدات غير مدينتها، ومنهم من هاجر إلى خارج البلاد، فارقوها الواحد تلو الآخر، وكان أول من فارقها زوجها الذي رحل وهي ما زالت في ريعان شبابها. ووحدتها النفسيّة هي نقطة البداية لكثير من المشكلات التي تعاني منها العجوز، فقد أصبح يغلب عليها الشعور الدائم بعدم السعادة والتشاؤم.

***

شعرت أم وفيق بحركة غريبة في البيت وحدّثها حدسها بأنّ شيئًا ما ليس على ما يرام، جالت في خاطرها أمور كثيرة، وهامت بتفكيرها وتأملها وإذ بها ترى جولييت صغيرتها وأحبّ المخلوقات قاطبة إلى قلبها والتي عاشت في حضنها مدة طويلة، ملقاة على ظهرها جثة هامدة بلا حراك.

ارتعبت ام وفيق وناحت كذئب جريح وصرخت بأعلى صوتها:

– جولييت، جولييت يا حبيبتي، ماذا حل بك؟ وصرخت فاغرة فاها: يا ناس يا هو، رحلت زهرة الوطن، ودمعة العين.. رحلت صغيرتي المدللة جولييت. نامي قريرة عين يا قرة العين.

***

رفعت العجوز سماعة الهاتف دون أن تفكر مرتين وهي تبكي وتندب حظها التعس، وبدأت تتصل بالواحد تلو الآخر من أحبائها والمقربين إليها لتخبرهم عن رحيل جولييت، وهي التي ترفض الاتصال بأحد لعزّة نفسها ولا تستعطف أحدًا ليقوم بزيارتها أو ليسأل عن حالها، مدّعية بأنها الأكبر سنًا وعلى الآخرين الاتصال بها وليس العكس.

لم تترك العجوز أحدا إلا وبكت له ولوعت قلوب من تعرف حزنها على ما ألمّ بها.

سمعت العجوز طرقًا مدويًّا على بابها، وإذ بابنتها الوسطى وهي في السبعين من عمرها، جاءتها على عجل عندما سمعت خبر رحيل جولييت، وضمت أمها إلى صدرها لتخفف عنها كربها وقالت:

– لا تبكي يا أمّي، سنموت كلنا، وسنترك الحياة وراءنا، انا أفهم حزنك واشاطرك همّك.

اجابت العجوز بجزع:

– الفراق صعب يا أبنتي، كيف غادرتني جولييت الغالية بلا وداع ولا حتى كلمة. انتهت من الحياة، سُلَّت منها كالشعرة من العجين، يا حبيبتي ودنياي، يا جولييت.

تأففت البنت وضاق صدرها من حزن أمها المبالغ وقالت بنوع من الفتور:

– هذه هي الحياة وهذا هو الموت وهما شيء واحد، إنها النهاية يا امي.

نظرت العجوز إلى ابنتها وبحلقت بعينها والشرر يتطاير منهما وقالت بغضب:

– هذا الموت اللعين الذي يتقافز من جسدٍ لآخر، ليته اخذني وترك صغيرتي جولييت. يا لتفاهة هذه الحياة، عندما يتساوى بها الموت مع الحياة.

***

ام وفيق العجوز سيّدة نبيلة، شارفت على التسعين وتخطتها بأربع سنوات، لكنها تبدو في السبعينات من عمرها، فهي امرأة تسخى على نفسها من لباس وطعام وتذهب كل أسبوع إلى الكوافير ليصفّف شعرها ويصبغ خصلاته البيض. ولا تشلح طقم أسنانها، حتى أثناء النوم، خشية أن يفاجئها الموت وهي بلا طقم الأسنان  الذي صممه لها طبيب اسنان ماهر قبل عشرين عامًا.

نخرتها الوحدة حتى العظم، وشكت من عدم وجود أحد برفقتها، ومن إهمال أفراد الأسرة لها وعدم الانسجام معهم، ومن الشعور بالعزلة عن الآخرين – وهي التي كانت مربية لأجيال في مقتبل عمرها.

أم وفيق قليلة الكلام، وإن حكت، لسانها جارح، ونادرًا ما لا تجرح بكلماتها المختصرة والمقتضبة خاصة وأنّها تؤمن بأنّها تنحدر من سلالة ارستقراطية لم يتبق لها سوى عجرفتها ونظرتها الفوقية للناس. أجادت الصرف والبذخ على طعامها ولباسها ولكنها لم تسمح لأحد باحتساء فنجان قهوة أو كاس ماء في بيتها وعلى حسابها وكانت تشكك بكل من يدخل بيتها بأنّه جاء ليسرقها أو يستغلها.

****

تبنت العجوز الصغيرين جولييت وروميو قبل عامين واغدقت عليهما مما تملك، ليملآ عليها بيتها ويخففا من وحدتها بعد أن فارقها ابناؤها الى بيوت الزوجية ومنهم إلى الآخرة.

قبل أن تغسل وجهها بماء الصباح، تتسلل من سريرها إلى غرفتهما وتصبّح عليهما وتهدهدهما كطيور الجنة. استحوذ حبها لهما على كل حياتها وتفكيرها. لم تتوقع أم وفيق ما حدث ولم تصدق ما رأته عيناها.

نظرت العجوز صوب روميو وكان مثلها مصدوما قلقا متألما يبكي بصمت فراق رفيقته. وقف على مقربة منها لم يتحرك من مكانه قيد أنملة، منكس الرأس، شارد الفكر ضائع النظرات وكما يبدو توقع ما حدث لرفيقته، فلم تقترب جولييت منه منذ عدة أيام وانقطعت عن الطعام، وساءت حالتها الصحية الأمر الذي لم تنتبه إليه العجوز لكبر سنها ووهن جسدها.

أحسّت ام وفيق أن روحها ستفارقها، ستروح من بين يديها وتنطفئ كالشمعة، بكت من صميم قلبها بكاء مرًّا ولم تعرف ما إذا كانت تبكي رحيل جولييت أم تبكي على روميو الذي سيبقى وحيدًا مثلها في أيام الصيف والشتاء ويعد الساعات والأيام ليطرق بابهما أحد أو أي ضيف أو حتى متسوّل.

***

واصلت الابنة حديثها وهدّأت أمها بقولها: إن الحياة ما هي إلا “فراق بفراق” وعلينا تقبل الأمر لأنّه لا قرار لنا بذلك، والموت يخطفنا حتى لو كنا في بروج مشيّدة… وقدمت الابنة لأمّها بعض الطعام والشراب وفتحت لها التلفاز لتشغلها ببعض من برامجها المفضلة، ثمّ تركتها لوحدها واعدة إياها بانها ستعود اليها بعد ساعة من الزمن.

***

قصدت الابنة على الفور سوق البلد. عادت وهي تحمل بيدها عصفورة كناري صغيرة اقتنتها من دكان الحيوانات.

أدخلت الابنة انثى الكناري إلى القفص. فقفز روميو عدة قفزات داخل القفص مرحبًا برفقيته الجديدة، وما هي إلا لحظات حتّى دخلت الانثى الجديدة إلى داخل عشّها واستكانت به وكأنّها لم تفارقه.

نظرت العجوز إلى ابنتها بعينين يملأهما الظفر، وقالت:

– يا لهذا الصوت الرقيق! يا لها من زقزقات متواصلة.

وعادت الفرحة لتعشعش في قلب العجوز وامتزجت في نبرات صوتها رنّة جواهر من السرور والأمل وحملت اليها الراحة والعزاء.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .