تكاد الأسباب الّتي تجعل فردا من أبناء الطّائفة الدّرزيّة يتواصل مع جذوره التّاريخيّة الفلسطينيّة، أو أن يعبّر عن أبعاد هذه المركّبات في خليط هويَّته أن تكون معدومة، ولهذا الانعدام أسباب كثيرة من بينها محاولة مستمرّة لدى الفرد لمنع دخول مركّبات قد تودي إلى خلق عدم توازن وتناقضات مع مركّبات هويّته الإسرائيليّة، خاصّة وأن كلا المركّبات في صراع مستمر على قضايا حياتيّة يوميّة .
أمّا من حيث البعد الاقتصاديّ، فإنّ التّلويح بمركّبات الهويّة الإسرائيليّة بمثابة بطاقة خضراء للانصهار في المجتمع الاسرائيليّ واقتصاده وفتح أمكانيّات التّقدّم في سلم الوظائف الحكوميّة، في حين أيّ تقرّب من مركّبات عربيّة أو فلسطينيّة هي بمثابة اعتناق حتميّ للفقر والمعاناة. ناهيك عن البصمة السّلبيّة الّتي تحملها كلمة “فلسطينيّ”، في أوساط غربيّة حضاريّة في ظلّ استيلاء الإسلام السّياسيّ المتطرّف وعلى رأسها منظّمة حماس، على جزء كبير من الجدل السّياسيّ الفلسطينيّ المعاصر، الأمر الّذي يشجّع الابتعاد وقطع أيّ صلة مع هذا الانتماء.
بعد أخر لا يقلّ أهميّة عن سبب مثل هذا الغياب يعود إلى كون المركّبات الفلسطينيّة على الأغلب تاريخيّة وبعيدة عن الحاضر الملموس، وإنما تعود الى فترة ما قبل حرب 48. من هنا فإن فهم أبعاد هذه المركّبات أو محاولة الاقتراب منها تتطلّب تعمّق في قراءة التّاريخ ووقائعه المركزيّة في فترة ما قبل قيام دولة إسرائيل وتحديداً في فترة الانتداب البريطانيّ. وإذا كانت تلك الفترة هي فترة تبلور الهويّة الفلسطينيّة وأبعادها المختلفة عند المجموعات التي قطنت البلاد حين ذاك، فانّ هذه الفترة لا تدخل السّعادة لقلوب الكثير من العائلات الدّرزيّة الّتي قطنت المنطقة، خاصّة بعد أن انعكست تطوّرات الصّراع اليهوديّ- العربيّ على أبناء الطّائفة بشكل أليم وأحداث تراجيديّة راح ضحيّتها الكثير من الأبرياء مجرّد كونهم أبناء ملّة دينيّة مختلفة، تحديدا خلال أحداث ثورة 1936 والصّبغة الدّينيّة الّتي أخذتها الثّورة فيما بعد.
بالرّغم من الاسباب الّتي ذكرت أعلاه، وهي بمثابة حفنة صغيرة للائحة أسباب طويلة، من غير الصّواب أن لا يعترف الفرد منا بجذوره التّاريخيّة الفلسطينيّة وحقيقية كون هذه الطّائفة جزء من تاريخ الشّعب والفئات الدّينيّة والثّقافيّة التي عاشت المنطقة. وإن كانت الظّروف السّياسيّة غير ملائمة لمثل هذا الاعتراف على المستوى الجماعيّ فعليها أن تكون واضحة على المستوى الفرديّ، في الأساس من أجل إكمال حلقة أساسيّة في فهم الوجود والتّطوّر الطبيعيّ على المستوى الفرديّ والجماعيّ وفهم من أنا ومن نحن والى أين ذاهبون، وبأنّنا لسنا بغيمة سقطت من السماء في عام 48 ، وخاصة أنّ الأرشيف الاسرائيليّ لا يحوي أيّ مستندات تشير بأنّ جدودنا كانوا قد هاجروا من بولندا قبل ذلك.
من هنا فإنّ أيّ تواصل مع مركبّات جذورنا التّاريخيّة الفلسطينيّة هي بمثابة أمر طبيعيّ اذا تعاملنا معها كجزء طبيعيّ في تاريخ مجموعة انتقلت مراحل ومحطّات تاريخيّة في حياتها وأنّ بعض مركبّات الهويّة عند أيّ مجموعة هي وراثيّة وثقافيّة كالمركّبات الدّينيّة والعائليّة عند أغلبية أبناء الطّائفة، وبعضها مقتبسة كالإسرائيليّة على أشكالها المختلفة عند نفس المجموعة، وبعضها معتنقة كما هي الحال على المستوى الشّخصيّ بعد قضاء فترات متفاوتة في المملكة البريطانيّة.
أمس حاولت أن أتواصل مع مركّبات هويّتي الفلسطينيّة وحضرت الى قاعة البلديّة في مدينة شفاعمرو لمشاهدة عرض لرواية الكاتب الفلسطينيّ غسان كنفاني “عائد الى حيفا”، والّتي تروي قصّة عائلة فلسطينيّة تركت ابنها خلدون ابن الخمسة شهور من ورائها خلال حرب 48 فعادت لتجده بعد حرب الأيام السّتة بإسم يعكوف، جنديّ في الجيش الاسرائيليّ، مليء بالكراهيّة لكلّ ما هو فلسطينيّ بعد أن ترعرع على يد عائلة يهوديّة عانت الأمرّين في الحرب العالميّة في أوروبا والصّراع الفلسطينيّ خلال الانتداب.
ولكن بكلّ أسف آمالي باتت خائبة للعرض الفقير الذي شاهدته على مدار ما يقارب السّاعة، ليكون الشّعور بأنّه ليس بأكثر من ” عائد من الكريون” على أثر خيبة أمل في المشتريات. خيبتي تضاعفت بكون الممثلين في العمل ينتمون إلى الدّرجة الأولى من الممثلين وعلى رأسهم كلّ من خالد عواد، ميساء خميس عموري، لبنى بقاعي، ميلاد مطر، صبحي حصري وسليم خوري ومن تقديم المخرج مكرم خوري.
احتراما لمشاعر الممثّلين لن أتطرق إلى مستوى أدائهم، ولكن حتّى الإضاءة بعيدة كلّ البعد لأن توحي بأجواء الحرب بل أكثر، وكأنها في سهرة عريس على يد DJ محليّ، أمّا الدّيكور فلا يتعدّى ثلاث طاولات ومقعد واحد وكأنّ من الصّعب عليهم ايجاد خزانة قديمة وكيس من الرّمل لتوحي بأجواء الفترة. الأنكى من ذلك أنّ بعض الممثّلين ظهروا بملابس آخر موضة على المسرح بل حتّى بقميص تومي وبنطال جينس، في حين قمة الفشل تجلّت في تحويل النّقاش على المسرح للفصحى في كلّ لقاء بين العائلتين، اليهوديّة والعربيّة بدلا من الحديث باللّغة العبريّة كما هي الحقيقة من جهة، وكما هو متوقّع من أجل اضفاء صبغة واقعيّة على العرض.
الأهمّ من ذلك، أنّ تخطي حاجز اللّغة على يد الممثّلين كان سيمنح الحضور فرصة التّعامل مع مركّبات هوّيتهم الاسرائيليّة وأبعادها بشكل جريء وصريح، كما حاولت التّعامل مع مركّبات هويّتي الفلسطينيّة من خلال هذه المقالة.
الصورة الاولى : مشهد من عرض عائد الى حيفا
الصورة الثانية: الروائي غسان كنفاني وعائد الى حيفا.