صباح بشير: “حيفا النّائمة”، نشيد لمدينة حالمة قصيدة للأديب الإعلامي نايف خوري  

 

      مقدّمة:

“حيفا النّائمة”، هي قصيدة للأديب نايف خوري، الذي عُرِفَ ككاتب وإعلامي أكثر من كونه شاعرا، إلا أنّ هذه القصيدة تعدّ من أجمل ما كتب من أشعار، فهي تأخذنا في رحلة عبر مدينة حيفا، مستكشفة جمالها وتاريخها، تحيطها بنظرة فلسفيّة تجسّد من خلالها تجربة اللّجوء والتمزّق بين الوطن الأمّ والغربة، وتتأمّل معنى الحياة والموت. يعبّر فيها خوري عن أحاسيسه تجاه وطنه ومدينته، الّتي تُطلّ علينا كقطعة فنيّة حيّة، تتراقص على أوتار الكلمات وتتسنّم ذرى الكرمل شامخة كملكة متوّجة، تَتدلّى أطراف ثوبها الأخضر على سفوح الجبال، متوسّطة بين شلّالات من الضّوء الذهبيّ تغمرها شمس الصّباح، وتتناغم فيها الألوان والصّور بانسجام، وفي المساء، يتراقص ضوء القمر على أمواج بحرها؛ لينير طريق السفن العائدة إلى ميناء الأمان “الوطن”.  وخلال الوصف، يتصوّر القارئ نفسه يتجوّل في شوارع المدينة، يستنشق عبق التاريخ من أزقّتها الضيقة، ويسمع أصوات النّاس وضحكات الأطفال في السّاحات والشّوارع.

هكذا، يرسم خوري لوحة حيفا النّائمة بألوان هادئة، حيث تغفو المدينة تحت سفح الكرمل، وتضيء مصابيح العتمة دروب العمال في رحلتهم الصباحيّة.

 

ينطلق الجرو باحثا عن طعام، بينما يحلّق العصفور كالسّهم لالتقاط حبوب رزقه. توقظ النّسمات حيفا مع حركة المصانع وازدحام الشّوارع، فيصحو الطلّاب على ابتسامات الفرح، بينما تصبح المدينة كالموجة التي نمت في عمق البحر، لتطل على رمال الشّاطئ وتغسل أقدام العجوز الصيّاد.

تتقدّم سفينة نحو مينا السّلام، ويسدل اللّيل ستائره على البيوت. أمّا الفجر فيبعد العتمة عن الدّروب لتشرق الشّمس على قبة عباس الذهبية، فتحيي جمالا ورمزا أصبح تاجا، وتصلّي الأمّ كي لا تنام حيفا مرّة أخرى.

 

أسلوب الكتابة: تتميز القصيدة بأسلوبها السهل الممتنع، الممزوج بالصّور الشعريّة المختلفة. يستخدم خوري لغة بسيطة واضحة، ما يجعلها سهلة الفهم على القارئ العادي.

 

الأسلوب الفلسفي: تتضمّن القصيدة العديد من التأمّلات الفلسفيّة حول معنى الحياة والموت والزّمن والذّاكرة. يتساءل خوري عن مصير حيفا ومستقبلها، فيحرّك النّقاش حول عبثيّة الحياة تحت الظّلم، والتّناقضات بين جمال المدينة والاحتلال والأمل في العودة، واليأس من الواقع، كما يثير التّساؤلات حول معنى الوجود والهويّة في ظلّ فقدان الوطن، فحيفا النّائمة هي رمز للوطن الّذي تمّ سلبه، وأفقد أهله الإحساس بالأمان والاستقرار، وجعلهم يعيشون في حالة من الغربة والضّياع والتّشتّت.

 

رحلة عبر اللّاوعي: تقدّم القصيدة رحلة عبر اللّاوعي، تتيح للقارئ استكشاف مكنونات النّفس البشريّة، وتعبّر عن رغبة الشّاعر في تحرير اللّاوعي من قيوده والوصول إلى عوالم جديدة من خلاله، فحيفا النّائمة هي رمز للذّاكرة المفقودة والأحلام المكبوتة، وهي رمز لحالة الوعي المغلقة، الذي يصبح فيها الفرد غير مدرك لما يحدث حوله، فيغدو محاصرا في أفكاره ومشاعره.

تشير مصابيح العتمة إلى الأفكار والمشاعر المخفيّة في اللاوعي، بينما يجسّد الجرو والعصفور الحاجات الأساسيّة والرّغبات الغريزيّة، تصبح موجة البحر رمزا للّاوعيّ الدّيناميكيّ، بينما يمثّل العجوز الحكمة والخبرة، ويعبّر حنين الأمّ إلى الماضي عن تأثير التّجارب السابقة على اللّاوعي، بينما يغدو الدّعاء من أجل حيفا رمزا للرّغبة في تحرير اللّاوعي من أغلاله.

 

 الموضوع: تصوّر القصيدة مدينة حيفا من خلال وصف جمالها وسحرها ونشاطها اليوميّ، كما تقدّم رحلة عبر المدينة من خلال وصفها في مختلف أوقات النّهار، مبرزّة مفارقات الحياة بين السّكون والحركة، والظّلام والنّور، والأمل واليأس. تشير إلى صمود شعبنا في وجه الظّلم والتّشريد، وتعبّر عن إيمانه الرّاسخ بمستقبل أفضل، وتؤكّد على أهميّة الوحدة والتمسّك بالأرض والهويّة.

يعايش الشّاعر صراعا داخليّا بين رغبته في التمسّك بذاكرة الوطن المفقود، وبين شعوره بالإحباط من واقعه الحاضر، يجد نفسه محاصرا بين الماضي والحاضر، غير قادر على التحرّر من أسر الذّاكرة، ولا على التكيّف مع واقع لا ينتمي إليه، فيعبّر عن صرخته المدوّية في وجه الظّلم والقهر، وينادي بالحريّة والعدالة؛ ليذكّرنا أنّ الوجود الإنسانيّ لا معنى له دون الشّعور بالانتماء والهويّة، وأنّ فقدان الوطن مأساة إنسانيّة حقيقيّة. وبهذا يشارك تجربته الشخصيّة مع قرّائه، ويدعوهم إلى التأمّل في معنى الوجود الإنسانيّ في ظلّ الظّروف القاسية التي نعيشها.

 

   رحلة عبر حيفا النّائمة، تأمّلات في دورة الحياة والأمل:

تُستهلّ القصيدة برسم لوحة ساحرة لحيفا الغارقة في سباتها العميق، تضيئها مصابيح خافتة كأنّها نجوم تتلألأ في سماء اللّيل، هذه المصابيح ليست مجرّد مصدر إضاءة، بل هي رمز للأمل والتّفاؤل، وإشارة إلى استمرار الحياة رغم الظّلام.

مع حلول الفجر، ينطلق العمال في رحلة يوميّة شاقّة، يحملون على أكتافهم أعباء الحياة وطموح لا ينطفئ، وشموع أمل تضيء دروبهم. يمثّل غريدهم كالسّهم مثابرة لا تقهر، وسعيا دؤوبا لتحقيق الأحلام.

تستيقظ المدينة مع النّسيم العليل وحركة المصانع وزحام الشّوارع، لتنبض بالحياة من جديد؛ فيبتسم طلاب المدارس لبعضهم البعض، ويتبادلون مشاعر الفرح والأمل، كأنّهم يرون في وجوه أصدقائهم انعكاسا لمستقبل واعد.

تشبّه القصيدة حيفا بموجة بحر هادئة غرقت في أعماق اللّيل، ثم أفاقت على رمال الشّاطئ، حاملة معها رسالة من الأمل والتّجديد. يقف العجوز على الشّاطئ، صامدا شامخا كالجيل السّابق من أجدادنا، يلقي صنّارته لاصطياد رزقه، بينما تتّجه سفينتة نحو ميناء الاطمئنان والأمان، حاملة معها أحلاما بالخلاص والحريّة. وبين هبوط اللّيل وطلوع الفجر تسدل حيفا ستائرها على بيوتها، وتشرق الشّمس على قبّة عبّاس الذّهبيّة؛ لتلف المدينة بتاج الجمال.

تُختَتَم القصيدة بالحزن وحنين أمّ الشّاعر إلى قرية “إقرث”، التي هُجِّرت منها عائلتها عام 1948م، تناجي الله ألّا تنام حيفا ثانية، خوفا من عودة الظّلام والظّلم.

 

الأسلوب السرديّ: يتّخذ خوري أسلوبا سرديّا يروي فيه حكايته مع حيفا، فيخلق شعورا بالارتباط مع المدينة والانتماء إليها، ويضفي شعورا بالواقعيّة.

يثير هذا الأسلوب مشاعر الحنين إلى الماضي، والإحساس بالفقدان، وكذلك الرّجاء بمستقبل أفضل. يقدّم الشّاعر مدينته كشخصيّة رئيسة، وكيان حيّ له مشاعره وأحلامه “الأنسنة”. أمّا الرّاوي فهو المتكلّم الذاتيّ، أي الشّاعر الذي يفصح عن مشاعره وأفكاره تجاه حيفا.

 

الزّمن: تتناول القصيدة زمنيين يلعبان دورا هامّا، زمن الذّكريات والحياة قبل النّكبة. وزمن كتابة القصيدة، وهو الزّمن الحاضر.

 

 اللّغة والأسلوب الفنّي: اعتمد الشّاعر لغة غنيّة بالصّور البلاغيّة الجميلة، وأسلوبا مباشرا وصادقا، ليمنح القصيدة شعورا بالقوّة والتّأثير. وظّف العديد من الرّموز الّتي تضفي عمقا فلسفيّا مثل البحر والرمال والشّمس.

وظّف أيضا تقنيّة التّشبيه والاستعارة، وقارن حيفا النّائمة بالعديد من الأشياء، مثل:

  • العروس الجميلة: “حيفا نائمةٌ كالعروسِ الجميلةِ”.
  • الطّفلة الصّغيرة: “تُغني حيفا نائمةً أغنيةَ الأطفالِ”.
  • البحر الهادئ: “تنامُ حيفا على صدرِ البحر”.

تساعد هذه التّشبيهات على خلق صور حيّة للمدينة في ذهن القارئ، وصبغتها بالجمال والهدوء.

تشبيهات معبّرة أخرى مثل:

  • “حيفا الحالمة كَمَوْجَةِ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ” – يشبّه الشّاعر حيفا بموجة بحر هادئة.
  • “شمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ”، يشبّه مصابيح حيفا بالنّجوم التي تنير دروب العمّال.
  • “وَغِرِّيدٌ كَالسَّهمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ”، يشبّه تغريد العصفور بسهمٍ يبحث عن طعامه؛ ليمنح القصيدة شعورا بالحركة والنّشاط.
  • “بَينَ اللّيلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ وَالفَجرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ”، يشبّه اللّيل بالسّتار الّذي يغطّي البيوت، والفجر بالضّوء الذي يزيل الظّلام، فيكسو القصيدة بالتّباينات.

الاستعارة: “تَصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً” – يصف الشّاعر دعاء الأمّ لحيفا ألّا تنام ثانية بالصّلاة، ما يكسب القصيدة شعورا بالرّوحانيّة والقداسة.

“حَيفَا النّائِمَةُ تَصحُو مَعَ النّسَمَاتِ، مَعَ حَرَكَةِ المَصَانِعِ، وَازدِحَامِ الشَّوَارِعِ” – يشبّه حيفا بالشّخص الذي يستيقظ مع حركة الحياة، ليصبغ القصيدة بالطّاقة والحركة والفعاليّة والاندفاع والحماسة.

“وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ، وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً” – يصوّر خوري حنين أمّه إلى قريتها المهجّرة بالشّاغل الّذي يشغلها، ما يضفي على الأبيات لمسة من الحزن والألم والحسرة على ضياع الوطن، يعبّر عن مشاعرها من خلال استخدام الأفعال المضارعة: “تنشغل، تصلّي”، مستخدما الصّور الحسيّة لإيصال ذلك بشكل أوضح وأعمق، فهي تلوّن أيّامها بذكرى الأحبّاء والمكان، تحنّ إلى أرضها وهوائها وشمسها، وإلى بيتها الذي هجرَته قسرا، تتذكّر الأيّام الماضية، فتتولّد في نفسها دمعة حارّة تسقط بصمت وألم، تبحث عن رجاء آخر، لكنّ الواقع قاسٍ والمستقبل غامض، فتتحلّى بالصّبر والإيمان، وتصلّي.

 

الإيقاع: يعدّ الإيقاع المتنوّع أحد أهمّ العناصر المُشكِّلة لهذه القصيدة، فهو سريع في بعض الأجزاء، وهادئ في أجزاء أخرى، ما يساعد على إيصال المشاعر والأفكار بشكل مؤثّر، ويمنح الشّعور بالتّناغم.

الإيقاع السّريع: استُخدم في بعض الأجزاء لخلق شعور بالإثارة، ولمحاكاة حركة الحياة وحيويّتها:

  • “انْطَلَقُوا فَجْرًا مَعَ المُقَاوِلِ، يَحمِلُونَ صُرَّةَ الزَادِ وَالجُهْدِ، يَنفُثُونَ دُخَّانَ أنْفَاسِهِم”.
  • “طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم”.
  • “بَينَ اللَيْلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ”.

الإيقاع الهادئ: استُخدم في بعض الأجزاء؛ لخلق شعور بالسّكينة والاسترخاء، ولإيصال المشاعر الحزينة أو المتأمّلة، وإضفاء الشّعور بالهدوء والجمال، مثل:

  • “حَيفَا النّائِمَةُ، حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ”.
  • “وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ”.
  • “وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ”.

أمّا التنوّع في الإيقاع؛ فيمنح التّناغم والتّوافق لأبيات القصيدة، وينبّه القارئ لما يقرأ.

أمثلة أخرى على التنوّع في الإيقاع:

  • استخدام المقاطع القصيرة والطّويلة بشكل متناوب.
  • استخدام التكرار في بعض الأبيات، واستخدام التّقطيع في أبيات أخرى.

القافية: غير موجودة، ما يضفي على القصيدة شعورا بالحريّة والتلقائيّة، ويساعد على إظهار المشاعر الحقيقيّة للشّاعر.

 

الوطنيّة والأبعاد السياسيّة: تقدّم القصيدة رمزيّة عميقة عن الصّراع السياسيّ الذي نعيشه، تظهر صمود النّاس وتمسكهم بالأرض والهويّة.

  • “حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ” – يُعبّر الشّاعر عن حبّه لحيفا، وعن فخره بجمالها وتاريخها، مشيرا إلى الصّراع عليها، يصفها بالرّابضة؛ للدّلالة على صمودها، والتمسّك بسفوح الكرمل، والأرض.
  • تظهر مشاعر الاستياء لدى الشّاعر المسكون بالحزن بسبب التّهجير حيث يقول: “وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ”.
  • لتمثيل الصّراع، وظِّفت بعض الصّور مثل: “مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ / أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئ”.
  • يرمز “البحر” إلى وحدة الشّعب وترابطه، حيث يقول: “تَتَقَدَّمُ سَفِينَةٌ نَحوَ مِينَاءِ الاطْمِئْنَان”. ويقول: “وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ / وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً”.

 

التّفاؤل والأمل بالمستقبل: على الرّغم من الصعوبات والتحدّيات، إلّا أنّ القصيدة تظهر شعورا بالأمل بالمستقبل، الأمر الذي يلامس شتّى مشاعر الإنسان، من الحنين إلى الماضي والأمل في العودة، إلى اليأس من الواقع في ظلّ فقدان الوطن، إلى تمسّك النّاس بهويّتهم وثقافتهم.

يرمز “الفجر” إلى بداية جديدة، حيث يقول: “وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ”.

“مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ، أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ”.

“تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ، وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا”.

يُعبّر الشّاعر عن أمله في عودة حيفا إلى سابق عهدها، لتصبح رمزا للأمل والتّجديد، فهي رمز للوطن الجميل، تغفو تحت وطأة الاحتلال، تاركة خلفها جروحا عميقة في نفوس أبنائها.

وظّفت الرمزيّة في هذه الأبيات بشكل بارع لإيصال الرّسالة بشكل مؤثّر، ونذكر بعض الأمثلة على ذلك:

الموجة: ترمز إلى حلم العودة، للحياة والتجدّد، فالموجة التي نامت في عمق البحر قد غابت، لكنّها موجودة ومستمرّة، ما يشير إلى عودتها من جديد. أمّا الشّاطئ فيرمز للأمل والخلاص.

التّاج: يرمز للجمال والسّيادة، سيادة الوطن.

كما يعبّر الشاعر عن تفاؤله بمستقبل العمّال، وعن إيمانه بقدرتهم على بناء مستقبلهم. “شَمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ”.

“طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم” – وهنا تفاؤل واضح بمستقبل الطلّاب، وإيمان بقدرتهم على تحقيق أحلامهم.

 

“حيفا النّائمة” قصيدة وصف: تصنّف هذه القصيدة ضمن قصائد “الوصف”، وذلك بتركيزها على وصف الأشياء والأماكن والأشخاص وأحوال المدينة، استخدمت فيها الصّور البلاغيّة، مثل التّشبيه والاستعارة والكناية؛ وذلك لإضفاء لمسة من الجمال على الوصف.

وصفت حيفا النّائمة تحت سماء مظلمة، ووصفت حركة العمال في الصّباح. كما وصفت المدينة في مختلف أوقات النّهار، ما جسّد روحها بأسلوب مباشر.

وصفت الحياة اليوميّة لسكّانها من عمّال يذهبون إلى عملهم، وطلّاب يذهبون إلى مدارسهم، وصيادين يلقون شباكهم في البحر، الأمر الذي يثير مشاعر القارئ ويحرّك خياله، ويقدّم معلومات عن الشيّء الموصوف.

 

حيفا النّائمة: رمزيّة فلسفيّة وشعريّة:

حيفا: مدينة عريقة تقع على ساحل البحر المتوسط، عرفت عبر التّاريخ بنشاطها وتنوّعها الثّقافيّ. قد يبدو وصف مدينة نابضة بالحياة مثل حيفا بـ “النّائمة” تناقضا غريبا، لكنّه يحمل في طيّاته دلالات فلسفيّة وشعريّة عميقة.

فلسفيا: يرمز “النّوم” إلى الموت، فحيفا كأيّ مدينة أخرى شهدت على مرور الزّمن، تغيّر الأجيال ورحيل أحبّائها. قد يرمز “النّوم” أيضا إلى لحظة من الهدوء والسّكون بعد صخب الحياة وصراعاتها، فحيفا عانت عبر تاريخها، لكنها ظلّت صامدة شامخة. وقد يشير “النّوم” إلى فترة راحة استعدادا لنهضة جديدة، فحيفا مدينة حيويّة لا تتوقّف عن التطوّر.

شعريا: تصبغ صفة “النّائمة” مدينة حيفا بالجمال، كجمال حسناء نائمة، ويشير “النّوم” إلى هالة من الغموض والسحر، يثير فضول القارئ لمعرفة المزيد عن أسرار المدينة. يشير أيضا إلى الرومانسيّة والحنين، ويثير مشاعر الحبّ والانتماء لدى المتلقّي.

يعدّ وصف حيفا بـ “النائمة” تناقضا غنيّا، يثري القصيدة ويضفي عليها أبعادا جديدة ودلالات عدّة، فمن خلاله يمكن تأمّل حال المدينة من منظور مختلف، واكتشاف تنوّعها وجمالها وعمقها. وصفها بالنّائمة لا يتنافى مع حقيقتها، فهي كأيّ مدينة حيّة، لها أوقات من الهدوء والسّكون، وأوقات أخرى من الانطلاق والنّشاط، ولها أسرارها وأحلامها التي تبوح بها.

“أمّا البيت “وَمَقَاهِي البَحَّارَةِ وَالسَّاهِرِينَ” فيمثّل تناقضات الحياة في المدينة، فبينما تغفو حيفا، تضيء مقاهيها حياة البحّارة والسّاهرين، مُشكّلة رمزا للرّحيل والهروب من الواقع، والبحث عن حياة جديدة. ورمزا للأرق والقلق والتّفكير في الماضي والمستقبل.

هذه المقاهي هي ملتقى للتّواصل بين النّاس، وهي تصوّر التناقض بين الفرح والحزن، الحياة والموت. يشير وجودها إلى استمرار الحياة في المدينة، بينما يمثل روّادها تنوّع المجتمع الحيفاويّ من بحّارة وساهرين. واستخدام كلمة “مقاهي” بدلا من “قهوة” يعطي جمالا ورونقا، كما يضفي ضمير الجمع “البحّارة والسّاهرين” شعورا بالاتّساع والكثافة، ويزيد استخدام حرف الراء في “البحّارة والسّاهرين” من موسيقى البيت.

 

حيفا النّائمة، أنسنة المدينة: تعدّ الأنسنة من أهم الأساليب الأدبيّة الّتي تستخدم لخلق شعور بالتّعاطف والتّواصل بين القارئ والنّص. تضفي الأنسنة على النّص لمسة من الرومانسيّة والحنين، وتثير مشاعر الحبّ والانتماء. وعندما نقول: “حيفا نائمةٌ كالعروسِ الجميلةِ”، نضفي على المدينة صفات إنسانيّة، مثل الجمال والأنوثة.

يساعدنا وصف حيفا بالنّائمة كأنثى على تخيّل المدينة بشكل أوضح، فعندما نعطي صفات إنسانيّة على شيء ما، يصبح من السّهل علينا تخيله وفهمه، وعندما نرى مدينة جميلة نائمة، نشعر بالتّعاطف معها ونرغب في حمايتها.

إليكم الأمثلة على الأنسنة في القصيدة:

  • “حَيفَا النّائِمَةُ”، تشبيه المدينة بالمرأة النّائمة.
  • “حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِل”، تشبيه المدينة بالإنسان الرّاقد على الأرض.
  • “تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَة”، إضفاء صفة التلألؤ على المصابيح، وهي صفة إنسانيّة.
  • “تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ”، تشبيه المصابيح بإنسان يُنير الطريق للعمال.
  • “وَجَروٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ”، إضفاء صفة الاستغاثة على الكلب، وهي صفة إنسانيّة.
  • “مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ / أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ”، تشبيه الموجة بالإنسان النّائم ثم المستيقظ.
  • “وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ”، تشبيه الفجر بإنسان يزيل الظّلام عن الطّرق.
  • “تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ”، تشبيه المدينة بالإنسان الذي يستيقظ وتنبض فيه الحياة.
  • “وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ / لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا”، تشبيه الشّمس بالإنسان الذي يُحيي الجمال.

 

الحنين: يخلق الحنين في هذه القصيدة شعورا بالارتباط بالمدينة، فعندما يتذكّر القارئ ذكرياته الجميلة في حيفا، فإنّه يتأمّل معنى الحياة وتغيّرها، يشعر بارتباط عاطفيّ قويّ مع المدينة، يفكّر فيها فيشعر بالحنين إلى الماضي ويشتاق إلى العودة إليها.

  • “وَغَرِيبٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ” – يُعبّر الشّاعر عن حنين الغريب إلى وطنه، وعن حاجته إلى المساعدة.
  • “وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ” – يُعبّر هنا عن حنين أمّه إلى قريتها الأصليّة الّتي هُجّرت منها عام م1948.
  • وصفت حيفا بالمدينة القديمة: “حيفا مدينةٌ قديمةٌ عريقةٌ”، وفي هذا تذكير بالماضي الجميل: “أذكرُ أيامَ طفولتي في حيفا”.
  • الشعور بالفقدان: “أفتقدُ حيفا وأهلَها”.

 

ختاما: تعدّ هذه القصيدة نموذجا لقصيدة الوصف، فهي لوحة شعريّة حيّة تجسّد روح المدينة وتثير مشاعر القارئ، تعبّر عن إحساس الشّاعر تجاه مدينته ووطنه، من حبّ وفخر، وحزن على ما حلّ بها من مآسي.

وإليكم قصيدة حيفا النّائمة لمبدعها الأستاذ نايف خوري.

 

 

حَيفَا النّائِمَة

حَيفَا الرّابِضَةُ عَلَى سُفُوحِ الكَرْمِلِ

شَمَالًا، جَنوبًا.. تَتَلَألَأُ مَصَابِيحُ العَتْمَةِ

تُنِيرُ دُرُوبَ العُمّالِ فِي السّيّارَةِ..

انْطَلَقُوا فَجْرًا مَعَ المُقَاوِلِ

يَحمِلُونَ صُرَّةَ الزَادِ وَالجُهْدِ

يَنفُثُونَ دُخَّانَ أنْفَاسِهِم

وَجَروٌ يَستَغِيثُ بِمَن يُطْعِمُهُ..

وَغِرِّيدٌ كَالسَّهْمِ يَلتَقِطُ حُبُوبَهُ..

حَيفَا النّائِمَةُ..

تَصحُو مَعَ النّسَمَاتِ

مَعَ حَرَكَةِ المَصَانِعِ

وَازدِحَامِ الشَّوَارِعِ.

طَلَّابُ المَدَارِسِ يَتَثَاءَبُونَ

وَيَبْتَسِمُونَ بِمُلاقَاةِ الفَرَحِ

فِي وُجُوهِ رِفَاقِهِم..

حَيفَا الحَالِمَةُ..

مَوْجَةُ البَحرِ التِي نَامَت فِي العُمْقِ

أَفَاقَتْ عَلَى رِمَالِ الشّاطِئِ

وَغَسَلَت أَقدَامَ عَجُوزٍ يُلقِي صِنَّارَتَهُ لِلصّيْدِ.

تَتَقَدَّمُ سَفِينَةٌ نَحوَ مِينَاءِ الاطْمِئْنَانِ

وَمَقَاهِي البَحَّارَةِ وَالسَّاهِرِينَ..

بَينَ اللَيْلِ وَهُوَ يَشُدُّ سَتَائِرَهُ عَلَى البُيُوتِ

وَالفَجْرِ الذِي يُزِيحُ العَتمَةَ عَن الدُّرُوبِ

تَصحُو حَيفَا، تَنبِضُ الأحْيَاءُ وَالحَارَاتُ

وَتُشرِقُ شَمْسٌ عَلَى قُبَّةِ عَبّاسٍ الذَّهَبِيّةِ

لِتُحيِيِ جَمَالًا وَرَمزًا أَصبَحَ تَاجًا..

وَتَنشَغِلُ أُمِّي بِحَنِينٍ إِلى إِقرِثَ

وَتُصَلّيِ، أَلَا تَنَامَ حَيفَا ثَانِيَةً.

 

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .