رواية “ميرال” كتبتها رلى جبريل- فلسطينيّة تعيش اليوم في نيويورك، وترجمتها الشّاعرة سعاد قرمان إلى العربيّة. وبهذا، حقّقت سعاد قرمان أمنية الكاتبة التي عبّرت عنها بأسف في إحدى المقابلات حيث قالت إنّ رواية “ميرال” تُرجمت إلى خمس عشرة لغة ولم تُترجم بعد إلى العربيّة، معتبرة ذلك فشلاً سببه أو تفسيره أنّ العالم العربيّ لا يقرأ ولا يستثمر بالكتب وبالعلم والثّقافة.
والحقيقة أنّ تقديم مداخلة حول هذه الرّواية وضعني أمام إشكاليّة من حيث كيفيّة تناول الرّواية والحكم عليها، وخاصّة على المستوى الفنيّ. فالرّواية كتبتها رلى جبريل بالإيطاليّة، وسعاد قرمان ترجمتها إلى العربيّة من الإنجليزيّة. وأنا لم أقرأ لا الإيطاليّة ولا الانجليزيّة! بمعنى، أنا قرأت التّرجمة الثّانية للرّواية، ولو استعملنا لغة الرّياضيّات لأعطيناها مصطلح “مشتقّة ثانية”. وكلّما كثُرت المشتقّات، كلّما ابتعدنا عن الدّالة أو المعادلة الأصليّة بفِعْل الإضافات أو الاختزالات. ومن هنا، فإنّ الرّجوع إلى النّصّ الأصليّ اعتمادًا على التّفاضل، يأخذنا إلى نصّ أصليّ قد يكون قريبًا منه وقد يكون بعيدًا أو حتى مغايرًا له، ولكنّه لن يكون نقيضه، لأنّ الهيكل أو المبنى الأصليّ للدّالة يبقى محفوظًا ثابتًا. والأمر كذلك بالنّسبة لمضمون النّصّ ورسالته. إلاّ أنّ لمسة الكاتب الخاصّة وبصمته المتفرّدة على النّصّ، أو لنقلْ نكهته الخاصّة التي يُضفيها على نصّه الحقيقيّ الأصليّ، تتغيّر. ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح في المنافسة بين دور النّشر العالميّة حين تختلف ترجمة الرّواية الواحدة من دار نشر إلى أخرى.
وكما للكاتب لمسته وأثره وبصمته وهذه النّكهة الخاصّة التي يُضفيها على نصّه، كذلك للمترجم، خاصّة أنّ التّرجمة بحدّ ذاتها هي عمل أدبيّ. وهنا يأتي دور سعاد قرمان.
ترجمة سعاد قرمان في هذه الرّواية هي ترجمة متينة، متماسكة. ترجمة سعاد قرمان أنيقة، خالية من التّملّق. اللّغة منسابة، سهلة، واضحة، تشدّك إليها وتدفعك إلى الانسياب معها بكلّ أريحيّة. وهي لغة سليمة مئة بالمئة وهذا ليس بغريب حين يكون الحديث عن سعاد قرمان التي تنتمي إلى ذلك الجيل الذي تعلّم اللّغة العربيّة على أصولها في الكتب العربيّة الأصيلة حيث اللّغة الواضحة المفهومة البسيطة. وأكاد أراها في ترجمتها، ليست فقط سعاد قرمان الشّاعرة المعروفة، وإنّما طالبة المدرسة الابتدائيّة المجتهدّة والمتميّزة في درس اللّغة العربيّة. وهي من أوائل شاعرات الزّمن الجميل. هي المثقّفة والقارئة والمُطّلعة قبل أن تكون شاعرة مُبدعة متمكّنة من لغتها وأدواتها.
والحقيقة، أنّ إدراكي ووعيي لأهميّة ما قامت به سعاد قرمان بترجمة هذه الرّواية إلى العربيّة وتعريف القارئ، الفلسطينيّ خاصّة، إلى السّيّدة هند الحسيني، جعلني أتغاضى وأتغافل عن بعض الهفوات هنا وهناك في الرّواية، باستثناء الإشارة إلى كون الرّواية تفتقد للأدوات التّرميزيّة والجماليّة التي كان من شأنها أن تجعل القارئ يتفاعل أكثر مع الرّواية. فالمعنى والدّلالة واحد ولا يوجد معنى ثان يتجاوز المعنى الأوّل. وهذا من تبعات مميّزات اللّغة التي ذكرناها. علمًا أنّ أسلوب الوصف موجود في الرّواية وهناك صفحات مشبعة به، وقد أجادت سعاد قرمان وأبدعت في ترجمة المقاطع الوصفيّة سواء للشّخصيّات أو الأماكن أو الأحداث، ونجحت في جعل القارئ ينجذب إليها ويندمج معها ويعيش تفاصيلها.
في مقابلة مع كاتبة الرّواية رلى جبريل تقول إنّ رواية “ميرال” هي سيرة ذاتيّة. و”ميرال” هو اسم ابنة رلى جبريل وهي رلى نفسها في الرّواية.
لن أدخل الآن إلى كلّ قضيّة تعريفات الجنس الأدبيّ “السّيرة الذّاتيّة”، ومدى اقتراب رواية “ميرال” منه أو ابتعادها عنه، ولا سيّما كلّ مسألة وجوب تواجد التّطابق ما بين المؤلّف\الكاتب والرّاوي\السّارد والبطل التي تحدّث عنها الفرنسيّ فيليب لوجون. كذلك مدى تداخل هذه الرّواية مع السّيرة الغيريّة فقد خصّصت الكاتبة أجزاء من روايتها لشخصيّات أخرى مثل هند ونادية وفاطمة وغيرها. هذا ناهيك عن كلمة “رواية” الموجودة على غلاف الكتاب والتي تُحدّد جنسه الأدبيّ من قِبَلِ كاتِبِه. لن أدخل في كلّ هذا من منطلق أنّني أرى أنّه يجب أن نتعامل مع شروط السّيرة الذّاتيّة بشيء من المرونة. فيكفي أن يُصرّح الكاتب بشكل من الأشكال أنّه يروي قصّة حياته في كتابه.
الرّواية طويلة، والمضامين كثيرة. وإذا تناولت جميعها بالتّحليل ستطول المداخلة. ولهذا سأختصر.
تُظهر رواية ميرال، على غرار الأدب الفلسطينيّ، وعيًا بالأهميّة الكبيرة للزّمن. فقد حرصت الكاتبة على تحديد الزّمن الخارجيّ لارتباطه الوثيق بالزّمن التّاريخيّ للقضيّة. زمن الرّواية يمتدّ من عام 1948- عام النّكبة وتشريد الشّعب الفلسطينيّ- وحتى 1994 العام الذي توفّيت فيه هند الحسيني وما سبقه من توقيع اتّفاقيّة أوسلو، وما كان بين هذه السّنوات من أحداث ونكسات وتحوّلات في تاريخ الشّعب الفلسطينيّ: مجزرة دير ياسين، نكسة عام 1967، مجزرة صبرا وشاتيلا، الانتفاضة الأولى. أمّا المكان الكبير والطّاغي فهو مدينة القدس التي تجلّت في الرّواية كمكان مُغتصب يناضل الشّعب لاسترداده.
تُهدي الشّاعرة المُترجِمة سعاد قرمان الرّواية لهند الحسيني: “إلى روح هند الحسيني، هند التي حضنت المئات والآلاف من الأطفال المعدمين، هند التي رعتهم في دار الطّفل التي أنشأتها في القدس”.
وهند الحسيني، أنا شخصيًّا سمعت بها لأوّل مرّة في أمسية أُقيمت في قريتنا الرّامة، في متحف عمّي المرحوم الدكتور أديب حسين، حيث استُضيف مسؤولان في دار إسعاف النّشاشيبي في القدس والتي هي جزء من كلّ مؤسّسة دار الطفل التي أنشأتها هند الحسيني. وكان الحديث بطبيعة الحال عن دار الطّفل وعن هذه السّيّدة الرّائعة هند الحسيني. وأذكر يومها كم تأثّرت بهذه السّيّدة، وانفعلت وكنت مندهشة أمام وجود مثل هذه الشّخصيّة النّسائيّة الفلسطينيّة، علمًا أنّ هناك أسماء لامعة لنساء فلسطينيّات كسميرة خليل، على سبيل المثال لا الحصر، التي كانت ناشطة في العمل الاجتماعيّ الإنسانيّ وفي مجال حقوق المرأة وخاضت الانتخابات الرّئاسيّة في مواجهة الرّئيس ياسر عرفات عام 1996. ولكن ما يُميّز هند الحسيني، أنّها كرّست حياتها للعمل والعطاء الاجتماعيّ فقط بعيدًا عن كلّ صخب السّياسة وما يتبع ذلك من شهرة وانتشار للشّخص. حتى أنّ هناك أناسًا كثيرين لم يسمعوا بها أبدًا.
تبدأ الرّواية بخبر وفاة هند الحسيني بتاريخ 13.9.1994: “اهتزّ الحيّ العربيّ في شرقيّ القدس عندما تسرّب نبأ وفاة هند الحسيني بين بيوته”. (ص 6) إنّ استخدام الفعل “اهتزّ” كفيل بتصوير الفاجعة ورسم المشهد واختصار المشاعر والتّعبير عن مدى الأسى وشعور الخسارة الذي عمّ القدس الشّرقيّة بوفاة هند الحسيني “وكأنّ أحد أبوابها قد أُغلق للأبد”. (ص 6)
لن أدخل من باب الاختصار إلى نشأة هند، فكلّ ذلك موجود في الرّواية وفي مصادر أخرى عن حياتها.
التّاريخ المهمّ هنا هو التّاسع من نيسان عام 1948 حين كانت هند الشّابة الأنيقة، في الثّلاثين من عمرها، في طريقها لحضور اجتماع دعا إليه رئيس البلديّة آنذاك أنور الخطيب، وكانت هند وقتها معروفة بنشاطها الاجتماعيّ وكونها عضوًا في جمعيّة التّضامن الاجتماعيّ النّسائيّ. والتقائها، بالقرب من كنيسة القيامة، بمجموعة من الأطفال الذين نجوا من مجزرة دير ياسين، يقارب عددهم الخمسين، تراوحت أعمارهم بين عامين واثني عشر عامًا، في وضع خارجيّ ونفسيّ صعب جدًّا. وقرارها مساعدتهم بأيّ ثمن.
تقول هند الحسيني عن قرارها مساعدة هؤلاء الأطفال:
“كان أطفال دير ياسين الذين شاء لهم القدر أن ينجوا من تلك المجزرة الصهيونيّة الرّهيبة، أكبر ظاهرة بؤس وشقاء. على الأثر، وفي خلال أسبوع، جمعت بمساعدة السّيد عدنان أمين التميمي خمسة وخمسين طفلاً وضعناهم في غرفتين في سوق الحصر في البلدة القديمة، ولم يكن في جعبتي يومها سوى 138 جنيهًا فلسطينيًّا. آليت على نفسي أن أعيش لهم أو أموت معهم، إذ تصوّرت كأنّ الشّعب الفلسطينيّ سوف يُمحى وينقرض لو مات أولئك.. وكيف يُمحى شعبنا العظيم؟ لا وألف لا.. وهكذا بدأت الفكرة وأسّسْتُ بعدها بأشهر قليلة جمعيّة دار الطفل العربيّ في القدس”. (“في وداع المربّية الفاضلة هند طاهر الحسيني”. اللّجنة التّحضيريّة لحفل التّأبين 1994).
في أيلول 1948 انطلقت “دار الطفل” في بيت جدّها في حيّ الشيخ جرّاح كمؤسّسة لاحتواء الأطفال الأيتام والفقراء والمحتاجين. ومع الأيّام تزايد عددهم فوسّعت هند دار الطفل بعد تنازل اخوتها الأربعة عن الأبنية المحيطة بالمدرسة. وفي العام 1976 وعلى أثر احتلال بقيّة الأراضي الفلسطينيّة، ازداد عدد اللاّجئين من الأطفال وخاصّة من البنات، لتصبح دار الطفل ميتمًا ومدرسة للبنات بعد أن كانت ميتمًا مختلطًا لمدّة عشرين عامًا تقريبًا.
اهتمّت الكاتبة، وعلى امتداد الرّواية، بإبراز شخصيّة هند المتميّزة بصدق عطائها ونضالها. بدايةً حين آثرت البقاء في القدس ولم تدفعها النّكبة وما ألحقته بالشّعب الفلسطينيّ من تشريد وتهجير وتدمير إلى الهجرة وترك البلاد كالكثيرين من الأثرياء، بصفة خاصة، خوفًا من مواجهة المصير نفسه. فقد ” كان “لكلمة “إمكانية وثراء” معنى خاصّ لديها. كان يعني القدرة على مساعدة الآخرين”. (ص 13) وتذكر الكاتبة كيف كانت هند تُسافر إلى مخيّمات اللاّجئين بسيّارة المدرسة، وتعود وقد امتلأت سيّارتها بأطفال الأُسر الفقيرة العاجزة عن تعليم أبنائها.
كانت هند على قناعة تامّة بأنّ الاستثمار بالأطفال هو أفضل أنواع المقاومة، وآمنت أنّ خلاص الشّعب الفلسطيني يعتمد على تعليم صغاره ومنح شبابه التّحرّر الثقافي. فالطّفل في رأيها “هو أمل الأمّة المرتجى وغدها المرتقب، وهو أعظم استثمار بشريّ وأثمن مُدّخر”.
تتجلّى إنسانيّة هند في تكريس حياتها لرعاية الأطفال وتربيتهم، بعد أن آلت على نفسها ألاّ تتزوّج. فعملت على توفير البيئة الآمنة لهم واهتمّت بإشغالهم بالموسيقى والرّسم والتّطريز، كما كانت تعزف لهم على البيانو. كانت هند الأمّ الحاضنة والدّاعمة، وكان بابها مفتوحًا أمام الجميع. ويُذكر في الرّواية كيف كانت تعمل على إيجاد الحلول للمشاكل الشّخصيّة التي تُواجه الطّالبات وتهتمّ بإخراجهنّ من كلّ ضائقة يتعرّضن لها.
آمنت هند بالمرأة وبوجوب تعلّمها وبقدرتها على النّجاح والتّطوّر والمساهمة في بناء المجتمع الفلسطينيّ السّليم. تقول، وقولها هذا عام 1985: “نسعى لإعداد المرأة كي تكون قادرة على مواجهة الحياة بعقل سليم ومنطق سليم. فتعليم الفتاة لا يعني بالضّرورة حصولها على وظيفة، بل يعني أساسًا إعداد فتيات متعلّمات وأمّهات قادرات على التّعامل مع أُسرهنّ وأطفالهن بطريقة علميّة واعية”.
علّمت هند الفتيات الصّبر والثّبات وشدّدت الرّغبة فيهن على النّجاح، وأهمّيّة أن تتحلّى الواحدة بالإرادة القويّة وبالإيمان بقدرتها على التّعليم والنّجاح وعدم السّماح للاحتلال أن يُحدّد إمكانيّاتها ويحدّ من طموحها. وكثيرًا ما كانت تُردّد على مسامع الفتيات أنّ دولة فلسطين الجديدة “ليست بحاجة لأبطال يضحّون بأرواحهم لأجلها، بل لأذكياء يعملون لمصلحتها”. (ص 51)
حرصت هند على إبقاء دار الطّفل بمنأى عن السّياسة، فاهتمّت أن تكون مؤسّسة مستقلّة في جميع المجالات ولا سيّما في المناهج التعليميّة، فحصلت على التّبرّعات في بداية انطلاقتها من سكّان القدس المحلّيّين واستطاعت أن تؤمّن الحاجات الأساسيّة من أطعمة وأغطية، ومن ثمّ ازدادت التّبرّعات من الفلسطينيّين والدّول العربيّة. وعلى الرّغم من بعض الفترات الصّعبة التي مرّت بها، لم تفقد هند إصرارها على الاستمرار بإدارة مدرستها التي أصبحت مع مرور الزّمن “منارة لكلّ العرب في مدينة القدس”. (ص 42 )
وهنا لا بدّ من ملاحظة، لن أتركها إلى النّهاية. هو لوم لكاتبة الرّواية على سماحها لامتنانها الكبير الذي تحمله لهند الحسيني أن يجعلها تغفل عن ذكر اسم كلّ شخص ساعد وساهم ومنح لتولد مؤسّسة دار الطفل. فإقامة مثل هذه المؤسّسة لا يُمكن أن يكون عملاً فرديًّا، وإنّما هو نتاج عمل جماعيّ مشترك. ربّما “الفكرة” نعم تكون فردانيّة شخصيّة، ولكنّ “التّطبيق” من المستحيل أن يتمّ على يد شخص واحد بمفرده، حتى لو كان ينتمي لعائلة معروفة كعائلة الحسيني. وإذا فاضلنا بين الفكرة والتّطبيق، فإنّنا سنختار التّطبيق لأنّه الأهمّ. ورلى جبريل في هذه الرّواية تؤرّخ لحياة هند الحسيني وهي مُطالبة بأمانة المؤرّخ ودقّة الموثّق وإيفاء كلّ ذي حقّ حقّه.
في الجزء الثّاني والثّالث من الرّواية، تأتينا الكاتبة بشخصيّتي نادية وفاطمة كتمهيد للدّخول إلى شخصيّة ميرال في الجزء الذي يليه. نادية وفاطمة، هما نموذجان للمرأة الفلسطينيّة المتمرّدة كلّ بحسب ظروف نشأتها. فنادية هي “زكية” والدة رلى جبريل. هي المرأة المتمرّدة، السّاعية إلى تحرير نفسها من القيود التي تُكبّل حرّيّتها وتُحدّد تحرّكاتها وتُحوّلها إلى مخلوق ذليل وخانع. كانت نادية ضحيّة زوج أمّها الذي عاملها بعنف وقام باغتصابها وهي في الثّالثة عشرة من عمرها، فغادرت البيت لأنّ بقاءها فيه كان يعني الموت.
وفي مثل هذه الحالة، غالبًا ما يكون التّمرّد على الواقع عنيفًا. فاستغلّت نادية ظروفها للتمرّد على أعراف الحبّ والزّواج التّقليديّين، فنراها تقيم علاقات غراميّة وجنسيّة بشكل يتنافى والتّقاليد الاجتماعيّة، بعد انكشافها على حياة الحريّة في المدن اليهوديّة. إلاّ أنّ هذه الحريّة التي نعمت بها لم تستطع تحريرها من قهر الظّروف الاجتماعيّة التي نشأت فيها والاحساس بالظّلم والاشمئزاز والضّياع، الذي قادها إلى إنهاء حياتها غرقًا.
ونادية، في رأينا، شخصيّة مثيرة في الرّواية تستدعي دراستها بشكل معمّق، كونها ذات أبعاد نفسيّة مركّبة ومعقّدة يستطيع القارئ أن يلاحظها على الرّغم من أنّ الكاتبة قد حرّرت نفسها من الغوص في أعماقها النّفسيّة.
أمّا فاطمة، فيرتبط اسمها في الرواية بنكسة 1967، التي خلّفت وراءها أمّة عربيّة مهزومة وذليلة.
فاطمة هي نموذج المرأة الفلسطينيّة المناضلة، الجريئة، المؤمنة بعدالة قضيّتها والفدائيّة المندفعة نحو تنفيذ المهمّات الكبيرة دون خوف أو وجل. هي فاطمة البرناوي المقدسيّة المناضلة، المُلقّبة بأمّ الثوّار، التي كُلّفت بتنفيذ عمليّة فدائيّة تقضي بتفجير “سينما صهيون” في القدس في 8 تشرين أوّل 1967. ولكنّ العمليّة فشلت وحُكم عليها بالسّجن مؤبّدان وعشر سنوات. أمّا نقطة التقاء كلّ من نادية وفاطمة، ففي مشاعر الكره والنّقمة التي تحملها كلّ واحدة داخلها. نادية نحو زوج أمّها والرّجل بصفة عامّة، وفاطمة نحو المحتلّ الإسرائيليّ.
ص 122 في الرّواية يبدأ الجزء الخاصّ بميرال أي برلى جبريل، التي أودعها والدها في مؤسّسة دار الطّفل عقب موت والدتها نادية وهي في سن الخمس سنوات. وميرال في هذه الرّواية تمثّل جيل الانتفاضة الفلسطينيّة الأولى التي اندلعت عام 1987 وما أفرزته من تحرّكات سلميّة واتّفاقيّة أوسلو.
عاشت ميرال في دار الطّفل من سن الخامسة وحتى العشرين. وخلال هذه السّنوات تفتّحت مداركها العقليّة ووعيها السّياسيّ من خلال قراءاتها الكثيرة واطّلاعها على الأدب الفلسطينيّ وعلى روايات غسّان كنفاني خاصّة حيث اطّلعت على الأحداث الهامّة والفاصلة في تاريخ الشّعب الفلسطينيّ.
كان انكشاف ميرال الأوّل على مأساويّة الواقع الفلسطينيّ من خلال عملها التّطوّعيّ في مخيّم قلنديا حيث اصطدمت بالظّروف الصّعبة والمزرية التي يعيش فيها هؤلاء الأطفال ومن ثمّ بدأ يتشكّل وينمو داخلها شعور بالظّلم والغضب نحو المحتلّ الإسرائيليّ. وكانت نقطة التّحوّل الحادّة في تعميق هذا الشّعور بالظّلم حين شهدت مداهمة جنود الاحتلال للمخيّم ورأت وجوه الأطفال المذعورة والمرتعبة: “كانت كلّ هجمة من الجنود تهزّ الصّغار وتحرمهم من الابتسام لأسابيع”. (ص 182) وكان المشهد الأصعب حين رأت ميرال أحد الأطفال جالسًا فوق كومة من الرّدم كان بيته، وهو يحملق في الفضاء.
عايشت ميرال أحداث الانتفاضة الأولى، ونشطت سياسيًّا وانضمّت إلى الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين. شاركت في المظاهرات وواجهت العنف، وشهدت مقتل أصدقائها أمام عينيها، كما واجهت قسوة السّجن ووحشيّة التّعذيب. وكان التقاؤها بهاني مسؤول الجبهة الشّعبيّة في القدس نقطة تحوّل هامّة في توجّهها الفكريّ وأسلوبها النّضاليّ.
يُمثّل هاني في الرّواية الشّباب الفلسطينيّ الواعي، المتعقّل، الرّزين، المتعلّم من أحداث الماضي والمُتّخذ للعبر. مقابل ميرال التي تُمثّل الشّباب الفلسطينيّ المندفع والمتحمّس للقضيّة مغلّبًا العاطفة على العقل. في حين يُمثّل خلدون، اللّاجئ في مخيّم قلنديا، الشّباب الفلسطينيّ اليائس والفاقد للأمل.
هذه الشّخصيّات الشّبابيّة في الرّواية هي شخصيّات متطوّرة، غير ثابتة، وهي شخصيّات مؤثّرة ومتأثِّرة. فشهدنا تأثير كلام ميرال على “خلدون” وإقناعه بالسّفر والدّراسة وعدم الاستسلام لأفكاره اليائسة وحياة المخيّم البائسة، ثمّ تأثير هاني على فكر ميرال وجعله أكثر اعتدالاً.
أدرك هاني أنّ اتّباع العنف في النّضال بدون تفكير ووعي بالنّتائج والعواقب سيوصل حتمًا إلى الدّمار، وأنّ الحوار السّلميّ بين الطّرفين هو خير سبيل. يقول: “لدينا ظمأ كبير للعيش بحرّية في وطننا، ممّا يُمكّننا أن نتحمّل أيّ شيء وأيّة تضحية”. (ص 349)
وكان صمت العرب أمام كلّ الجرائم التي تحدث في الأراضي الفلسطينيّة وحقيقة الدّور الكبير الذي لعبته القوى الأجنبيّة وأنظمة الحكم العربيّة في وقوع النّكبة وتشريد الشّعب الفلسطيني، كفيلاً بإقناع هاني أن الحليف الحقيقيّ للفلسطينيّين هو اليسار الإسرائيليّ، وإقناع ميرال بذلك. يقول: “هؤلاء هم الذين نحتاج إلى التّواصل معهم. إنّهم لن يذهبوا إلى أي مكان، ولا نحن أيضًا. دولة واحدة أو دولتان لا يهمّني. أريد أن أحيا. أريد مستقبلاً لأطفالنا”. (ص 351)
رواية “ميرال” هي رواية شخصيّة لا رواية حدث. فكلّ ما قامت به ميرال أو هند، كان التّركيز فيه على الفاعل وليس على الحدث في ذاته.
تنتهي الرّواية بتوقيع اتّفاقيّة أوسلو وبمشهد ترك ميرال لدار الطّفل: “عندما كانت ميرال تجتاز قبّة الصّخرة التي كانت تلمع في أشعّة الشّمس، وفي الطّريق وعبر حارة اليهود المتديّنين، رأت مستوطنين يهود يحملون السّلاح احتجاجًا على توقيع اتّفاقيّة السّلام قريب الوقوع. كان بعضهم يحملون مناشير عليها صورة رابين وتحتها كُتب: خائن”. كانت مدينتها القدس تترجرج ثانية بين السّلام والحرب”. (ص 379)
في الختام، نسأل السّؤال: ما الجديد الذي قدّمته رواية “ميرال” للرّواية الفلسطينيّة؟
لم تُقدّم رواية ميرال جديدًا في مضمونها بصفة عامّة، فكلّ الأحداث السّياسيّة وما رافقها من نضال الشّعب الفلسطينيّ، كُتب عنه الكثير. ولكنّها نعم تُقدّم جديدًا في تعريفها القارئ، الفلسطينيّ خاصّة، إلى السّيّدة هند الحسيني التي تُشكّل رمزًا فلسطينيًّا للنّضال والعطاء والإنسانيّة.
من يقرأ “ميرال” تُلهمه شخصيّة هند الحسيني. عطاؤها الكبير يدعونا إلى التأمّل في النّفس، محاسبتها، مراجعة أعمالنا، إنجازاتنا، عطائنا ونوعيّة هذا العطاء. والأهمّ أن نتعلّم منها الإرادة والإصرار على تحقيق ما نؤمن به، وأن نحوّل الفكرة إلى واقع والكلام إلى فعل.
(نصّ المداخلة التي أُلقيت في حيفا، في أمسية إشهار ترجمة رواية “ميرال” للشّاعرة سعاد قرمان، بتاريخ 5.9.2019 في نادي حيفا الثّقافيّ).