(الحلقة الثَّالثة)
يقول الرَّفيق يعقوب ابراهيم حنَّا الياس، أبو سهيل، في لقائي معه في كتابي “حماة الدِّيار” قبل أعوام:
بعد أن حرَّر الثُّوَّار قرية البروة، منطقة الجليل الغربيِّ، سلَّموها “لجيش الإنقاذ” لأنَّه تعهَّد للثُّوَّار بتكملة التَّحرير والحفاظ على المنطقة المُحرَّرة، لكنَّهم رأوا أنَّ هذا الجيش، سلَّم القرية لعصابات الهجناة، بعد أن فرض عليها منع التَّجوُّل ليهرب وجميع أفراد “جيش الإنقاذ” من المنطقة، هذه الحادثة أثارت الشُّكوك وعدم الثِّقة بهذا الجيش “المُنقذ” ممَّا جذب الكثير من الشَّباب المثقَّف الثَّوريِّ ليلتفَّ حول رفاق عصبة التَّحرُّر الوطنيِّ (الشُّيوعيِّين خ.ت.) الذين حذَّروا السُّكَّان من هذا الجيش ومن تصرُّفاته وعرفوا صواب تقديرات الرِّفاق، الأمر الذي أمكن الشُّيوعيِّين من إقامة نواة لأصدقائهم في البعنة، وبدأت موجة القتل والتَّخويف والإرهاب تعلو وتيرتها لتدبَّ الرُّعب في قلوب الأهل وبدأ الهرب والنُّزوح إلى ما وراء الحدود الشَّماليَّة والشَّماليَّة الشَّرقيَّة وقام رفاق عصبة التَّحرُّر بتوزيع منشور يدعو فيه السُّكَّان لعدم ترك البلاد والبقاء في الوطن”..
كتب الرِّوائيُّ الفلسطينيُّ محمَّد الأسعد، ابن امِّ الزِّينات، روايته الأولى “أطفال النَّدى”،
وفيها يُحدِّثنا على لسان أمِّه عن “الدَّعم” العربيِّ:
وكيف كانت الإمدادات تصل للحركات الصَّهيونيَّة من الغرب إلى الدُّول العربيَّة المجاورة كمحطَّة لتخطيط الدُّخول إلى فلسطين، وكيف أنَّه كانت هناك دعوة للمقاومين من الجيوش العربيَّة للمشاركة في القتال، وعندما تنفَّس المقاومون الصَّعداء وارتاحوا لإخوانهم الذين تسلَّموا المواقع، طلبوا من الثُّوار تسليم أسلحتهم ليُقاتلوا عنهم، لكنَّهم بعد أن تسلَّموا سلاح الثُّوَّار نقلوهم إلى الأسر العربيِّ، وقد ترَكوا جثث الثُّوَّار في مواقع القتال والدِّفاع، لدرجة أنَّ والده ظلَّ يعتقد “بعد عشر أو عشرين سنة أنَّ الضِّباع ما زالت تأكل جثثهم لا يبدو أنَّ أحدًا أدرك لهم وجودًا” (ص 22). وفي مكان آخر يقول: “أنحن أصحاب أحزاب وتحزُّبات وما زالت الضِّباع تأكل جثث رجالنا؟ ويبدو لي هذا التَّعبير بليغًا أو شبيهًا بحكمة تُقال لترسم حياة كاملة. وما بعد هذه الحكمة هو الصَّمت..الصَّمت إلى الأبد” (ص46).
كان جدِّي يوسف، أبو تركي، يقول: الدَّهر عكروت والأيَّام خانت (جارَت). والعكروت هو الدَّاهية، والعاهر، وجمعُها عكاريت للذُّكور وعكروتات للإناث، وتضاربت معانيها لكنَّ معناها في بلادنا معروف، والدَّهر مش بس عكروت وابن عكروتي كمان، والله ع الظالم.
لقد ثكل جدِّي يوسف ابنه تركي، الذي منحه هذا الاسم تخليدًا لاسم والده واعتزازًا به، ليحمله معه في حياته، لكنَّ القدر شاء غير ما تمنَّاه ورجاه، ففي العام اربعين من القرن المنصرف، ما بعد ثورة السِّتَّة وثلاثين، كان عمر وليده أحد عشر عامًا، في الصَّفِّ السَّادس الإبتدائي، في قرية مغار حزُّور، الجليل، قضاء طبريَّا، حيث كان بهيَّ الطَّلعة، فارعَ الطُّول، وسيم المُحيَّا، بسَّام الشَّفتين، فيَّاض القوَّة، واسع العطاء حنونًا، أشقر الشَّعرِ، أحور العينين، شغوفًا بحبِّ الطَّبيعة، والرَّيِّ والزِّراعة والفلاحة ومساعدة والده في الحقل متى احتاجه في جميع المواسم الزِّراعيَّة، وكان كذلك من التَّلاميذ المُتفوِّقين على ابناء جيله، وأكثرهم ذكاءً وإلمامًا، فُتوَّةً وقوَّةً، محبوبًا لدى الجميع من أهل حارته والحارات المجاورة، وكان كبار السِّنِّ يقصدونه ليقرأ لهم رسائلهم، وبارزًا بين جميع اترابه كيف لا وقد كان حلو المعشر وهادئ الأعصاب، كما حدَّثني والدي عنه.
وبينما كان الفتى تركي واترابه يلعبون في ساحة الدَّار، تحت الطَّريق العام، المؤدِّي إلى شارع عكَّا صفد الرَّئيسي، وجدوا “رمَّانةً معدنيَّةً”، حيث بدأوا يلعبون بها مرَّة بالرَّكل وأخرى برميها، كرةً يتناولونها من بعيد فيما بينهم، بعد ان يرميها الواحد منهم للآخر ليمسك بها وهي في الهواء ومن كانت تقع “الرُّمَّانة” بجانبه كان يخسر اللعبة، ويقفُ جانبًا، إلى أن تنتهي اللعبة، واستمرُّوا في اللعب إلى أن انهكَهم التَّعب، حين سقطت الشَّمس مختبئة غرب جبل حزُّور وإلى ما وراء جبل حيدر الجليليِّ، لتنام وراءه وتلتحف باشجاره بعد يوم إضاءة مضنٍ لتستيقظ في اليوم التَّالي لمتابعة عملها، بعد أن تشحن نفسها بطاقة جديدة، ولتراقب ذلك الحدث الجلل..
لكنَّهم قبل أن يستريحوا، أخذوها إلى الكندرجي في الحيِّ، لفحص وفتح هذه “الرُّمَّانة” وفحص لؤلؤها وأكل ما في داخلها، علَّها تكون حلوة المذاق، مليئة بعُصارة طيِّبة زكيَّة، تروي ظمأهم بعد تعبهم وتحلِّي ريقهم من مرارة الحلق في حرِّ ذلك اليوم، لكنَّه بعد أن عاينها ودقَّق في فحصها، رماها لهم قائلاً “رُمَّانِتْكو مبرْدي مش نافعة”، أخذها فتى الحارة، تركي، وبدأ “يخبطها بالصَّخرة” إلى أن انفجرت به، ومات “يا نار إمُّو ع الدُّخَّاني”، مزَّقت جسده وتبعثر اشلاءً موزَّعةً حول مكان الإنفجار، على الأرض وعلى أغصان الأشجار وعلى الصُّخور المجاورة، لقد افترسته “الرُّمَّانة المعدنيَّة” وقذفت بأشلائه إلى البعيد، هكذا بلحظات، “ما بين طرفة العين ولمعة البرق”، خطفته يدُ المنون، بلا رحمة قد أذابت حرارتُها جسدَه، حيث كان من الصَّعب جدًّا تجميعها ووضعها في نعشٍ..
لم يعلم أحد في ذلك اليوم ان الغيب حضَّر له موتًا أليمًا ولئيمًا، ولوالديه الثَّكل والألم والحسرة والسَّواد، لم يعلم أحد أنَّ موته قريب منه، قرب الهواء من أنفه، وقرب الماء من فمه، وقرب الغبراء من قدميه وقرب شفتي والدته في قبلتها على خدَّيه!
لا أحد يعلَم..
كانت قنبلةً من بقايا جنود بني عثمان أو من بقايا البريطانيِّين الذين كانوا ينتهكون حرمات البيوت واعرافها، ويستوطنون أين شاءت إرادتهم أن يحِلُّوا، لإجراء تدريباتهم، حتَّى لو كانت في اماكن سكنيَّة، على حساب راحة السُّكَّان، وحياتهم وخصوصيَّاتهم، ظلمٌ وقهرٌ واستبدادٌ..
لقد شيَّعوه بعرس يليق بشبابه، وبعِظم الفاجعة، “خيرُه في ظهرِهِ”، وكأنَّه عريس في ليلة زفافه، في لحظة دُخلته على خلَّته، حين لفُّوه بكفن أبيض اللون ناصِعٍ مليئ بالورود والزُّهور وألبسوه ثياب العريس، بعد أن لَمُّوا وجمعوا أشلاء جسده العالقة بين أزهار الحقل وورود البستان وبراعم الأشجار وفننها..
حزنت امُّه كثيرًا لمصابها المُفجِع ولموت وحيدها ووليدها، قُرَّة عينها، لطمت وجهها وصدرها ورُكبتيها، معلنةً عن حدادها طول حياتها، تزور قبره صباح كلِّ يومٍ إلى مسائه، وتبقى هناك إلى أن تأتي نساء الحيِّ، يهدِّئنها ويواسنَّها ويأخذنها إلى البيت، حتَّى أنَّها امتنعت عن تبديل ثيابها وامتنعت عن الإستحمام إلى ما شاء القادر، لكي تحافظ على رائحة ابنها في جسدها وعبقه الزَّكيِّ في ثوبها، وتشمَّ عطره أينما كانت ومتى أرادت، “ريحتك ريحان وزيت، ريحتك ملَّت البيت”، فقد كانت تضمُّه إلى صدرها وتقبِّله ساعة خروجه من البيت وفي رجوعه إليه أيضًا، ﴿..بُكْرَةً وَأَصيلاً﴾، “الله يرضى عليك يمَّا وين ما رُحِت وكيف ما دُرِت” و”إن شاء الله دربك خضرا يا حبِّة عين إمَّك”، لكنَّ السَّميع لم يسمع دعاءها في ذلك الصَّباح المقيت..
لقد أجبرنَها نساء الحيِّ على فكِّ حدادها، حيث قُمنَ بغسلها وتغيير ثيابها، قائلين لها: هذا الذي تصنعينه بنفسك، حرام، حرام عليكِ وحرام بحقِّه، ففي قبره يتعذَّب ويتلوَّى أسىً كلَّما بكيتِهِ..
لكنَّ الحديث كثُر بين النَّاس، أنَّ هناك من المارَّة ليلاً، في مكان الفاجعة، من يسمع صوت تركي، يُناجي والديه، أن يريحوه من ظلمة القبر ووحشته، وحيدًا فيه، لا أنيس ولا سمير ولا صديق وينادي على أصدقائه، وأحيانًا كان المارَّة يسمعون أصوات بكائه وعويله على ما أصابه، يبكي على نفسه وعلى ما سبَّبه لوالديْه من اسىً، كيف يُقنعهم أنَّه غير مسؤول عن موته، وكيف مات، وهو الذي كان يُفرحُهم “تعال لعندي يا روح أمِّك، يا حبِّة عيني انتِ”، لا يستطيع مواساتهم ابدًا، فخاطرهم مكسور، فكيف يواسيهم وهو الذي كسر خاطرهم دون أن يأخذ بخاطرهم وهو اكثر ما يحتاج إلى المواساة والعودة إلى حضن والدته الدَّافئ..
يحكون عن دير ياسين، في قضاء القدس، القرية الهادئة والمسالمة، يحكون عن مائتين وأربع وخمسين ضحيَّة، قُتلوا بدمٍ باردٍ، في التَّاسع من نيسان من عام النَّكبة، غالبيتهم من النِّساء والأطفال والعجزة، ألقوا بقنابلهم إلى داخل بيوت السُّكَّان العُزَّل، وطافوا بسيَّاراتهم العسكريَّة وهي محمَّلة بالأسرى، “عملوا منهم فُرجي للنَّاس” لإرهابهم، وحين أعادوا الأسرى إلى القرية، قتلوهم على مرأى من سكَّان القرية، كان هذا في العاشر من نيسان عام الفٍ وتسعمائة وثمانية واربعين، وفي كلِّ عامٍ من ذكرى المجزرة، تخرج أرواح الضَّحايا الشُّهداء، تجول في أحياء القرية، تتفقَّد أحوال بيوتها، وتُفتِّش عن أهلها وعن أقاربها عساهم يُدخِلونهم في جسدٍ، في قميصٍ، ليكتملوا في صورة إنسان، وتُنادي الأرواح على الأحباب دون جواب، وعندما لا تجد الأرواح أحدًا منهم، تعود إلى سُكناها، حزينةً كئيبةً، علَّها تجد سكينتها في قبرها، “إلى أوَّل منازل الآخرة”، أم تذهب إلى دار البرزخ في طريقها إلى الجنَّة، لتُعاود كرَّة الظُّهور في كلِّ سنة في العاشر من نيسان، عساها تجدُ ما يُثلج صدرها بعد كلِّ هذا الشَّتات، بلقاء الإخوة والأخوات..
فقدَت وليدها، وحيدَها وسندَها في الحاضر والمستقبل، بعد أن ﴿..حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ..﴾، “يا ناري حَرَق قلبها هالصَّبي” قالت نسوة الحيِّ، لقد فقدته في لمْع البرق، ولمح البصر، فقدته برمشة عين بعد ان حافظت عليه برمش العين، ولو استطاعت أن تفديه بروحها، لما توانت عن هذا، ولو للحظة!
“لا يكن بكَ السُّوء”..
لقد أوصت والدته، أم تركي، ساعة حلول ساعتها للقاء ابنها، أمام الباري، بعد أن أحضرت “الذِّهبة” (جهاز الموت) أن يضعوا في نعشها خصلةَ شعرٍ من شعره وبعضًا من ثيابه وملابسه، وحقيبته المدرسيَّة، بيت كتاب، (الذي كان من قماش أو من كيس خيش) وأقلامه، ودفاتره المدرسيَّة التي كانت بخطِّ يده الجميل ومن بينها دفاتره، كانت دفاتر اللغة الإنجليزيَّة والعربيَّة والرِّياضيَّات، كي توصل حاجيَّاته إلى مكان إقامتهما الجديد، هناك في البعيد، ليعيشا بأمانٍ تحت عرش الرَّحمن العظيم، الرَّحمن الرَّحيم في السَّماء السَّابعة، لكي يُتَّمِّم دراسَته في مدرستِه الجديدة، عساها تجدُ في اللقاء مع مهجة قلبها، عند الباقي، عزاءً وبقاءً إلى ما شاء لها أن تكون، في الأبديَّة، مع من أرادت له البقاء تحت كنفها، ليُتمِّم واجباته المدرسيَّة ويُتابع تفوُّقه كما على الأرض
كذلك في السَّماء..
تُرى هل استقبلها استقبالاً حارًّا كما يليق بها، هل عرَفها حال دخولها، باب الجنَّة وهل كان يعلمُ بحضورِها فاستقبلها! أم فاجأته كما فاجأها في رحيله المُبكِّر، وهل عرفته والدته من خصلة شعره التي أخذتها معها، وهل تعرَّف على قرطاسيَّته وحوائجه، أم أنَّ هناك لهم نظامٌ دراسيٌّ آخر، وقرطاسيَّة أخرى، أو هل هناك مدارس كما هي على الأرض، أم أنَّهم لا يحتاجون شيئًا ولا ينقصهم شيئٌ، لا مدارس فيها ولا عناء الدِّراسة ولا امتحانات ولا عقاب ولا عذاب ولا جزاء ولا قصاص، فهي الجنَّة المُشتهاة، حيث لا تعبَ فيها ولا حزنَ ولا بؤسَ ولا تعاسةَ، لا شقاءَ ولا ضرَّاءَ ولا عناءَ، لا عوزَ ولا ضيقَ، لا ضَنكَ ولا ألمَ..
وإن التقت به هل ستعرفه بعد كلِّ هذه السِّنين التي عبرت، هل ستعرفه من خلال خصلة شعره، أم أنَّ لون شعره قد تغيَّر وأصبح شائب اللون بحكم الزَّمن، بعد أن “غزا الشَّيب” مفرقَه، هل يشيب الشَّعر في الجنَّة، وهل يشعرون بعد الموت بمرور الزَّمن، أو هل للزَّمن قيمة هناك، وهل تمرُّ السُّنون كما تمرُّ عندنا، وهل سيتعرَّف على أمِّه حال رؤيتها أم من خلال ذكرياته معها، عندما يتناولان أطراف الحديث، وهل ما زال يحفظ تقاسيم وجه أمِّه، ويعرفها من “نفحِ الرَّياحين والورود” أم “من ابتسامتها “الرَّطيبة”! بالتَّأكيد نعم، سيعرفها، فملامح الوالدة لن تتغيِّر عليه، فهي “لا تغيب” لأنَّها “أنشودة الخلود” وحتمًا عندما يرى ما في جُعبتها من دفاتر وقرطاسيَّة كانت معه في طفولته، في كيس كتبه، سيعرفها، وسيتعرَّف على جميع أغراضه..
تُرى هل هناك أفضل من هنا، أم أنَّ هنا أفضل من هناك، أم “لا هنا إلا هناك ولا هناك سوى هنا”، أم أنَّ هناك وهنا هما وحدة واحدة واستمراريَّة الأولى للآخرة!
لكنَّها أحيانًا كانت تُريد أن تؤمنَ، لتُقنع نفسَها، بأنَّ ابنها قد ظهر وتجلَّى في شرق الدُّنيا أو في غربها، في شمالها أو جنوبها، وما بين الغرب والشَّرق تقف أمُّه، في حيرة، ويخفق قلبها سريعًا ما بين الخافقين، وما بين الشَّمال والجنوب تقع في حال غموضٍ، لا مخرج منه، وإن لم يتجلَّ فهل انتقلت روحه من جسده الميِّت إلى روح طفل حديث الولادة، بعد أن تقمَّصه! فالرُّوح لا تموت، بل يموت قميصُها، بدنُها، يموت الجسد، وتبقى الرُّوح، تنتقل من جسدٍ ميِّتٍ إلى جسدٍ آخر حيٍّ، إلى وليد جديد، إلى قميص آخر، الذَّكر يتقمَّص ذكرًا والأنثى تتقمَّص أنثى، وإن تقمَّصه آخر فهو بالتَّأكيد سيعرفها حالاً، ويعرف لغتها، وهل سينطقُ هناك، ويكون دوره كما كان في حياته السَّابقة، لكنَّها لا تستطيع أن “تدُور” العالم “وتُدَوِّر” عليه، وتُفتِّش عنه، عليه هو أن يجِدَها، وليكُن اينما حلَّ “هذا مش مهم”، لقد جال في خلدها عودة تركي إلى الحياة هو الأهم، المهم ان يكون على قيد الحياة هناك في البعيد أو هنا في القريب، إن كان من هذا بدٌّ، فليكن هذا البُدُّ، آه منك يا ايُّها البدُّ اللعين، لو تركتنا بحالنا لكان هذا أفضل..
وتسألُ نفسَها إن كان ما زال في الفيافي والسُّهوب والدُّروب يفتِّش عن مأوى، أو عن قطعة قماش تكسو بدنه وتُغطِّيه، هل سيستكين هناك ويسكن تلك المحلَّة أم سيخرج ليُفتِّش هنا عن بيته، عن أمِّه وابيه، لكنَّه ليس بحاجة لأن يُفتِّش عن بيته، فهو يعرفه كما تعرف النَّحلة خليَّتها، قفيرها، فهو وإن استقرَّ هناك، هل سيعرف لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم، “أنجق الملك سليمان يلحِّق” (أنجق= كلمة كرديَّة تعني بالكاد)، على لغات العالم ببشرها وحيواناتها، فقد علَّم الله الملك سليمان أبن داود، لغة الطَّير ومنطقه ولغة النَّحل وباقي الحيوانات، فكيف بوليدها الشَّاب الصَّغير ان يعرف لغة المكان الذي حلَّ به، فهل من هدهدٍ يأتيها بالخبر اليَقين..
﴿يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾..
لكنَّنا ما زلنا في غيبٍ لا نعرف كُنهه، ولا نقوى على حلِّ هذه الطَّلاسم..
فقد قال الخطيب والبليغ والحكيم والقاضي قسُّ بن سعد الإيادي، من قبيلة إياد في نجران، حيث كان اسقف نجران، في خطبته في سوق عُكاظ، في معشر بني إياد، قبل ظُهور الإسلام، والتي ما زالت صحيحة إلى يومنا هذا، إذ تُعتبر خطبته من أشهر الخطبِ في التَّاريخ، ما قبل الإسلام وما بعده، وأشدِّها بلاغة وصدقًا:
“أيُّها النَّاس اسمعوا وعوا. وإذا وعَيتم فانتفعوا. إنَّه من عاشَ ماتَ. ومن ماتَ فاتَ. وكلُّ ما هو آتٍ آت. مطرٌ ونبات. وأرزاقٌ وأقوات. وآباءٌ وامَّهات. وأحياءٌ وأموات. وجمعٌ وشتات. وآياتٌ بعد آيات. ليلٌ موضوعٌ. وسقفٌ مرفوعٌ.. إنَّ في السَّماء لخبرا. وإنَّ في الأرض لعبرا. ليلٌ داجٍ، ونهارٌ ساجٍ، وسماءٌ ذات أبراج، وأرضٌ ذات فجاج، وبحارٌ ذات أمواج. ما لي أرى النَّاس يذهبون ولا يرجعون؟ أرَضوا بالمقام فأقاموا أم تُرِكوا هناك فناموا، أقسم قسمًا لا حانث فيه ولا إثمًا، إن لله دينًا هو أحبُّ إليه من دينكم الذي أنتم عليه ونبيًّا قد حان حينه وأظلَّكم أوانُه فطوبى لمن آمن به فهداه، وويلٌ لمن خالفه وعصاه..”
يُروَى أنَّه حين أتى بنو إياد إلى رسول الله (ص)، سألهم: يا معشر وفد إياد، ما فعلُ قسِّ بن ساعدة الإيادي، أجابوه: هَلَكَ، فقال: لقد شهدْتُه يومًا بسوق عكاظ على جملٍ أحمر يتكلَّم بكلام معجِبٍ مونَقٍ لا أجدني أحفظه، فقال واحدٌ منهم: أنا أحفظه يا رسول الله، فسُرَّ النَّبي بذلك فألقاه أمامه..
يبقى السُّؤال مفتوحًا عن الحياة والموت، والحياة ما بعد الموت، ونبقى في هذا النِّقاش
بين شكٍّ في اليقين ويقينٍ في الشَّكِّ، بين الشَّيئ ونقيضه، ما بين الإثبات ونفيه، بين البديهيَّة التي لا تحتاج الى إثبات، فوحدة أضَّدادٍ واحدة، لا يعرف الجواب على هذه المُعضلة غير العليم الحكيم..
ناحت والدته أم تركي:
راحوا ولا ودَّعوني يا يمَّا، شَحِم قلبي ذابْ
ما اصعب العيشة يا يمَّا، علَي وعمْفارْقِ الأَحبابْ
كل ما هبَّ الهوى وخرخش عَ حَدِّ البابْ
طَلِّيتْ مِنْ لَهْفِتِي أَستقبِلْ الغِيَّابْ
وبكَتْهُ جارته:
جيت الدَّار تا أسأل ع ترُكي
لقيت الدَّار عمتبكي ع تُركي
رُحِت عَنَّا بكِّير والعين عمتبكي
بعد ما كنَّا سوا يا نحكي
صُرنا لحالنا تِركي يا تُركي
وفرَّق ما بيننا عالي السَّما
نَدَبته عمَّتُه:
لأبكي عليك يا تُركي ليل ونهار
ودمعي عليك فاض وعلى خدِّي زيِّ النَّار
فيض البَحرين والأنهار
وقالت الخنساء، الصَّحابيَّة والشَّاعرة من نجد، الجزيرة العربيَّة، في رثاء أخيها صخر، والتي قال عنها بشَّار بن بُرد، إنَّها “فوق الرِّجال”:
يُذَكِّرُني طُلُوعُ الفَجر صَخرًا وأذكرُه لكلِّ غروب شمسِ
فلا واللهِ لا انساكَ حتَّى افارقَ مُهجتي ويشقَّ رمسي
فيا لهفي ولهف أمِّي أيُصبحُ في الضَّريحِ وفيهِ يمسي
ما أصعب الموت وما أصعب الفراق وما أشدَّ لوعته حين يدفن الوالدان فلذة كبدهما، وحين سُئل الإمام علي بن ابي طالب، كرَّم الله وجهه، عن الموت، هل هناك أشدُّ من الموت، قال: نعم، فراق الأحباب أشدُّ من الموت..
(نتواصل، إنتظروا وشكرًا)