(الحلقة السَّادسة عشرة)
اسمَعُ والدي يقول منشِدًا “نحن أسدُ النِّضال”، بعد أن سيطر الشَّباب، شباب العزَّة والإباء البواسل، وحرَّروا الحيَّ، نزلتُ من شارع قيسارية إلى شارع الرَّاهبات في طريقي إلى مقرِّ العصبة، لأعرف ماذا بعد، ورأيتُ سيَّارات الإسعاف وسيَّارات الأهالي والعربات تنقل الجرحى والمصابين إلى المستشفى في شارع الرَّاهبات، الذي كان قد أقامه الدُّكتور، الطَّبيب الوطنيُّ ميشيل جبارة (عضو لجنة إغاثة أهالي الشُّهداء في حيفا)، حيث حوَّل بيته في هذا الشَّارع المؤلَّف من ثلاثة طوابق إلى مستشفى، لمعالجة المقاتلين الجرحى والسُّكَّان المصابين، حيث كان المكان يتَّسع لحوالي المائة سرير، لقد وضع نفسه وعقاقيره الطِّبِّيَّة وأدواته ومعدَّاته الكهربائيَّة والجراحيَّة، الجديدة والمستوردة، تحت تصرُّف الطَّواقم الطِّبِّيَّة التي طلبها لتتواجد في بيته، مستشفاه، لمساعدة الجرحى والمصابين، وجدتُ المستشفى على أهبة الإستعداد لكلِّ طارئٍ، والجماهير حوله يسألون عن حاجة المستشفى لتبرُّعات الدَّمِ أو نقل عتاد أو أيَّة مساعدة، اسرعتُ في طريقي إلى المقرِّ، ووالدي يطلب منِّي إدخال رأسي إلى جلبابه، وأنا اردتُ أن اقفز من جلبابه، لكنَّ قدماي ثبَّتتاني في عبِّه، ويداي تمسكان الجلباب، من الدَّاخل بقوَّة الكمَّاشة، “مكمشات من جوَّا” لقد قطَّع الخوف أعصابي، لكنَّ والدي يقول بصوت جهور “هيهات منَّا الذِّلة والمذلَّة”، “الموت ولا المذلَّة”..
“البركة في الشَّباب يابا”، أسمع والدي يهمس كي أسمعَه ويُطمئنُني، أنَّ الدُّنيا ما زالت بخير وأنَّ الشَّباب ما زالوا بخير، وما دام عنفوان الشَّباب بخير فنحن بألف نعمة وخير، كانوا يحرسون الحارات من أيِّ اعتداء، يدافعون عن بيوتهم عن امَّهاتهم واخواتهم وأطفالهم يُدافعون عن أنفسهم وعن حقِّهم في بيتهم وعن ذاتهم وعن ذواتهم، يدافعون عن كلِّ ما يملكون، بكلِّ ما يملكون، لقد حاولوا حماية الأهل وحماية النَّاس من أهل المدينة، والذَّود عن الحمى، إذ بنى الشَّباب الحواجز الوقائيَّة على مداخل الأحياء العربيَّة والإستحكامات حولها، درءًا لاعتداءاتهم على بيوت السُّكَّان الآمنين ومنعًا لدخول سيَّارات العصابات مع حمولاتها من متفجِّرات أو قوَّات راجلة لاحتلال أحيائنا، وكذلك حماية أهل البلد من الغرباء، الدُّخلاء الذين يريدون بأهل البلد شرًّا، حيث كانوا يلبسون ثياب جنود بريطانيِّين حتَّى يُوهِموا شبابنا بأنَّهم إنجليز، لكنَّ عيون شبابنا، يابا، كانت ساهرة، عشرة على عشرة، كانوا “يؤفروهن ع الطَّاير” ويمنعونهم من دخول أحيائنا، لقد اشتدَّت رقابة الشَّباب وتدقيقهم في كلِّ واردة على الحيِّ، بعد حوادث التَّفجيرات في شارع العراق، ومنطقة الحليصة ومنطقة المطحنة ووادي روشميا..
واشتدَّت عضلات رقبتي وأنا أحاول إطالتها أكثر وأكثر لأرى شيئًا من أحداث خارج عبِّه، أحاول أن أخرج من جلباب والدي لكنَّه يمنعني، وأنا لا استطيع مقاومته، أريد أن أخرج من عبِّه لأرى بأمِّ عيني ما يقوله، فما بين الأذن والعين اربع أصابع، ما بين السَّمع والبصر أربع أصابع، وأنا اريد تصغير هذه هذه المساحة بقدر المستطاع، لكنَّ والدي يمنع هذا، كم تُحبُّني يابا، وكم أنا احبُّك يابا واقدِّر حمايتك لي..
وصلتُ ودخلتُ المقرَّ الذي كُتِبت فوق قوسِ بوَّابة النَّادي الحديديَّة، يافطة كبيرة بارزة، “إتِّحاد النِّقابات المهنيَّة” فقد وجدْتُ رفاقي وقد أنهكهم التَّعب وغالَبَهم القلق وغَسَلهم العرق، يكتبون بخطِّ اليدِ وينقِّحون الجُمل ويتجادلون في فحوى النَّصِّ الملائم ويطبعون المناشير بواسطة مطبعة “ستانسل”، ويضعونها في رُزمٍ من قماش، تحضيرًا لإيصالها إلى القُرى والمدن المجاورة لتوزيعها.
لقد أخذ كلُّ واحد منَّا رزمةً، ووضع كلُّ واحد منَّا رزمته وخبَّأها في عبِّه، ونزلنا عبر شارع ستانتون فشارع الخطيب إلى ساحة الخمرة، وهناك تفرَّقنا إلى أماكن عديدة لنلتقي بمن يتحمَّل مسؤوليَّة إيصالها إلى من يهمُّه الأمر، والكلُّ مهتمٌّ بما حصل وماذا يخبِّئ القادمُ من الأيَّام لشعبي، على أمل أن تصلَ هذه الكلمات إلى أماكن تواجد اللاجئين، بغية إقناعهم وحثِّهم على التَّراجع عن قرارهم وبأن يعزفوا عن ترك المدينة لأنَّ النُّزوح هو في اتِّجاه واحد لا رجعة منه..
واعطيتُ كلَّ من صادفتُهُ منشورًا (10) يدعو للبقاء في حيفا، وإن كان أميًّا قرأتُه عليه، أو قرأت له بعضًا من نصِّه، ورافقه تفسيرٌ، وغالبًا كان بالمختصر المفيد، وعيوني ترقص وتراقب المارَّة بحذرٍ، كي لا نقع في فخِّ بني انجليز، أبناء الماشطة، الذين كانوا يُراقبون التَّهجير لمنع عودة المهجَّرين حال دخولهم الميناء، كذلك عمل رفاقي الذين تعهَّدوا بتوزيع المنشور، حيث أنَّ رفاقي في العصبة كانوا قد وكَّلوني وباقي رفاقي الشَّباب في حيفا بتوزيعه في هذه المنطقة بالذَّات من حيفا، وكانت دعوتنا لهم، لا تتركوا حيفا!
لأجل حرية فلسطين واستقلالها ووحدتها..
حين وقفتُ ورفاقي عند بوَّابة الميناء، قرب الحسْبة،كنت حينها في الخامسة عشرة، نترجَّى بقاءهم ونُقبِّل أقدام النَّازحين ليعودوا إلى أحيائهم وديارهم وبيوتهم، إن استطاعوا إليها ﴿..سبيلاً﴾، سمعتُهم يتهامسون بخوف وروْع وفزعٍ، عن أزيز الرَّصاص وأصوات التَّفجيرات التي تقسم الهواء إلى قسمين وتقصم سكونه، وتقضُّ سكون الدَّياجير وهدوء الليالي، كيف كانوا يُطلقون النَّار على بيوتهم، كلَّ ليلةٍ، وعن براميل البارود التي كانوا يُدحرجونها من علٍ على البيوت العربيِّة في الوادي، وعن القذائف التي هبطت على رؤوس روَّاد السُّوق من منطقة الهدار العلويِّ وعن القنَّاصة فوق سطوح المنازل وعن حرق الأماكن والمحال التِّجاريَّة والبيوت بعد غزوها واقتحامها وقتل من فيها وسرقت محتوياتها، واغتصاب نسائها وسمعتهم يتناقلون، أيضًا، برعبٍ وذُعرٍ تفاصيل مجازر دير ياسين وكفر لام وإجزم وأمِّ الزِّينات والطِّيرة والطَّنطورة وبلد الشِّيخ والحوَّاسة والهوشة والكساير وأم خالد والتَّل والنَّهر وأم الفرج والدَّامون والبروة..
لقد هرع، أيضًا، سكَّان القرى من قضاء حيفا، الى المدينة، الى الميناء، ليجدوا فيه ملاذهم في خلاصهم، في الشَّتات، نتيجة المذابح التي مرَّت بها هذه القرى وقرى الجوار، الحوَّاسة، بلد الشِّيخ، إجزم، ام الزِّينات، عين غزال، كفر لام، طيرة اللوز، الطَّنطورة، الياجور، عين حوض، جبع وخربة الدَّامون وصبَّارين والمزار وكفرتا وقصقص والحارتيَّة والرُّوحة والسِّنديانة..
الموت في الوطن ولا عيشة الذُّلِّ في المنفى وفي المخيَّمات، ولو استطيع أن أرجِّع عجلات التَّاريخ إلى الوراء..
رأيتُ النَّازحين يحمِّلون أثاث بيوتهم وفِراشهم وسجاجيد وحصر “قياسات” بيوتهم وأواني الطَّهي على الشَّاحنات، آملين بأنَّ العودة أكيدة، لن أنسى تلك المرأة التي حملت على رأسها جرن “الكُبِّي” فوق إكليل من القماش والمدقَّة في يدها اليُمنى وتمسك بيد طفلها بيدها اليُسرى، ورأيتُ أخرى تحمل الجاروشة بحجريها الأسودين البازلتيَّين لجرش الحبوب، وتلك تحمل الهاون النُّحاسيَّ ومهباج القهوة، والمحماسة ودلات القهوة، وأخرى تأخذُ معها دواجن الطَّير والحيوان، من دجاج وبطٍّ وطيورٍ ومعزٍ وضوائن، وآخر يحمل والده على كتفيه مسرِعًا نحو الميناء، وآخر يحمي والدته بجسمه من قنصٍ أو من التَّعب خوفًا من وقوعها على الأرض، بعد أن أكلت السُّنون كثيرًا من عظامها وأصبحت حدباء لا تقوى على السَّير أو الوقوف لوحدها طويلاً..
كان اللقاء في ساحة الخمرة، يا الله، كم كان إيمانهم بالعودة الأكيدة كبيرًا، ولو بعد حين، لقد رأيتُ مئات الشَّاحنات تنتظرهم، لتأخذهم إلى مجهول، إلى الشَّتات!
شعرتُ أنَّ المدينة تخلو من سكَّانها شيئًا فشيئًا، لم يحمِها الخضر أبو العبَّاس ولم يدافع عنها وعن سكَّانها مار الياس، كلُّ قداسة المدينة لم تشفع لسُكَّان حيفا ولم تذود عنهم بل وقعت عليهم النَّكبة كما على سائر مناطق الوطن، وكأنَّ قديسي حيفا وملائكتها تآمرت مع عصابات كرميلي..
(نتواصل، انتظروا وشكرًا)