مروى فتحي منصور
القدس من قضايا النزاع بين فلسطين ودولة الكيان الصهيوني، والتي لا يمكن تصور حل لها بوجود الاحتلال الصهيوني، والإعلان عن الخطة وتفصيلاتها جاء لاحقا لتنفيذ أهم بند فيها وهو أن القدس عاصمة إسرائيل، وقد تجسد ذلك واقعا بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس على أنها عاصمة لدولة الكيان الصهيوني ويأتي الخطاب الأمريكي في الخطة الأمريكية للسلام والازدهار ليعزز ترسيخ الوجود اليهودي الديني والحق التاريخي بشكل مطلق، والتعامل مع الروايات الإٍسلامية حول الوجود الإسلامي على نحو مغاير؛ فمجرد الاعتراف بالقدس بوصفها عاصمة إسرائيل يركز وجودها ويرسخه، وهو اعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية ونسف لكيان الفلسطينيين التاريخي والوجودي وإنكار لحقوقهم؛ لأنه لا يمكن لمدينة أن تكون عاصمة لدولتين، وهنا يبدو الموقف الأمريكي من التاريخ الإسلامي للقدس واضحا بمقابل
إيمان الإدارة الأمريكية المطلق بالعمق التاريخي والديني والروحي في الوجود اليهودي فيما أسمته أرض الميعاد أو مساحة الوعد.
ترامب خلال المؤتمر السنوي للوبي الإسرائيلي في أمريكا بتنظيم أكبر مؤسسات اللوبي؛ منظمة أيباك يوم 21 آذار/ مارس 2016 خلال دعايته الانتخابية يعدهم بالاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل اليهودية، “القدس لطالما كانت عاصمة أبدية للشعب اليهودي منذ أكثر من 3000 سنة، وأن الولايات المتحدة في ظل إدارة ترامب، ستقبل الاعتراف بالقدس عاصمة غير مقسمة لدولة إسرائيل.” ، وهو فعلا ما تحقق بعد توليه مقاليد البيت الأبيض، “إن إسرائيل ومواطنيها عانوا لفترة طويلة جدًا في الخطوط الأمامية ضد الإرهاب الإسلامي وإن الشعب الإسرائيلي يريد السلام العادل والدائم مع جيرانهم، ولكن السلام لن يتحقق إلا عندما يتخلى الفلسطينيون عن الكراهية والعنف ويقبلوا إسرائيل دولة يهودية”.
وذلك فيه ربط للمفهوم الديني –أرض الميعاد-بالقرار السياسي وهو اعتراف بيهودية الدولة، رغم نبذهم بالمقابل لأي حكومة دينية إسلامية، وتأييدهم للنموذج العلماني المتمثل بتركيا، وكذلك تصنيفهم لكل حركة مقاومة إسلامية على أنها إرهابية، هنا تظهر الازدواجية في المعايير السياسية، وكأن الاعتقاد الديني اليهودي هو استثناء، وهو تحديدا فكرة الصهيونية التي نادت بإنشاء وطن قومي يهودي لليهود في فلسطين وتدعيم وجودها، بناء على اعتقادات إنجيلية يهودية بأن فلسطين هي أرض الميعاد التي سيبعث فيها المسيح.
حرص الخطاب الأمريكي في الخطة على الاعتراف بالحق اليهودي التاريخي في القدس، وأرض الميعاد هو إشهار لأهم مقومات المشروع الصهيوني العالمي من جهة، وهو هجوم استباقي معتاد من قبل الإدارة الأمريكية في محاربة أي توجه ديني غيره.
على المستوى السياسي الديني جميع الأطراف العربية والفلسطينية تحديدا مجبرة على الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل، ولكن كيف يتم ذلك لوسيط يفترض أنه علماني يجرم الدول الشرق أوسطية كما يحلو له تسميتها لأنها شعوب عاطفية انفعالية تحتكم للمنقول الديني ولا تحتكم إلى العقل، كيف بإمكانه أن يكون منحازا ليهودية الدولة التي أصلا عدها الغرب منذ عقد أنها ضد الحداثة؟ هل هو انحياز المصالح فقط أم انحياز الاعتقاد الصهيوني؟
بالنسبة للخطاب الأمريكي –السياسة الخارجية أيا كان ممثلها-فإن دافع مصالح الولايات المتحدة ومصلح رئيسها هو الذي يحكمها، ولكن إن كانت مصلحتهما في إرضاء الحركة الصهيونية العالمية فنجد أنفسنا نتعامل مع عملة نقد وجهيها لا يختلفان عن بعضهما في التعريف بقيمة العملة حتى لو اختلفا بالشكل والصورة، وترامب يحتاج إلى الحركة الصهيونية لأنها هي من أوصلته إلى كرسي الرئاسة، وبحاجة إليها لكي تداري عن أخطائه في السياسة الداخلية.
المحصلة بالنسبة للفلسطينيين أن الخطاب الأمريكي لا يمكن أن يكون محايدا، فهو محكوم للحركة الصهيونية التي تسيطر على صقور البيت الأبيض وتستورد المستشرقين الأكاديميين في الترويج لأفكارها والتخطيط لها، وتتشابك مع المصالح الاقتصادية داخل وخارج أميركا، وتؤثر بمواقف الكونجرس الأمريكي، وتمدد ولاية رؤساء وتقصي آخرين، وبالتالي لا يمكن تخيل موقف أميركي لا ينادي بمبادئها، ودعم مشروعها، وطن قومي ليهود في أرض الميعاد لتهيئة نزول المسيح وإكمال مسيرة الحياة مع أخيار البشر.
ينبغي الإشارة إلى أن كلمة اليهود لا تعني كل يهودي، بل تعني الإسرائيلي الصهيوني الذي يؤمن ببعث المسيح في أرض الميعاد.
اعتراف ترامب بالقدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي هو تجاهل وتمرد لقرارات الشرعية الدولية، وفيه يتحول ترامب من وسيط إلى عدو للفلسطينيين، ترامب ونتنياهو لا ينتظرون من الفلسطينيين موافقة على الصفقة والدلائل على هذا الإقصاء الدال على الهيمنة بالقوة كثيرة منها:
قرار الكنيست الإسرائيلي بتعديل المادة 2 من القانون الأساسي حول القدس وإسقاط القدس من قضايا الوضع النهائي.
وقرار حزب الليكود بفرض القانون الإسرائيلي على المستوطنات في أراضي فلسطين المحتلة، وكذلك ضم أراضي من دولة فلسطين المحتلة. ويشكل توجه ضم الضفة الغربية إلى دولة الكيان الصهيونية تصفية كاملة للقضية الفلسطينية وتنفيذا حرفيا لمشروع الشرق الأوسط الجديد.
ناهيك عن إعلان الصفقة دون اكتراث بغياب الممثل الفلسطيني.
إقرار ان القدس عاصمة لإسرائيل يعني انه يفرض على العالم شيئا وسيصبح خارج المفاوضات والجدل والتساؤل.
عملت صفقة القرن على إزاحتها عن طاولة المفاوضات، وجعل السادة الكاملة سياسيا وأمنيا لإسرائيل مع الاحتفاظ بحق العبادة للمسلمين الأمر الذي سيصب في نهاية المطاف في مصلحة الجيب الاقتصادي الإسرائيلي حيث ستفتح السياحة الدينية للفلسطينيين والعرب بابا اقتصاديا غير هين، بالنسبة له، ناهيك أهمية السيادة الكاملة عليها بالنسبة لإسرائيل.
إنها سياسة الأمر الواقع وتهميش طرف من الأطراف ومعتقداته كاملة.
إلى الآن لاحظنا أن جملة الشروط تزداد على كاهل الفلسطينيين تتجاوز البنية الخارجية السلوكية في مظهر الدولة الجديدة المتمثلة بـالأمن ونبذ السلاح، إلى التغيير في البنية السياسية حيث فصل الدين (معتقد وتشريع وتطبيق) عن القرار السياسي، مع تقبل دينية الدولة في الطرف الثاني للنزاع، والاكتفاء بممارسة العبادة في الأماكن التي يعتقدها ذات أهمية دينية كالمسجد الأقصى دون سيادة عليه أو انتماء له.
هناك تناقض رفيع المستوى في تلك الرؤى، تدل على ازدواجية المعايير، فالذي يحق للدولة الإسرائيلية هو ليس كذلك للفلسطينيين.
كيف يمكن لإسرائيل أن تكون حليفة للعرب، وأن تعيش بأمن وسلام وسط جو من حسن النوايا إن لم يصدر خطاب أمريكي يوجه التفكير الاعتقادي ويطمس الفكر التاريخي الوجودي، فيطلب من الفلسطينيين والعرب أن يتوقفوا عن التشكيك بأحقيتها بالأرض وتاريخها الوجودي، فقام بالقمع المعرفي التاريخي في صالح دعم وجود إٍسرائيل حيث ورد في الخطة:
“يجب أن تتوقف المبادرات التنقيحية التي تشكك في جذور الشعب اليهودي الأصيلة في دولة إسرائيل. هذه المبادرات لا تطغى على وجه التاريخ اليهودي والمسيحي فحسب، ولكن التاريخ الإسلامي أيضًا. يتمثل أحد الأهداف المهمة لهذه الرؤية في معاملة دولة إسرائيل من قبل الجميع كجزء شرعي من المجتمع الدولي”
تناولت الخطة موضوع القدس مرتين، مرة في ترسيم رؤية للسلام، واعتبرت القدس مدينة الأديان الثلاث وكالت المديح لما يسمى بإسرائيل لدورها في رعاية المدينة حيث جاء فيها:
” كانت دولة إسرائيل حارسًا جيدًا للقدس. أثناء إدارة إسرائيل، أبقت القدس مفتوحة وآمنة.”
” يجب أن تكون القدس مدينة توحد الناس ويجب أن تظل دائمًا مفتوحة لعابدي جميع الأديان.”
“يتمثل مقاربة هذه الرؤية في الحفاظ على وحدة القدس وجعلها في متناول الجميع والاعتراف بقداسة الجميع بطريقة تحترم الجميع .”
وصورت دولة الكيان الصهيوني بالدولة المنفتحة التي تحترم الأماكن الدينية للأديان الأخرى وعدم قيامها بتدميرها، فهذه صورة مطلوبة لدولة حداثية وديمقراطية ولها سيادة ولها وفقا لكل ذلك أن تنعم بحقها في اختيار عاصمتها، فجاء في الخطة:
” بعد حرب الأيام الستة عام 1967، عندما سيطرت دولة إسرائيل على القدس بأكملها، تحملت دولة إسرائيل مسؤولية حماية جميع الأماكن المقدسة في المدينة ” ” على عكس العديد من القوى السابقة التي حكمت القدس، ودمرت الأماكن المقدسة للأديان الأخرى، فإن دولة إسرائيل جديرة بالثناء لقيامها بحماية المواقع الدينية للجميع والحفاظ على الوضع الديني القائم” ..
وتؤكد الخطة أنه لا وجود لمبدأ تقسيم القدس فقد ورد فيها:
” نعتقد أن العودة إلى القدس المقسمة، وخاصة وجود قوات أمنية منفصلة في واحدة من أكثر المناطق حساسية على وجه الأرض، سيكون خطأً كبيراً.”
وعلى الجانب الآخر تظهر الخطة صورة العدل والمساواة بصورة خبيثة لكي تظهر المسلمين بصورة غير المتقبلين للآخر المخالف في الديانة وأنهم في حالة حرب معهم ولا يمكن التعايش معهم مثلما روج لهذه الصورة المستشرقون من قبل، وذلك عندما وضعت شرطين مقايضين، يسمحان ببقاء الوضع القائم في المسجد الأقصى وما تسميه “حائط المبكى” (أي حائط البراق، الذي كان قبل العام 1948 مكانًا للصلاة لليهود والفلسطينيين وليس لليهود حصرًا كما هو عليه الحال اليوم)، فإنها في المقابل تنص على أن “الناس من جميع الأديان لهم حق الصلاة في الحرم الشريف/ جبل الهيكل بطريقة تحترم كلية أديانهم، مع الأخذ بعين الاعتبار أوقات الصلاة لكل دين، والأعياد، وعوامل دينية أخرى”، الأمر الذي لا يمكن تخيله بالنسبة للمسلمين، وتعود بطريقة خبيثة لتلتف على الإرادة الفلسطينية منبهة إياه إلى أنه لا يملك الأماكن الدينية وإنما هي ملك للمسلمين وأنها ستسير وتنظم رحلات طيران من الدول العربية والإسلامية بهدف الوصول والصلاة في الأماكن المقدسة في القدس، فقد ورد في الخطة:” “الهدف من هذه الرؤية هو أن تتعاون الدول العربية تعاوناً كاملاً مع دولة إسرائيل لصالح جميع دول المنطقة. على سبيل المثال، يجب أن يكون هناك رحلات جوية بين الدول العربية وإسرائيل للترويج للسياحة العابرة للدول، ولتمكين العرب بشكل أفضل من زيارة الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في إسرائيل……ستشجع الولايات المتحدة بقوة الدول العربية على البدء في تطبيع علاقاتها مع دولة إسرائيل والتفاوض على اتفاقات سلام دائمة”.
وحينها إذا طبعت الدول العربية والإسلامية ونفذت هذه المخططات فإن دولة الكيان الصهيوني وراعيتها الخطة الأمريكية لن يلتفتوا إلى رد فعل الفلسطينيين، وهي الصورة الحقيقية التي يريدون أن يظهروها لهم من خلال الخطة، لا يرغبون بالتعايش الديني، يعيقون علاقات “إسرائيل” مع دول الجوار، لا يملكون من أمرهم شيئا فهم لا يستطيعون أن يمنعوا الزوار من الدول المجاورة من الصلاة في المسجد الأقصى، وأية ردة فعل ستوسم بالهمجية والفوضوية والتعصب والإرهاب، وهذا يعني أن القدس ستكون مفتوحة لكل العالم إلا للفلسطينيين المتناثرين في أماكن متفرقة جغرافيا في دولتهن الفلسطينية الجديدة، وهذا يدل على حقد دفين ومشاعر متوجسة منهم والرغبة في عزلهم، وتلك النظرة المتطرفة لهم تأتي من صورة محفورة في الأذهان عن الفلسطينيين بأنهم إرهابيون ومتطرفون صورها المستشرقون الصهاينة في محاولة لتوجيه الصورة السلبية عن الشرقيين وجهة سياسية.
لقد أطبقت هذه الخطة الخناق على الفلسطينيين، وجعلتهم أقلية في القدس بعد إبقاء القدس ضمن حدود جدار الفصل العنصري غير مقسمة وخاضعة خضوعًا تاما للسيطرة الإسرائيلية، فيما يجري إخراج مناطق من القدس سبق أن ضمتها إليها، وهي مناطق “ب” حسب تقسيمات اتفاق أوسلو 2 في العام 1995، والتي تعني خضوعهما للسلطة الوطنية الفلسطينية في الشؤون المدنية وخضوعهما لإسرائيل في ما يتعلق بالشؤون العسكرية. وليس مناطق B فقط بل a
أيضا مما يعني أن حتى العاصمة التي ستتشكل للفلسطينيين
إن طبقوا شروط دولتهم الجديدة ستكون تحت سلطة عليا إسرائيلية، وهذا يعني ترسيخ لمفهوم الاحتلال، وتسويقه على أنه طبيعي عالميا، فالدولة الفلسطينية في قلب دولة، ولن تكون دولة الكيان الصهيوني بعدها محرجة دوليا حيال ذلك، لأنها سلطة عليا بناء على تسوية واتفاق.
تسعى الخطة إلى السيطرة على القدس بعد تفريغها من الفلسطينيين، وذلك بوضعهم في ثلاثة خيارات يكون خيار التجنيس الإسرائيلي أصعبها لأنه مرهون بموافقتهم على انتمائه الوطني، وهكذا تصل إلى تهجيرهم مع الوقت، ونصت على أن قسمًا من المقدسيين “يريدون الحفاظ على هوية منفصلة عن فلسطين وإسرائيل تسمح لهم بالفخر بهويتهم المميزة وتاريخهم، وهذا الخيار يجب أن يكون متاحًا لهم” وكأن هذا خيار من المقدسيين للتخلي عن انتمائهم الفلسطيني.