المطر – وهيب وهبة/ بقلم :نايف خوري

לכידה

أصدر الكاتب والشاعر وهيب وهبة كتابا جديدا بعنوان “المطر” باللغة العربية مع ترجمة إلى اللغة العبرية. وسأتطرق في هذه المقالة إلى النص بالعربية، وهو يمتد على اثنتين وأربعين صفحة من القطع المتوسط.

إن من يطالع قصة المطر يظن لأول وهلة أنه يقرأ قصة للأطفال أو الأولاد، ولكن هذا الشعور سرعان ما يتبدد حينما يتعمق أكثر في المعاني التي ترمي إليها القصة. تماما كما أصابني حين قرأت قصة “الأمير الصغير” التي تبدو كقصة أطفال، ولكنها قصة في الأدب العالمي للكاتب الفرنسي المبدع أنطوان دي سانت أكسوبيري. وكان الكاتب اللبناني المعروف يوسف غصوب قد ترجمها إلى العربية عن الفرنسية، إضافة إلى ترجمات أخرى ظهرت فيها.

ولا بد من مقارنة بين الأمير الصغير والمطر خاصة أن الشخصيات الرئيسية متماثلة في تفكيرها، ومتشابهة في حركتها وأهدافها. فإلى أي مدى تمكن الكاتب وهيب وهبة من مخاطبة الأولاد والشبيبة والبالغين تماما كما خاطب كبار الأدباء جماهيرهم؟

عندما تطالع “المطر” تظن نفسك واقفا أمام مشهد سماوي، تحيط بك هالة من النور والبهاء والغموض، وتعتقد في قرارة نفسك أنك قرأت كتابا يتضمن قصة عادية من قصص الأطفال، وتخال ذاتك سابحا مع الكاتب وشخصياته، من إنس ونبات وحيوان وأرواح، وأنك أدركت أبعاده ومضمامينه. ولكن تشعر في ذاتك ما يدفعك إلى القراءة مرة ثانية وحتى ثالثة، دون أن تمل أو تضع الكتاب جانبا. فإنه يشدك ويجذبك معه من الغلاف إلى الغلاف، تتنفس معه وتشعر بشعوره وتكتشف في كل صفحة أنك ترى نورا آخر، ومفهوما آخر، ومعنى آخر لكل صفحة وسطر وجملة وكلمة.

إن هذا الانسياب مع القارئ في إبداعية “المطر” سرعان ما يحملك على عربته المطهمة، ويسير بك في الغابات، فوق السهوب، ويبلغ بك أعلى القمم ثم ينحدر معك ساقطا كالمطر على أرض عطشى إلى السلام وإلى الأمن والاستقرار وهدوء الكون.

ومن يجعل هذا العالَم أفضل؟ أهو العالِم والطبيب والمخترع؟ أم الإنسان الذي أتى ليستنجد بالطبيب العالِم لكي ينقذ العالّم؟ أم أن الطبيعة المتجددة هي التي تخبئ في ثناياها الحياة الجديدة؟ أم أنه صخب الطبيعة وعنف عواصفها وزوابعها وقصف رعودها ووميض بروقها؟

إنها سارة ذات الاسم على المسمى، التي تبعث السرور والفرح والابتهاج في القلوب، والتي تكتشف وجهها النازل من السماء نزول الوحي على الأنبياء. إن سارة التي تحاول إنقاذ الإنسان، كل إنسان، من الشرور والحروب والويلات والجوع والعطش والدمار، تجد أن الكوارث تحيط بالإنسان وهو لا يفعل شيئا لإنقاذ نفسه، ولا لإنقاذ دنياه ولا حتى مستقبله المتمثل بمستقبل البشرية. إلى أين نحن سائرون، أإلى الهاوية التي لا قرار لها؟ أم إلى جحيم الفناء وغياهب النسيان؟

من هو الغريب الذي هب لنجدة الكون؟ من هذا المتفاني الذي ينوي إنقاذ العالم؟ أهو رئيس جمهورية، أم ملك، أم قائد عسكري؟ لا هذا ولا ذاك ولا ذلك، بل هو أنت الإنسان أيها الإنسان. إن لم تنتبه إلى واقعك فسيحيط بك الدمار، وإن لم تنتبه إلى نفسك فمصيرك الفناء، وإن لم تسع لإصلاح ذاتك أولا، ثم المحيطين بك ثانيا، والمجاورين لك ثالثا، ورابعا وخامسا إلى ما لا نهاية، فإن العقوبات الصارمة هي المصير المحتوم. أليس هذا ما قاله الأنبياء والرسل؟ ولذا قال له تنبأ يا ابن الإنسان وقل لهذه العظام الرميم أن تلتئم ويمتد عليها العصب واللحم لتخرج شعبا جديدا يحي هذه الأرض.

سارة يا فرح الإنسان، يا قرة العين وبهجة الروح، يا أمل المستقبل وطيب المعشر، يا وفية ومخلصة حتى بذْل النفس من أجلنا نحن البشر الذين لا رجاء لهم إلا بأنفسهم. سارة التي تجوب الأكوان بحثا عن كون جديد وكيان مستديم، وجذور ستضربها في الأرض، تدعوك أيها الإنسان لترافقها في سيرورة  الحياة، وفي نعيم الجنات. سارة التي لا يستقر لها حال ولا يهدأ لها بال، تبث السعادة حيث تحط بين الكواكب والشموس. وحتى لو وجدت الرجل الطائر الذي يحملها على أكف من حرير ويوسدها الغيوم، لكنها تواجه الأعاصير، التي تسقطها مطرا على أرض الواقع. إنها التي تخاف الدنو من الشمس خشية الذوبان، فهي لا تريد هذا الذوبان والاضمحلال والتحول من مادة إلى مادة في تركيبة ديالكتيكيةש لا تنتهي، بل ترى النور في الأفق البعيد وتدنيه منها، ترى بوابة الشمس فتحمل مفتاحها، تقطف حزمة من الشعاع البرّاق لتقدمه إلى أمنا الأرض. إنها تسخّر كل ما يحيط بها من أجل رفعة الإنسان وحياته الكريمة، إنها تعتلي الغيوم، وتمسك بالنجوم، وتقبض على القلوب وتأسر الأرواح، كل هذا من أجلك أيها الإنسان.  

إن الرجل الطائر هو الروح الهائمة التي تقف بالمرصاد لضمائر البشر، إنه الضمير المتحرك الذي يدعو إلى الإخلاص والصدق ويحث إلى العمل والجهد وعدم الخمول والكسل. إنه لا يحقد ولا يكره بل هو رسول سلام ووئام، مبعوث ود وصداقة، مندوب تقارب وحسن جوار.

وهكذا أنت أيها الإنسان، أنت أيها الأمير الصغير الذي يخترق الكون ويجول بين الكواكب والنجوم لعله يعثر على صديق وفي، وعلى موطئ قدم واستقرار رغم حياة البؤس والشقاء، ورغم الموت بأسبابه التي لا تنفد ولا تحصى ولا تعد. ويتابع الأمير سعيه نحو الحيوان ليتقرب منه، ونحو النبات ليصادقه، ونحو الوردة التي أحبها بكل جوارحه، ونحو المتبجح الذي لا يستكين، والملك الذي يبحث عن رعية، وغيرها من الأبحاث عن الإنسان وعن موطنه وانتمائه.

هكذا هو الأمر ما بين الأمير الصغير وبين سارة، بين الرجل الطائر وأماكن تواجده وبين الأمير الذي تهيم روحه لتعيش حياة الخلود، سارة والأمير ينطلقان من داخل الإنسان، ويتجهان إلى روحه، وإلى حياته على هذه الأرض. الأمير وسارة على خلاف دائم وعداوة بلا لأي مع الشر ومع الفناء والزوال، وعلى حرب ضروس مع الموت واليأس والخمول. وهما على اتفاق تام للحصول على السعادة، وإحضار البهجة والفرح، وإدخال الهدوء والاستقرار النفسي، والتطلع نحو النمو والازدهار، وبالتالي تحقيق الهدف المنشود وهو الإنسان.      

تيقظ أيها الإنسان، استيقظ من سباتك المغمور بالإثم والخطيئة والفساد، تجاوز حدود الزمن وانطلق مع أشعة الشمس لكي يشرق يومك بالخير العميم. هيا لنقطف ثمار المحبة، هيا لنسافر ونجوب الأرض طولا وعرضا بحثا عن كل ما يعيننا على العثور على سبل الحياة الشريفة. رافق سارة في تجوالها، اتبع الأمير الصغير في العثور على السعادة، تمسك بمبادئ سارة المغبوطة، اهتد مع الأمير إلى المحبة التي يبحث عنها الإنسان فلا يجدها إلا نادرا، خذ بيد سارة لتوقظ فيك النشاط والأمل والمستقبل.

يجب ألا تظل قضايا سارة حبرا على ورق، وألا تسير بمفردها في طرقات هذه الحياة ودروبها، وألا تقف وحيدة في تظاهرة الحقوق، وألا ترفع هي فقط اللافتات والخرائط التي تدل الإنسان إلى السعادة. فادخل قلبك، وأنعم النظر في روحك، خاطب نفسك بصدق فتجد أنها ترد وتلبي الطلب، استنهض الهمم واستقدم الخير، فلا بد قادم على أجنحة السعادة والفرح السرور والابتهاج.           

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .