الزواج المختلط… يحق لرجال السياسة ما لا يحق لغيرهم  

هيفاء زعيتر

في قرية نائية في لبنان، كان النقاش محتدماً بين فتاة عشرينية وجدتها الطاعنة في السنّ. مناسبة المحادثة كانت رغبة الفتاة بالزواج من رجل من طائفة أخرى. اتخذ النقاش منحىً تراجيدياً لألف سبب وسبب تحفظه ذاكرة الجدة منذ الحرب الأهلية (الطائفية) التي امتدت لـ١٥ عاماً في لبنان، وصولاً إلى “الفضيحة” التي ستلحق باسم العائلة “المرتدة عن الدين”. استعانت الفتاة بمثال جارهما صاحب الأملاك المتزوّج من “غير دينه” وما زال يحظى باحترام الجميع حتى رجال الدين، فعاجلتها الجدة بمقولة “زنى الفقراء فضيحة، وزنى الأغنياء لا يعلم به أحد”.

المثل وإن كان غير دقيق بالمعنى الحرفي، ويأخذنا لموضوع آخر في شأن تعريف الزنى ومقاربته اجتماعياً وقانونياً، فهو يختصر بنسبة كبيرة المنظور الاجتماعي السائد. يحقّ للثري ما لا يحقّ لغيره، بحيث لا تنطبق عليه منظومة القيم الاجتماعية التي تتحكم بأدقّ التفاصيل الشخصية للأفراد منذ لحظة ولادتهم وصولاً إلى مراسم دفنهم. يمكن للثري أن يتزوج فتاة تصغره بعشرين عاماً، كما يمكنه أن يختار الفتاة التي تعجبه بغض النظر عن طائفتها وجنسيتها ولونها. قلوب الفقراء وعقولهم ويومياتهم ملك الفضاء العام المطلق، يهندسها كما يشتهي، المهم ألا يتعكر مزاجه وتتهدد منظومة “أخلاقياته”.

الساسة معصومون من الخطأ!

إذا كان الأثرياء خارج هذه المعادلة، فكيف بالسياسيين أصحاب النفوذ والمهابة؟ هؤلاء لا تشملهم النقمة الاجتماعية إذا ما قرروا الزواج خارج الطائفة، لا سيما في بلد ما زالت الطائفية فيه عنصراً محركاً لجميع الأحوال الشخصية، مهما ادعى أهله انفتاحاً و”عيشاً مشتركاً”. القرار بالزواج المختلط يواجه عراقيل كثيرة، من تلك الاجتماعية والنفسية التي يواجهها صاحب القرار في عائلته ومجتمعه المصغر، إلى العراقيل في الدوائر الرسمية.

منذ بضعة أيام، تتداول المواقع الإخبارية نبأ تحضير رئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميّل للزواج من “الفتاة المسلمة السنيّة” كارين تدمري. نشير هنا إلى أن استخدام هذه التوصيفات هو لنقل الخطاب العام السائد لبنانياً، فالزواج خيار شخصي لا ينبغي للطائفة أن تعرقله. لكن بالعودة إلى توصيف الحال، فالنقاش الذي أثاره خيار شخصي اتخذه الجميّل، ينبع من كونه آتياً من عائلة مسيحية عريقة، وهو رئيس الحزب الذي لم يكن على وفاق مع المسلمين في العديد من محطات الصراع التي شهدها لبنان. ما زال الخبر خارج التأكيد الرسمي النهائي، لكنه أعاد التذكير بالعديد من حالات الزواج المختلط لدى الطبقة السياسية.

مع حصول حادثة بيصور الشهيرة في العام 2013، ومع انتقام عائلة فتاة درزية من زوجها المسلم بعد هربها معه بأبشع الطرق، عاد الكلام عن الزواج المختلط في عائلة الزعيم الدرزي الأبرز وليد جنبلاط.

يعرف الدروز في لبنان بشبه استحالة تقبل شريحة كبيرة منهم للزواج من خارج الطائفة، تحت طائلة النبذ أو الملاحقة. لكن ما يطبقه المجتمع ورجال الدين على عامة الشعب، لا يطال الزعيم الدرزي. بعد زواج الأول من سيدة شركسية، تزوج وليد جنبلاط من نورا الشرباتي، ابنة وزير الدفاع السوري الأسبق أحمد الشرباتي. لم يغيّر ذلك في زعامة “البيك” الذي تبيّن تفاصيل حياته الشخصية سطوته على تلك البيئة التي ترفض “الغلط”. لاحقاً، حذا نجله تيمور الذي تسلم الزعامة، حذو أبيه، واختار لنفسه زوجة مسلمة. مرة أخرى بدا المجتمع متقبلاً، بل مبرراً في بعض الأوقات، لزواج يعده محرماً في الحالات الطبيعية.

7

تتعدّد الأمثلة في النادي السياسي، حيث تحضر النائبة في البرلمان اللبناني نايلة التويني، ابنة الصحافي الراحل جبران التويني. قررت الفتاة الآتية من بيت مسيحي ومن عائلة مرموقة، وبعد أحداث اتسمت بالتوتر الطائفي – السياسي واغتيال والدها، الزواج من شاب مسلم من عالم الإعلام هو مالك مكتبي. لم تُنبذ التويني أو تواجه العراقيل التي قد تواجهها فتاة عادية عاشت هذا الجو الطائفي المشحون.

في زواج أسطوري، لقي انتقادات كثيرة لارتفاع تكلفته، تزوج نجل الوزير غازي العريضي الدرزي بفتاة مسيحية في أجواء احتفالية وحضور سياسي بارز. هو كذلك لم يُتهم بالردة على جاري العادة. عائلة النائب مروان حمادة أيضاً فيها الكثير من الزيجات المختلطة، المقبولة اجتماعياً.

إلى جانب الزواج المختلط بين الطوائف، يأتي اختلاط المذاهب، الذي يعد بدوره غير مقبول في الكثير من البيئات، لا سيما مع احتدام الصراع المذهبي بين السنة والشيعة. في لبنان، تسجل الكثير من حالات الزواج المختلط مذهبياً لدى الطبقة السياسية. رئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي، حضر منذ مدة زواج نجله على فتاة شيعية في المغرب، وسط أجواء احتفالية مترفة.

هنا القائمة تطول بين سياسيين راحلين وسابقين وحاليين. وبين قوسين، يُفتح في هذا السياق النقاش بشأن الزواج المدني لدى الطبقة السياسية، والذي ترفضه هذه الطبقة في العلن لاعتبارات متعلقة بالارتباط بالمؤسسة الدينية والاقتصادية.

أوجه الازدواجية كثيرة في عالم السياسة اللبناني، ويعتبر موضوع الزواج المختلط أحد أوجهها. قد يُحسب للسياسيين هذا الانفتاح على الآخر، شرط أن يطبقوه على الجمهور العام عبر خطاب لاطائفي لا يغذي الكراهية بشكل مباشر أو غير مباشر، وعبر تحرير علاقتهم مع رجال الدين من الأساليب الملتوية المعتادة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .