بقلم مروى فتحي منصور
الأسطورة عند فراس السواح هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق يشف عن معان ذات صلة بالكون والوجود وحياة الناس.
وتعد الأسطورة من مظاهر الشعرية في القصيدة العربية المعاصرة، إذ إنها تشكل نظاما خاصا داخل بنية الخطاب الشعري العربي المعاصر، يتجلى في استحضار الماضي وعناصره التراثية التي تضفي نوعا من الخصوبة والثراء على الرؤية الشعرية، فالمزج بين العناصر الأسطورية والواقع ما هو إلا محاولة لتعميق الوعي بالواقع وظواهره الاجتماعية والسياسية والفكرية.[1]
حيث يرى الدكتور عز الدين إسماعيل أن لجوء الشاعر المعاصر إلى الرمز والأسطورة دليل على عمق نظرة في فهم طبيعة الشعر والتعبير الشعري، والرمز ليس أكثر من وجه مقنع من وجوه التعبير الصوري.
لم يكن توظيف الشاعر الفلسطيني سميح القاسم للأسطورة تجميليا أو استعراضيا لثقافة أو حتى توظيفا مباشرا للأسطورة برمزيتها المعروفة، حيث باتت عند كثيرين من الشعراء المحدثين توظيفا للتراث، أو عنصرا رمزيا يضفي دلالات معينة متعارف عليها، الأمر عند الشعراء الفلسطينيين يتعدى ذلك إلى روح القصيدة نفسها، حيث يتقمصها الشاعر كليا ويعيد تشكيل أنسجتها غازلا منها وقائع جديدة ورؤية جديدة ورمزيات يضع هو أسسها ولا يتوارثها عن غيره من الشعراء، هذا ديدن الشاعر الفلسطيني في الاستفادة من التراث بشكل عام ومن الأسطورة بشكل خاص في قصائده، فإلى أي درجة كان الشاعر سميح القاسم متقنا لغزله الذي أتى بأمشاجه الخام من الأسطورة، وهل فعلا استطاع تقديم رؤيته الخاصة في قراءة الواقع من خلال ذلك النص المتكامل في أصله ووقعه وتأثيره؟ هذا ما سيتضح بعد استعراض نماذج من شعره في ثنايا هذا التقرير.
1) أسطورة العنقاء
تقول أسطورة طائر العنقاء؛ بأن طائر العنقاء عندما ينهي عمره ويموت يحرق نفسه بنفسه “ذاتيا” ويقوم الحريق بتحويل طائر العنقاء إلى رماد، ومن هذا الرماد يخرج طائر جديد، وأن الحريق أو النار هو السبب الذي من خلاله يجدد حياة طائر العنقاء، والنار هي سبب في ظهور طائر عنقاء من جديد[2]
يقول الشاعر:[3]
السنونوة احترقت
هكذا احترقت
واستوت في الرماد الموازين:
نار وريح
ونار وماء
وماء وريح
أيها الوافدون من الخشب احترقوا
في صليب المسيح
السنونوة احترق
في صليب المسيح
والرماد القليل انتعاف قليل
بين مهد الوليد ولحد القتيل
قلت هذا الجناح الربيع
أيها الناس قلت اسمعوا جثتي
قلت
ما من سميع
صيحتي
في البراري تضيع
والسنونوة احترقت
نار فينيق أغنية ساحرة
قلت، ما انطلقت
السنونوة احترقت
من هنا تبدأ الآخرة
قلت هذا الجناح الربيع
أيها الناس قلت اسمعوا جثتي
قلت
ما من سميع صيحتي
والسنونوة احترقت
في البراري تضيع
آه واحترقت
حفنة من رماد
أوغلت في الرقاد
آه وانتثرت
آخ واندثرت
الشاعر يستمد من الأسطورة حبكاتها، أو بعض أحداثها، أو يستعير شخصياتها ويهبها أدوارا جديدة قد تكون مختلفة تماما عن دورها الأصلي في الأسطورة، ذلك الشاعر الذي يقوم بنقض غزل الأسطورة ونسجها من جديد لهو شاعر يتعالق ويتناص مع النص القديم-الأسطورة-والشاعر الذي يكتفي بالتقنع وراء الأسطورة بجميع تفاصيلها وترتيبها هو شاعر يتناص أيضا معها ولكنه تناص مباشر غير مؤثر أو غير عميق بسبب تكرار التجربة ورتابتها عنده وعند غيره من الشعراء، لأنه لا يثير في داخل المتلقي تلك الأسئلة الوجودية الإشكالية التي طرحها الإنسان البدائي إلى اليوم في صراعه مع مكونات الحياة في مقابل الموت، وفي صراع القوة على الأرض، كل ما سيفعله سيذكر القارئ بظلال تلك الأسطورة الدلالية التي غالبا ما يكون اختبرها معها مواجهة بدون حواجز أو مع نص آخر يوظفها، والحق أن هذا هو تأثير الرمزية في النص، ولأن الأسطورة بطبيعتها نص استل منه الشعر أساسا وحافظت على حدودها العامة في التنقل من جيل إلى جيل لا يمكن لذكر أكثر من ملمح فيها إلا أن يكون تناصا من نصها، أما ذكر اسم الأسطورة فقط هو رمز لا غير، في القصيدة السابقة لا يأتي سميح القاسم على ذكر اسم أسطورة العنقاء، لكنه يترك في بنيته اللفظية كل عناصر مكوناتها فأحالنا إليها، حيث ورد: احترقت، الرماد، نار، ريح، نار فينيق، من هنا تبدأ الآخرة، حفنة من الرماد..
وجميع هذه الألفاظ والتراكيب في البنية اللغوية التصويرية في القصيدة استمدت انعكاساتها وأخيلتها من روح الحبكة في أسطورة العنقاء-الطائر الذي يحترق ويصبح رمادا ثم يعود ويخلق نفسه من جديد-فهذه الأسطورة هي دراما كاملة الأحداث ومفصلية الحبكات وواضحة النهايات، لكن الشاعر ينأ عن سردها بشكل مسطح؛ لأنه يقف أمامها مستفزا من منطقها الذي يتجاهل واقعه الأليم، يقف الشاعر منها موقف المستنكر لبعدها الخارق، صارخا بكل إنسانيته: آه واندثرت.. آخ واندثرت..
فهو يؤكد متوجعا ب “آه”، ويردفها بتوجع آخر.. “آخ”، الشاعر هنا يفرض واقعه مقارنا بدلالات الأسطورة، فهو هناك كطائر السنونو، و “هو طائر ينتمي إلى رتبة العصفوريات، بأحجامها الصغيرة وأجنحتها الضيقة المدببة وأقدامها الصغيرة الضعيفة، ويقضي السنونو معظم الوقت بالتحليق في الهواء“[4]، وليس كطائر العنقاء الخرافي الخارق الذي يستطيع خلق نفسه من الرماد، فالسنونو هي ذات الشاعر، ممثلا شعبه، يواجه تلك الظروف، يحترق، يصرخ ولا يسمعه أحد، يصبح حفنة من الرماد، ويندثر.. نهاية مفجعة وصادمة، لكنها فعلا وبكل أسى اندثرت، لم؟ لأن الشعب الفلسطيني اندثرت قضيته من الأجندة العربية بعد النكسة، ولم يخلق من ظلام الهزيمة شمسا تكوي ظلام العابرين..
وهكذا هو سميح القاسم، حيد الشخصية الرئيسة-العنقاء-وأثبت رموزه الخاصة التي تمثله، عاش تجربة العنقاء، ممتصا روحها وحبكتها، لكنه لا تأخذه زهوة النهايات السعيدة فيها، فيرتد مع قارئه إلى الواقع، وبكل إنسانية، يقول له أنت اندثرت.. فما أنت فاعل؟
لم يكن استخداما رمزيا عابرا، بل كان تجربة بكل أبعادها الرمزية لصنع التجربة الخاصة، والخاصة جدا.. في صورة واقعية من قلب الخيال الأسطوري، مما أضفى بعدا جماليا شيقا وفلسفيا عميقا للواقع من خلال الأسطورة، فلا يظهر الشيء إلا ضده.
سميح القاسم هنا يرتقي بالعلاقة الفلسطينية العربية في مواجهة العدو الصهيوني من التجربة المريرة التي تجرعها القوميون في تلك الفترة إلى تجربة إنسانية خالدة، ستكون قصيدته شاهدة عليها وفيما بعد ستكون هي الأسطورة التي تستل الرموز منها، في متوالية هندسية نصية تثبت أن التناص تشكيل نص جديد من نصوص سابقة أو معاصرة، وهذه النصوص ليست المرادة بحد ذاتها بل دلالاتها هي ما يهم الشاعر، وكأنها عملية تناسل وتكاثر، لكن لا يمكن أن تكون نسخة طبق الأصل عن النص السابق، وإن أجاد الشاعر خلق رموزه الخاصة وتجربته الإنسانية التي تخدم رؤيته فنصه لا يقل أهمية عن النص المتناص معه ومؤهل لإنتاج العديد من الرموز والتناصات.. وسميح القاسم في هذه القصيدة قد خلق العديد من الانزياحات عن الأسطورة الأصلية، مكتفيا بتقمص روحها، منتجا هذا النص الجديد، ولم يكتف بذلك بل وظف أيضا التناص الديني-إن صح التعبير-مع قصة النبي عيسى لإضفاء جو الظلم الذي لحق بالفلسطينيين من المهد إلى اللحد، مشيرا بإيحاء ومضي بأن هذا الذي يلاقيه الشعب الفلسطيني من إخوانه العرب من التخلي والخذلان هو قدرهم منذ الوجود حتى من أيام النبي عيسى الذي ولد فيها، وذلك التخلي عنهم وعن قضيتهم ليس عارضا بل هو قدر ثابت مثلما للعنقاء قدرها الثابت بأن تنبعث روحا وهيكلا من الرماد.
وفي قصيدة “عمامة للملوك، طربوش للآغا وقداس لبيروت” يوظف الشاعر أسطورة العنقاء أيضا، لكن بطريقة مختلفة عما سبق، فهو يحفظ للأسطورة جوهرها، فالحرب الأهلية في لبنان بحاجة من الشاعر كل طاقة إيجابية، لأن آخر فصولها يكتب من الإرادة الشعبية وليس كالقضية الفلسطينية التي استلم البت في شأنها الأنظمة الحاكمة، فمثل ما تجدد العنقاء ذاتها وتبعث روحها في رمادها ستفعل لبنان وترمم خرابها ويلتئم شملها، فيقول:
بيروت فانتفضي
وقومي من رمادك يا ابنة العنقاء
يا شرف الأوائل
بيروت
يا عار الطوائف والحمائل
والعشائر والقبائل
بيروت
يا حلما وحيدا
حوله مليون قاتل
وهذا النوع من التناص الأسطوري هو التناص المباشر، الذي يحتفظ بالبعد الرمزي للأسطورة وكان هنا التجدد والبعث بعد العدم، والعمران بعد الخراب، ويوحي بالقوة والأمل والتفاؤل، وكذلك يحتفظ هذا النوع بطبقات الحدث الجوهري في الأسطورة.
وعلى صعيد آخر يوظف الشاعر هذه الأسطورة في قصيدة “انتباهات” لمؤازرة الشعب الفلسطيني المقاوم في أرضه والمشرد منها باثا فيه بذور الأمل في العودة وصنع واقع جديد خال من الاحتلال، مثل طائر العنقاء الذي يخلق نفسه من الرماد بعد أن يصل إلى أعلى مراحل الاحتراق، فيقول:
طائري الأخضر
طائري الأخضر
فليكن ملكوتي مدى الانتباهات
وليسترح جسدي
عاريا، بين قبرين من كلس ذاكرتي ورخام العقيدة
أنذا ذاهب لرضاعي الجديد وأمي الجديدة
آه فلتثمر السدرة الخالدة
والطائر الأخضر حكاية من التراث الفلسطيني يوظفها الشاعر كمعادل لأسطورة العنقاء وترمز إلى البعث بعد الموت، بالإضافة إلى ظلال أخرى تتعلق بالظلم والانتقام من الظالم القاتل.[5]
2) أسطورة سدوم:
سميح القاسم وظف أسطورة سدوم في قصيدته “القصيدة الناقصة”، سدوم هي المدينة التي سكنها قوم لوط، وهي مدينة تقع في البحر الميت، ويقال إن الآلهة أحرقتها بالنار والكبريت بسبب معاصيهم، ونجا من هذا العذاب لوط وابنتاه، حيث قال سميح القاسم:
وكان ذات يوم
أشأم ما يمكن أن يكون ذات يوم
شرذمة من الضلال
تسربت تحت خباء ليل
إلى عشاش…دوحها في ملتقى الدروب
أبوابها مشرعة
لكل طارق غريب
وسورها أزاهر وظل
وفي جنان طالما مر بها إله
تفجرت على السلام زوبعة
هدت عشاش سربنا الوديع
وهشمت حديقة.. ما جددت سدوم
ولا أعادت عار روما الأسود القديم
ولم تدنس روعة الحياة
كانت كلمة سدوم لافتة في النص وأحالت المتلقي مباشرة إلى الأسطورة الآنفة الذكر، أو على الأقل للقرية المعروفة “سديم”، وتأتي مقاربة الشاعر لهذه الأسطورة مع واقعه، فكما صب العذاب على قرية سدوم في يوم مشؤوم، بنفس الطريقة المشؤومة وإيقاعها تسربت شرذمة الضلال إلى فلسطين واحتلتها وأبادت وجودهم السكاني فيها باحتلالها وتهجير سكانها على النحو الآتي:
سديم = فلسطين
لعنة الآلهة المهلكة=الاحتلال الصهيوني
على الرغم أن سديم فيها المخالفات الشرعية والموبقات وفلسطين بريئة من كل آفة، حيث وصفها بعشاش الطير وأن لعنة الآلهة حسب الأسطورة غرضها شريف؛ فهي تريد أن تطهر البشرية من نسل أبناء المدينة العاصية، والاحتلال الصهيوني ليس في احتلالهم أي غرض شريف إنما تماهي في العدوانية البشرية السالبة لأمن وقوت شعب آخر دون أي غرض نبيل سوى السطو والسرقة والوحشية والهمجية، إلا أن سميح القاسم يصنع هذه المقاربة من مادة خام وهي الأسطورة ويعيد تشكيل تفاصيلها بما يخدم رؤيته.
ومدينة الشاعر الآمنة التي وصفها بعشاش الطير، وهي رمز للبراءة والطفولة، وقد كانت مطمئنة تفتح أبوابها لكل طارق، تحف طرقاتها طاقات الأزاهر.
كل ما أراده الشاعر من هذه المقاربة هو استحضار جو الخراب والدمار والهلاك الذي حل بمدينة سدوم وإٍسقاطها على مدينة الشاعر المدينة الفلسطينية التي داهمها العذاب في يوم مشؤوم مباغت.
ولأن العالم يعرف سدوم ويستطيع تخيل الدمار الذي حل بها يمكنه بالتالي تخيل ما حل بمدينة الشاعر.
ووسط هذا الجو الدرامي العنيف يصور أبناء شعبه مسالما وادعا بريئا يمارس الحرية كسرب من الطيور، وهم يعيشون في هناءة العيش ويفتحون أبوابهم لكل طارق باب، وهي صورة معني القاسم في إيصالها للعالم الذي يتهم الفلسطينيين بالإرهاب، من جهة، ومن جهة أخرى يوصدون أبوابهم في وجوههم بعد هجروا من مدنهم وأغلق العرب أبوابهم في وجوههم وهم لاجئون ولو معنويا..
لقد استطاع الشاعر أن يرسم صورة للشعب الفلسطيني مستفيدا من المفارقة، وأمكننا فيما بعد من تخيل الظلم الذي وقع عليهم.
وبعلائق المفارقة المتشعبة يتسرب بعض خصائص الشعب السديمي الذي استحق لعنة الآلهة، وهي التدنيس، إلى المدن الفلسطينية التي دنسها الكيان الصهيوني، والدليل على هذه العلاقة التدنيسية بين موبقات سدوم وبين الاحتلال ما جاء تاليا من أسطر شعرية تشير إلى أعمال الاحتلال الصهيوني الوحشية، حيث يقول:
هشمت حديقة… ما جددت سدوم
لكنني أسمع في قرارة الحروف
بقية النغم
أسمع يا أحبتي.. بقية النغم
ولكن سلسة المفارقات في هذه المقاربة بين الأسطورة والواقع الفلسطيني، تأتي المفاجأة والمفارقة الأكبر كالانفجار بوجه العالم، وهو أن مصير الشعب الفلسطيني لن يكون مثل مصير الشعب السديمي، لأن الشاعر يسمع بقية النغم، دلالة على الأمل.
3) أسطورة أديب:
وظف الشاعر أسطورة أوديب في قصيدة أنتيجونا، وأنتيجونا هي إحدى بنات أوديب، هو ملك طيبة في الميثولوجيا الإغريقية، حقق النبوءة التي قالت إنه سوف يقتل أباه ويتزوج أمه، وبالتالي يجلب الكارثة لمدينته وعائلته، لكنه عندما يتزوج أمه بلعنة من الآلهة على أبيه ينجب منها ابنتين، إحداهما تدعى أنتيجونا، هذه الابنة كانت وفية وحنونة على والدها، وأنتيجونا هي بطلة المسرحي الإغريقي سوفرخليس، التي تمثل رمز الوفاء للأب، والتضحية في سبيله، ظلت تقود خطوات أبيها الأعمى، الملك أوديب، إلى أن حكم عليها بالإعدام. يقول سميح القاسم:[6]
أنتيــجونا
ابنة أوديب_ الملك المنكوب_التي رافقته في رحلة العذاب..
حتّى النهاية !
خطـوه..
ثِنْتـان..
ثلاث..
أقدِمْ.. أقدِمْ !
يا قربانَ الآلهة العمياء
يا كبشَ فداء
في مذبحِ شهواتِ العصرِ المظلم
خطـوه..
ثِنْتـان..
ثلاث..
زندي في زندك
نجتاز الدرب الملتاث !
***
يا أبتاه
ما زالت في وجهك عينان
في أرضك ما زالت قدمان
فاضرب عبر الليلِ بِأشأمِ كارثةِ في تاريخ الإنسان
عبرَ الليل.. لنخلق فجر حياه
***
يا أبتاه !
إن تُسْمِـلْ عينيك زبانيةُ الأحزان
فأنا ملءُ يديك
مِسرَجَةٌ تشربُ من زيت الإيمان
و غداً يا أبتاه أُعيد إليك
قَسَماً يا أبتاه أُعيد إليك
ما سلبتك خطايا القرصان
قسماً يا أبتاه
باسم الله.. و باسم الإنسان
***
خطـوه..
ثِنْتـان..
ثلاث..
أقدِمْ.. أقدِمْ !
يكفي العنوان أنتيجونا لكي يحيلنا إلى أسطورة أوديب، فهي ابنته، وجاءت القصيدة على لسانها، وهي ترسم الدرب لأوديب العصر.
وكما كانت أنتيجونا عيني والدها اللتين يبصر بهما، كان الشاعر العصا التي يتوكأ عليها شعبه الفلسطيني والعربي، فهي تمثل ذاته، الواعية المبصرة بمصير هذه الأمة، وهي المتمردة الثائرة، الوفية لوطنها، المدافعة عنه من الاحتلال الغاشم، ومن المخاطر التي تحيط به، ويقسم الشاعر أن هذا الاحتلال الذي سلب الشعب الفلسطيني هنأة البصر وقاده إلى الطريق الحائر، سيندثر وسيعيد إليه الشاعر بصره كما كانت أنتيجونا عين والدها المبصرة.
فالإبصار الذي يتحقق لأوديب من خلال أنتيجونا إدارتها وحرصها وانتمائها لأبيها، هو رؤية الشاعر وبصيرته التي ستجلب الحرية للشعب الفلسطيني.
وبهذا تمتزج ذات الشاعر الثائرة مع ذات أنتيجونا المكافحة في ولائها لأبيها، وكما وصلت إلى غايتها في العبور بوالدها من صحراء التيه، سيعبر الشاعر بوطنه إلى بر الأمان، وينجو به من ذاك العدو المجرم، وبين الأسطورة والواقع المعاش مقاربة، فكما دفع أوديب ثمن جريرة لم يرتكبها، فكذلك فلسطين وطن الشاعر دفع ثمن جريرة لم يرتكبها بل ارتكبها المتآمرون والمتخاذلون.
وعليه يكون أوديب = الوطن فلسطين
أنتيجونا = ذات الشاعر
4) أسطورة تموز وعشتار:
تموز إله النباتات والماشية والمأكولات، وكان يسمى أيضا الراعي ومن رموزه الثور.
أما عشتار، التي كانت أكثر أهمية من تموز، فهي ملكة السماء كانت آلهة الحب والجنس والإخصاب والحرب، وقد وظفها الشاعر في قصيدة “عمامة للملوك طربوش للأغا وقداس لبيروت” فيقول:
لا خبز غير وداعة الأموات
لشقائق النعمان أن ترتاح
في أفياء أرز الله
للدوري أن يأوي لعش
آمن من شهوة الأفعى
وأن يشتاق قرميد الليالي المقمرة
ولقلب عشتروت وأن ترتاح
من ضوضاء طائرة تدمر وردة
وقذيفة تلقي غبار الطلع
فوق مجنزرة
الأسطورة تقول أن شقائق النعمان نبت نتيجة موت أدونيس حبيب عشتار، حيث تحول دمه إلى زهرة جميلة، فصارت الوردة الحمراء رمز الحزن على أدونيس، وفي القصيدة يرى الشاعر أن شقائق النعمان تكتفي بالراحة تحت أرز لبنان، وشقائق النعمان رمز لعشتار وتموز اللذين صنع لهما الشاعر مصير الموت والراحة في ظل أرز لبنان، وسيكونان كالسماد الذي يعيد إلى ذلك الأرز حيويته وخصوبته ودورته الطبيعية، فيصبح هو ذاته كشقائق النعمان التي انبثقت من شراب الآلهة ممزوجا بدم أدونيس، وهو ممزوج بروح عشتار وتموز وسيأخذ دورهما في صنع واقع جديد.
كذلك يذهب القاسم إلى جعل بيروت هي عشتار في رمزية الجمال والحب والخصوبة فيقول:
لحبيبتي بيروت قداس
ونذر للشهادة والسلام
ووردة حمراء من وجعي
على وجع الجديلة
فالوردة الحمراء هي شقائق النعمان التي تعني حب عشتار الأبدي لأدونيس وحزنها الأزلي عليه..
إذا الوردة الحمراء لبيروت وهي عشتار المحبة، وبيروت هي عشتروت القوية المحاربة الصامدة، ويكون الشاعر قد وظف الأسطورة بوجهيها المتناقضين الحب والحرب، حيث يقول:
عشتاروت
يا بيروت
يا بنتا مدللة
تصيح بحزنها الدموي
أرملة تصيح
أنا. أنا جمل المحامل
وأنا أنا جمل المحامل
وهذا التوظيف الأسطوري المباشر لعشتار لا شك أنه يوسع دائرة الرمزية في النص ويضفي أبعادا درامية مؤثرة فيه، ولا ينفك الشعراء يهرعون إلى هذه الأسطورة كملاذ لبث الأمل في النفوس اليائسة من ضنك العيش في ظل الاحتلال، فمن الجفاف هناك ولادة طبيعية في دورة الحياة فيقول:
بالمسك بماء الورد وسر النار
يرقم هذي الآخذة كاهن عشتار:
من كل جهات الأرض تهب رياح الشهوة
لتسوق لقاح الولد المسكون الممسوس
إلى أشجار البنت يبوس
يأتيها الغيب لأن يديه الكسوة
وإليه الخطوة
ولديه الحظوة
ويكون الولد عريسا
وتكون البنت عروس
هذا حكم إله الحب
وهذا نجم البنت يبوس
5) أسطورة عروس النيل
وهي أسطورة مصرية قديمة تقول إن المصريين يقدمون قربانا للنهر كي لا يحدث الطوفان، ويتمثل هذا القربان في اختيار أجمل فتاة في القرية، فيزينوها ثم يرمونها طعاما للطحالب والأسماك، وقد وظف سميح القاسم هذه الأسطورة في قصيدة “عروس النيل” حيث يقول:[7]
سمعُهُ.. أسمعُهُ
عبرَ فيافي القحط، في مجاهلِ الأدغال
يهدرُ، يَدْوي، يستشيط
فاستيقظوا يا أيها النيام
ولْنبتنِ السدود قبل دهمة الزلزال
تنبهوا.. بهذه الجدران
تنزل فينا من جديد نكبة الطوفان
لمن تُزَيّنونَها.. حبيبتي العذراء
لمن تبرّجونها ؟
أحلى صبايا قريتي.. حبيبتي العذراء
حسناؤنا.. لمن تُزَفّ ؟
يا ويلكم، حبيبتي لمن تُزَفّ
لِلطّمْيِ، للطحلب، للأسماك، للصّدف؟
نقتلها، نُحْرَمُها، وبعد عام
تنزل فينا من جديدٍ نكبةُ الطوفان
ويومها لن يشفع القربان
يا ويلكم، أحلى صبايا قريتي قربان
ونحن نستطيع أن نبتنيَ السدود
من قبل أن يداهمنا الطوفان
بَدارِ.. باسم الله والإنسان
فانني أسمعُهُ.. أسمعُهُ
و لي أنا.. حبيبتي العذراء
دل على هذا التوظيف للأسطورة العنوان الذي وسم بها، فقد جعل الشاعر حبيبته هي إحدى الفتيات اللاتي يلقين في النيل، كقربان لكيلا يثور الطوفان، ويظهر الشاعر مستنكرا لهذا الفعل، مشفقا على هذه الحبيبة التي صارت طعاما للطحالب والأسماك.
ويسري على حبيبته ما يسري على عروس النيل من تزيين وتجميل قبل قذفها في النيل.
ويتساءل الشاعر بعد إتمام الطقوس كافة، ماذا سيحل بالطوفان؟ هل سيخمد أم سيثور؟
بالطبع سيفيض الطوفان ولن تجدي معه القرابين، يقول:
نقتلها، نحرمها، ثم بعد عام
تنزل فينا لعنة الطوفان
وفي هذا محاربة من الشاعر للأسطورة وسطوتها والتفاته لعبثيتها، في خطوة منه لتسليط الضوء على ضحايا المعتقدات والتقاليد، وذلك ينبئ عن عقيدة راسخة لدى سميح القاسم وهي رفض الترويج للموت المقدس الذي يلقي بأبناء الشعب إلى حاضنة الموت دون تخطيط أو تهيئة، في الوقت الذي يكون رؤوس هذه المنظمات القتالية التي تقود المقاتلين الشعبيين في برج عاجي لا تقدم نفسها أو ذويها قرابينا للوطن، وكان الطوفان هنا رمزا للاحتلال وعدوانه، والقربان –عروس النيل- مضادا استباقيا لإرهابها واكتفاء عدوانها، لكن الذي يحصل بشكل دوري كل عام هو فورة الطوفان وغضبه وهياجه.. وتبقى عروس النيل طعاما للأسماك والطحالب.
والشاعر هنا لا يقف أمام هذا الطوفان موقفا سلبيا، ولا انهزاميا، هو فقط يريد أن يضع هذين الرمزين بمقابل بعضيهما على النحو الآتي:
فلسطين/العدو الصهيوني= عروس النيل/ الطوفان
والنتيجة هو أن هذا القربان لا يأتي بنتيجة، فليبحث العرب عن بديل كبناء السدود ردءا للطوفان بدل التضحية بعروس النيل دون فائدة، والسدود هنا ترمز للجيوش العربية التي من المفترض أن تكون على خطوط المواجهة مع العدو بشكل منظم ومخطط له.
لاحظ هنا توظيف الأسطورة لم يكن ترفا، ولا زينة ولا قناعا زائفا، إنما كان رسالة بليغة الرمزية لقضية طالما أرقت المثقف الفلسطيني، وهي عبثية المقاومة لعدم تكافئها مع قوة الاحتلال، والبحث عن الحلول العسكرية الناجعة.
6) أسطورة يوليس
في قصيدة “البحث عن الجنة” يوظف سميح القاسم أسطورة يوليس، ويوليس قائد طراودي اجتاز رحلة عبر البحار فيها الكثير من العقبات وتغلب عليها، دامت رحلته عشرين عاما، إلى أن أسرته الآلهة” كاليبسو” في جزيرة مدة سبع سنوات، وأثناء غيابه تنافس أمراء جزيرة إتاكا على الحظوة بزوجته للارتباط بها، وكانت ترفض معللة ذلك بأنها تخيط كفن والد ابنها، وفي النهار تتظاهر بأنها تغزله وفي الليل تنقض غزلها، وبعد استنفاد حيل المماطلة كلها تضع شرطا للزواج، وهو أن تكون زوجة لمن يصيب الهدف بقوس يوليس، الذي كان قد أطلق سراحه، وأصاب هو نفسه بقوسه الهدف الذي وضعته زوجته. يقول:
عبثا تحاول أن تنام
قدر عليك السهد والفزع المدمر والظلام
فاهجر فراشك
ألف صل في فراشك مستثار
ووسادك المحموم أشواك ونار
سرب من الغربان في أعماقك الشوهاء حام
والليل حولك والعواصف والثلوج فلن تنام
عبثا تحاول أن تنام
قدر عليك البؤس والألم المدمر والسقام
عبثا تحاول أن تنام
فاحمل عظامك وامض في الدرب الطويل
تحفك الأخطار، جدد رحلة الأحزان في أرض الضياع
القاحل المشؤوم
في بحر الأسى الطامي الذي لا يرحم السفن البريئة تقطع
الأبعاد.. بالقرصان والملاح
والأطفال والشيخ العجوز وغادة عذراء
حالمة بفارسها الجميل.. وزوجة فضلى
وزانية وقديس وإنسان يغامر
في سبيل الحق، يحدجه اللصوص
ويهمسون…ويرسمون
خططا يطل وراءها وجه يقهقه ساخرا
عبث حياتكمو! جنون!
تدل بعض الألفاظ والتراكيب على توظيف هذه الأسطورة، مثل:” الدرب الطويل، الأخطار، رحلة الأحزان، أرض الضياع، بحر الأسى الطامي، لا يرحم السفن البريئة” فهو لم يذكر يوليس صراحة لن رحلة الضياع التي خاضها أشارت إلى هذا البطل الأسطوري، وهو يرمز إلى الشعب الفلسطيني المبعد عن أرضه والتي جعلت أرضه مطمعا للآخرين، مثلما كانت زوجة يوليس مطمعا للرجال بعد أسره، ودلت عليها بعض الألفاظ مثل:” غادة عذراء، حالمة بفارسها الجميل، وزوجة فضلى”، فكما تنتظر زوجة يوليس عودته تنظر أرض فلسطين محررها.
أرض فلسطين=زوجة يوليس
الشعب الفلسطيني =يوليس
وفي نهاية المقطع يقرع الشاعر الشعب الفلسطيني مستنهضا إياهم لاسترجاع روح الثورة في وجه اللصوص الذين يخططون ويرسمون لسلب أرضه، اقتداء بيوليس الذي تحدى كل العقبات وانتصر عليه وأخيرا استعاد زوجته وحصل على الحرية.
وقد وظف الشاعر هذه الأسطورة أيضا في قصيدة “خطاب في سوق البطالة”، التي يخاطب فيها المستعمر، ويخبره أن في الميناء من ينتظر عودته، مثل يوليس الذي تاه في البحار وأسر لكنه في النهاية عاد إلى وطنه وأنقذ زوجته حيث قال:
يا عدو الشمس
في الميناء زينات، وتلويح بشائر..
وزغاريد، وبهجة
وهتافات، وضجة
والأناشيد الحماسية وهج في الحناجر
وتلك الهتافات والضجة هي أصوات المقاومة في فلسطين التي أطلقت الثورة في الميناء، فكان توظيف الشاعر للأسطورة على النحو الآتي:
الشاعر ممثلا لشعبة في رحلة نضاله وكفاحه للمستعمر=يوليس الذي تغلب على العقبات في رحلاته.
الميناء=فلسطين المحتلة
المستعمر=لعنة الإله بوصيدون
ومع أن هذه التناصات الأسطورية مباشرة إلا أنها تجلي رؤية الشاعر للصراع الدائر في وطنه، ووضوح طريق التحرير لديه، وهي كما عند يوليس، حيث قال:
وإلى آخر نبض في عروقي
سأقاوم
سأقاوم
سأقاوم
وينفخ الأمل في وجدان شعبه والحماسة، فمن صوت الهتاف والضجيج والتأكيد على فعل المقاومة، يؤكد أن عودته إلى وطنه ستكون مثل عودة يوليس، حيث ذكر اسمه صراحة “يوليسيز”:
على الأفق شراع
يتحدى الريح.. واللج..ويجتاز المخاطر
إنها عودة يوليسيز
من بحر الضياع
عودة الشمس، وإنساني المهاجر
وهكذا تفاعل الشاعر مع الأسطورة بشخصيتها وتجربتها في مقاربة حيوية حماسية عميقة.
7) أسطورة سيزيف:
وهي رمز لعبثية الحياة وضعف الإنسان، وسيزيف ملك خرافي في الأساطير اليونانية، اشتهر بالمكر والدهاء، حكم عليه بعذاب أبدي في الجحيم بأن يدفع صخرة من أسفل جبل إلى أعلاه، حتى إذا بلغ القمة تدحرجت الصخرة إلى أسفل، وكان عليه معاودة العمل من جديد، فقد رأت الآلهة اليونانية أنه ليس هناك عذاب أكبر من العمل دون أمل، لذلك عبرت هذه الأسطورة عن عبثية الوجود الإنساني، كما ترمز إلى المعاناة الأبدية، وعجز الإنسان.
وظف الشاعر هذه الأسطورة قصيدة “من أجل” حيث يقول:
“من أجــل
من أجل صباح!
نشقى أياماً و ليالي
نحمل أحزان الأجيالِ
و نُكوكِبُ هذا الليل جراح!
***
من أجل رغيف!
نحمل صخرتنا في أشواك خريف
نعرى .. نحفى .. و نجوع
ننسى أنّا ما عشنا فصلّ ربيع
ننسى أنّا ..
خطواتٌ ليس لهنّ رجوع
ترمز هذه الأسطورة إلى التحدي والإصرار وترمز كذلك إلى الضعف، وعبثية الوصول، وقد أشار إليها في النص كلمة صخرتنا، وهذه الأسطورة يقاربها الشاعر بواقع الشعب الفلسطيني الذي لا يستسلم ولا يعرف الانسحاب، فهو في كل مرة يستقبل صباح يوم جديد ويعاود الكرة مثابرة وكفاحا، لكن للأسف لا يصل إلى نتيجة لأنه يدور في حلقة مغلقة، ولا يصل فيها إلى وجهة لأنه يسير بجهد دون تخطيط، والإرادة تقتضي توافر الاثنتين، العقل الواعي المخطط والسواعد المنفذة بجهدها ومثابرتها، وهنا يعالج القاسم مسألة الفوضى والتشتت والانقسام التي يعاني منها الشعب الفلسطيني والتي أوصلته إلى نتائج سلبية وجعلت جهوده التحريرية النضالية عبثية، لأنها غير قائمة على تخطيط ورؤية موضوعية واقعية.
فجاءت موازنة الشاعر بين الأسطورة والواقع على النحو الآتي:
الشعب الفلسطيني بمن فيهم الشاعر= سيزيف
صمت العالم على معاناة الفلسطينيين=لعنة الآلهة لسيزيف والحكم عليه بالعذاب الأبدي
8) أسطورة إرم:
إرم حسب الأسطورة هي الجنة الأرضية التي بناها شداد بن عاد، عندما بسط سلطانه على الدنيا بأسرها، فحشد عباقرة المعماريين فنفذوا أمره بتشييد مدينة ذهبية جدرانها مطلية بالمسك والعنبر، ويحيط بها سور فضي مملوء بالذهب، حيث أصبحت غير مرئية من شدة الوهج، ونهضت المدينة، مؤلفة من مائة ألف قصر، أعمدتها زبرجد وياقوت، تجري بينها أنهار حصاها من الجواهر، وعلى حافتها أشجار، جذوعها من الذهب وأوراقها وثمارها من اللآلئ.
وقد أراد شداد بن عاد أن ينشئ الجنة الأرضية يتحدى فيها الجنة السماوية، وذهب أهل المدينة يعيثون في الأرض فسادا فبعث الله لهم النبي هود، لكنهم صكوا آذانهم عم وعظه فأهلكهم الله بالغرق.
لاحظ أن صورة إرم الجنة التي تتحدى جنة السماء سلبية، في سبب منشئها وفي أعمال أهلها وعصيانهم ومصيرهم، لكن الشاعر سميح القاسم يوظف إرم بطريقة إيجابية منذ العنوان في قصيدته “إرم الفاضلة”، فإرم سميح القاسم هي إرم الفاضلة تضجّ بمأساة الوجود الإنساني بأبعاد تاريخية أسطورية، ويعود القاسم يحلم في قصيدة “الرب الجريح” بمدينته الفاضلة عبر رؤية شعرية تنبثق من الحدس، فيقول:
أما إرم، التي أحلم بها وأكتب عنها فهي
إرم جديدة… إرم فاضلة… تحلم بها الإنسانية
جمعاء… وتناضل من أجلها… مضحّية في سبيلها
الطويل الوعر بجسام التضحيات وغواليها…
مؤمنة بأنها البديل الوحيد وواثقة بأنها البديل
الأكيد للعبودية البشرية وفنائها الشامل
إرما الفاضلة!
البشرية: إرما تريد القافلة؟
الشاعر: إرما… على أرض جديدة
إرما… سعيدة
إرما… ولكن فاضلة!
البشرية: ماذا لديك؟!
الشاعر: لدي إرم قصيدة!
البشرية: فلتسكتوا…
فلتسكتوا
وليلقَ شاعرنا نشيده!
في كراس إرم الذي نشره سميح القاسم في حيفا 1965 ينوّه في المقدمة بأهمية إرم ذات العماد القرآنية وإلهامها للشعراء والأدباء الذين استوحوا منها أعمالا شعرية أو أدبية من دون أن يذكر أسماءهم.
جعل الشاعر إرم الخطايا إرم فاضلة من باب المفارقة اللافتة، وقلب الأسطورة كليا رأسا على عقب، وقد كرر اسم الأسطورة أكثر من مرة في القصيدة، ولا يكتفي الشاعر بصنع المفارقة في العنوان فالمفارقة مستمرة، فسكان إرم الهالكة في الأسطورة قوم عصاة متجبرون، وحل عليهم العقاب الإلهي لإعراضهم عن طريق الهدى، لكن سكان إرم الفاضلة التي يسلط الشاعر الضوء عليها يسجدون لله ولا يتحدونه، ناهيك عن أنهم غير هالكين مثل قوم إرم الأسطورة، بل جعلهم الشاعر سعداء هانئين في عيشهم.
إذن الشاعر يرسم صورة لجنة أرضية لكنها فاضلة ليس كإرم الأسطورة العاصية الهالكة، لا ظلم فيها ولا جحود بنعم الله ولا تجبر ظالم كشداد بن عاد.
لكن كيف للشاعر أن يدعو إلى جنة أرضية؟ استنادا على أي من العناصر؟ المؤكد أنه لا يصل إلى جنة أرضية إلا بالحرية والعدالة، فيكون القاسم هكذا صنع المفارقة على المادة الخام-الجنان، وهي العيش المثالي، لكن شرط تحقيق التحرير من المغتصب الصهيوني وتحقيق العدالة الاجتماعية بين أبناء الشعب على النقيض تماما مما كان يفعل شداد بن عاد.
9) أسطورة إيكاروس:
إيكاروس (باليونانية القديمة:Ἴκαρος) في الميثولوجيا اليونانية، ابن دايدالوس. تحكي أسطورة يونانية قصة “إيكاروس“، الذي كان محتجزا وأباه في متاهة جزيرة “كريت” عقابا لهما من “مينوس“، ملك الجزيرة. للهرب من عقاب مينوس، استعان الاثنان بأجنحة ثبّتاها على ظهريهما بالشمع، أثناء هروبه من منفاه المتاهة، حلّق الابن إيكاروس قريبا من الشمس، متجاهلا نصيحة والده، فهوى صريعا بعد أن أذابت أشعة الشمس الشمع المثبّت لجناحيه، يقول في قصيدة جناز في ثلاثاء الرماد (إلى شهداء بيسان الثلاثة):
جيادهم وحدها عادت
صهلت قليلا على ضفة الأردن
حمحمت بالسخط المقهور وعادت
خفية عارية
إلى تلال الشمس المدججة بالحب
جيادهم عادت وأريج المحرقة
أما هم فواصلوا المسيرة
منحنين اليوم لينتصبوا غدا
وعلى خطواتهم الراسخة
هسهس قصب الأعوار أرغول فلسطين
وتنفضت العصافير في قلق مكتوم
خوفا عليهم
أما هم فواصلوا المسيرة
خطوة خطوة
إلى أمام وإلى أعلى
إنهم أفانيم ثورتك يا إيكاروس
إنهم أفانيمك الثلاثة
إنهم أجنحة أبيك المهين الصابر
فاشملهم بروحك وانطلق
يرثي الشاعر شهداء الثلاثاء، محمد جمجوم ومحمد حجازي وعطا الزير الذين قضوا في الثورة ضد الانتداب البريطاني على فلسطين، وكانوا أيقونة الوعي للشعب الفلسطيني بالمخاطر المحدقة بهم، ذلك الوعي الذي رسم بأرواحهم، دورهم العميق هذا في رسم ملامح الثورة الفلسطينية الرافضة لكل مظاهر الاحتلال، يقرأه سميح القاسم بروحه، ولا يمر عليه كقارئ نشرة إخبارية كغيره من الشعراء، ويخاطب إيكاروس الذي رفض السجن والأسر والظلم وفك قيده ومضى، وأصبح رمزا للتحرر من الاستعباد، يقول له: إنهم-الشهداء الثلاثة-أفانيم ثورتك يا إيكاروس، وهم أجنحة أبيك التي صنعها من الشمس، لكن هناك من يشعل الثورة بشرارة، وهناك من هم وقود لها، وهناك من يسير في ضوئها آخر الليل، والشهداء الثلاثة كانوا شعلتها ووقودها، وتبخرت أجسادهم وارتقن إلى السماء، وبقيت روحهم في تلك النار الثورية التي أشعلوها، مثل إيكاروس الذي اقترب من الشمس، من فرط ما حلق في سماء الحرية، فذابت أجنحة الشمع وهوى ساقطا إلى أسفل، فيوصي الشاعر إيكاروس أن يشمل الشهداء الثلاثة بروحه وينطلق بهم إلى سماء الحرية، لأن الشهداء في وطنه يرتقون إلى السماء خالدين، ولا يسقطون إلى أسفل، فمهما حلق المناضل في السماء واقترب من شمس الحرية، سيصل إليها، وسيبث روحه التي صودرت في أبناء شعبه ويرتقي إلى الخلود.
10) أسطورة أوزيريس:
تقول الأسطورة أن ست الأخ الغيور قام باغتيال أخيه أوزيريس، ومزق جسده، وبعثره في أرجاء مصر، فقامت الزوجة إيزيس بالبحث عن تلك القطع، وجمعتها وأعادت الحياة في جثة زوجها الذي صار إله الموتي في العالم السفلي، ويعود إلى العالم الأرضي مطلع كل ربيع، وهو رمز التجدد النباتي، وايزيس ربة الزراعة والخصوبة، وكلاهما يرمز إلى الخصوبة في وادي النيل.
وفي قصيدة” أوزيس الجديد”، التي يلفت العنوان فيها إلى الأسطورة دون حضور جميع تفاصيلها في متنها واقتصار الإشارات عليها بذكر الموت والبعث، يقول:
أنا والسيول المستميتة
مذ كانت الأمطار والأحزان والشمس العنيدة
نحيا على جرف النفايات المق