على الرغم من تعمّدي الابتعاد عن متابعة أخبار منطقتنا المتوفرة بسهولة حولنا في مدينة الرجاء الصالح، التي جئناها بزيارة خاصة، فشلت بمهمتي أمام سطوة هواتفنا الذكية، وفي عالم بات محكومًا بشبكات عنكبوتية، تملأ حياتنا بوجبات “الجانك” الاعلامي المليئة بالكذب المالح والسموم المحلّاة.
فعلى شاشة هاتفي يظهر بسرعة البرق خبر تتداعى عناوينه، تباعًا، وتتحدث عن خلافات قادة التجمع مع النائب أيمن عودة، وأخرى عن مقاربات بين عزمي بشارة ومانديلا. لقد كانت تلك، هكذا تبين لاحقًا، عبارة عن مقتطفات حيّة من مقابلة طويلة ومثيرة أجراها الصحافيان، جاكي خوري وجيدي ڤايتس في صحيفة هآرتس العبرية، مع ثلاثة من قادة حزب التجمع، وممثليه في الكنيست الإسرائيلية: جمال زحالقة باسل غطاس وحنين زعبي.
لم تحفل أقوالهم، في ذلك اللقاء، بما يناسبها من التفاتة جماهيرية، أو غيرها، وذلك على الرغم من وخز ما قاله النواب على الأقل في مجالين هامين: نظرتهم وموقفهم من رئيس القائمة المشتركة النائب الجبهوي أيمن عودة، وعلاقتهم بالنائب السابق عزمي بشارة، مؤسس حزب التجمع وأبيه وقائده الروحي.
وعلي أن أعترف أنني لو لم أكن موجودًا في حضرة صاحب الفرح الأسود، لربما لم أعر ذاك اللقاء مقالًا، رغم ما احتواه من محفزات على الكتابة والنقاش، ولبقيت في “سويتو”، صانعة القلق، قاهرة الوجع، وولّادة التحدي والألم.
فلقد أنهينا اجتماعًا لطيفًا مع ممثلين عن جمعية الأسرى السابقين في جنوب أفريقيا، وجلّهم من خريجي سجن “روبن آيلاند”، سيئ الصيت، وانطلقنا إلى”متحف الأبرتهايد”، ذلك الصرح الذي إن لم يزره السائح فقد تبقى زيارته إلى جوهانسبورغ عمياء وعرجاء .
ضم اللقاء وفدًا عن “جمعية نادي الأسير الفلسطيني”، شارك فيه: رئيس النادي قدورة فارس، وعضوا مجلس إدارته، عبير الوحيدي، وأمجد النجار، وأنا كمدير للوحدة القانوية فيه، كما وشاركنا المدير التنفيذي ل”جمعية أحمد كاترادا” نيشان بالتون، والسيد حسونة الديرملي، المسؤول في سفارة فلسطين لدى جنوب افريقيا.
عندما ارتج هاتفي كنت واقفًا في فناء المبنى الرصاصي، قبالتي، على حائط من حجارة داكنة تذكّرك بلون الخجل في وجه عاشقة بيضاء واحتراق الشمس في ساعة مغيب افريقية، تنبسط صورة لنيلسون مانديلا، وهو ينظر إلى سهول خضراء تملأ الفضاء، حتى أنك تتخيلها لن تنتهي، وهي محاطة من جهتين بجبال معمّمة ببياض هابط من السماء كحليب فائر، ومانديلا، حارسها الأمين، يطل بقميصه المزركش، كجلد زرافة، عليه أشكال عشوائية مصبوغة بألوان التراب وموشحة بصفرة الأناناس، ينظر إلى بعيد، وعلى وجهه بسمة مرتاحة، كبسمة النبلاء، تظللها عينان قلقتان، وأمامه تنفرج جملة كتبها أبناء أمة تنحني أمام صلابة زعيمها وإصراره، وتقر بتضحياته، وتتعهد لمن عصر ظلام الليل والمستحيل فأخرج منهما العزة والنور مندلقًا في أرجاء قارة لم تعد تخجل بسوادها، وتعلن : ” هامبا كاهلي، ماديبا.. وداعًا ماديبا، فنحن سنحترم إرثك “. وعلى بعد خطوتين من هناك، تقرأ على حائط آخر، خلاصة ماندلية نبيلة أخرى:” أن تكون حرًا ليس مجرد التخلص من القيود، بل أن تعيش أسلوب حياة وفي طريقة تحترم فيها وتعزز حرية الآخرين “.. ثم بعدها تدخل في ثنايا المستحيل، وترافق حكاية الألم الأسود، وكيف صيّره مانديلا ورفاقه تحديًا فحلمًا فأملًا فنشيدًا فحرية فوعدًا.. وعلى مدى ساعتين، أو أكثر، تتنقل ودمعك يصاحب شهقات الأمهات وهدير الفقراء، وتتعلم عن قصة شعب ورجال ومانديلا، الذي آمن، كما علّمه أجداده من قبيلة “الثيمبو”، ومنذ كان اسمه “روليهالاه” أو “صانع المشاكل” في لغة “الهوسا”، وردد أنه: “في بلدي نذهب إلى السجن أولا ثم نصبح رؤساء”.
اللافت في المشهد بعد مقابلة النواب الثلاثة هو أنها مرّت في الساحة السياسية العربية المحلية كسحابة غاز من الهيليوم، تاركة رجاحة التخمين أن هذا هو ثمر الوحدة وثمن النخوة العربية والعزوة في خيمة القبيلة، ثمن تدفعه في الحقيقة، الجماهير في هذا العصر العصيب.
لا أكتب دفاعًا عن أيمن، لأنني فعلت ذلك في مقالات سابقة، ولكنني أعبر عن انزعاجي من صمت رفاقه في الجبهة والحزب. فما قاله قادة التجمع الثلاثة في أيمن وأكثر، يمسّهم بشكل مباشر، هذا عدا عن كونه يتناقض وأصول الزمالة الحزبية، ومن يقرأ السطور وما بينها يكتشف تأولات خطيرة بحق من يرأس قائمة العرب المشتركة، وقد قيلت بنبرة متعالية ومشحونة بإيحاءات استهدفت النيل من نظافته الوطنية والتشكيك في مواقفه السياسية. فأيمن ليس أكثر من ساذج أو: “شاب طموح مليء بالشغف والتفاؤل ويعتقد أننا اذا غيرنا قليلًا بطريقة تصرفنا سيتقبلوننا، هذه المفاهيم والتصورات بنظري ساذجة للغاية ” أو هو شاب “رطب المغابن” يسترحم له ويسترفق فيه فمن : ” ناحية ثانية نحن لا نريد أن نقمع هذه الأصوات الشابة الجديدة، وقد أكون مخطئًا ولكن أبو مازن أحب كثيرا طريقة أيمن عودة” والأهم، ما أفهمنا إياه النائب غطاس، مفككًا لنا شيفرات ما قاله زميله وموضحًا أنه: ” سيأخذ بعض الوقت لحين يعلم أيمن عودة أيضا أن محاولاته لأن يكون مقبولاً ولطيفًا / وجيدًا لن تجدي نفعا..عندها سوف يستقيظ ” .
يحيرني تطنيش الجبهة، كحزب يدعي الريادة الجماهيرية، وابتلاع قادته لهذا التقريع واستفياؤهم بصبر الذليل، فهل قرأ قادة الجبهة ورفاق أيمن كتاب هلل كوهين عن “العرب الجيدين” ؟ فبين إشاحة الوجه أو المناكفة والمجارحة تبقى المجادلة بالعقل والمحاورة بالحسنى أنجع وسائل التفوق السياسي الشعبي، فأين أنتم منها؟
أكتب هذه المقالة وأنا جالس في ساحة البيت رقم ٨١١٥، في شارع “فيكازي”في “سويتو”، أمامي بيت مانديلا المتواضع وعلى واجهته ما زالت أثار ثقوب رصاصات كان يطلقها عليه المجهولون. أنتظر وأقرأ وأعيد قراءة تصريح النائب غطاس لجريدة هآرتس وفيه يجزم على أنّه ” إذا كان نلسون مانديلا يعلم قبل شهر من سجنه انه سيسجن لهرب “، وأحسّ بالنار تأكل أحشائي .
لقد أدلى النائب غطاس بتصريحه عن مانديلا في سياق تبرير دفاعه عن موقفه وموقف حزبه من قضية هجرة عزمي بشارة إلى خارج الوطن، هجرةٌ يصرون أنها بمثابة نفي قسري، في حين يتساءل آخرون عمّن نفاه وكيف ولماذا؟
لن أتطرق في هذه المقالة لتلك المسألة، فهي ليست شأننا هنا، مع أنها برأيي، لم تحظ في حينه بمعالجة وطنية مسؤولة ولم يناقشها ذوو الشأن والعلاقة نقاشًا مبنيًا على معطيات مثبتة وحقائق واضحة، بل راوح التطرق إليها بين ترويجيْن سطحييْن: منافحين باستماتة عن قرار الرحيل، وغامزين بخباثة عمّا طواه هذا القرار، وفي الحالتين علا هرج الشائعات المعومة ومرج التمنيات المجردة والادعاءات الغيبية؛ وبعيدًا عن كل ذلك، أرى أن مقاربة النائب غطاس آيثار النائب عزمي بشارة، كما كان وصفه في حينها وقراره، رغم كونه القائد وزعيم حزبه، مغادرة وطنه بعد جلسة تحقيق واحدة معه، وتنازله عن مواجهة محققيه ومصير قضيته، بأي قرار متخيل لمانديلا هو مغالطة متعمدة، فمساواة قرار بشارة المتجسد فعليًا مع افتراض وهمي ومتماد يتخيّل جزافًا ما كان مانديلا سيفعله لو عرف أنه سيسجن، هي ليست أكثر من محاولة تبرير هزيلة وموقف يجب أن يستجفى من كل حر وعاقل لما فيه من التجني الكثير والاعتداء أكثر .
فما هذا التعمشق الافتراضي على تاريخ رجل قضى في السجن ٢٧ عامًا لم يساوم فيها على مواقفه السياسية ولم يقايض حريته مقابل كرامة أمته وحرية بلاده و وتحرير شعبه.
فمن لا يعرف كيف وكم مرة لوحق مانديلا وحددت إقامته واعتقل، يجب أن يعلم أن مانديلا اعتقل في المرة الأخيرة بعد عودته إلى جنوب أفريقيا وكان قد غادرها في الخفاء، وبعد أن أنهى تدريبات عسكرية مع رفاقه في الجزائر، فعاد إلى وطنه ليكمل نضاله وهو متيقن أن رأسه مطلوب، لكنه اختار ولم يتردد وكان يعلم أن مصيره قد يكون في السجن أو تحت ثرى بلاده، عاد لأنه آمن بما علّم : ” أن الجبناء يموتون مرات عديدة قبل موتهم، والشجاع لا يذوق الموت إلا مرة واحدة”.
لن أسترسل، وأنا هنا في حضرة الحقيقة، فتاريخ مانديلا أكبر من مقالة، ولكنني أكتب عن مسألة تتعلق بما أسميه “الصحة الوطنية” عندنا، والصدق الإنساني البسيط لدى قادتنا ونخبنا، فالمحزن، ليس فقط ذلك التصريح من النائب غطاس، بل ما رافقه من صمت فاضح يشوه فضاءاتنا الفكرية والقيمية، ويكشف عورة أساليبنا النضالية وماتحمله من هواجس وأسئلة وتساؤلات : فكيف سنبني مجتمعًا سليمًا ومعظم قياداته يحترفون الاستعماء وتشميع الأذان، والاستجارة في دفء الأكاذيب التي تعشش تحت قنابيز بعضهم وبدلاتهم المستوردة ؟ وكيف سنشيّد وطنًا من غير استقامة علمية شائعة وشجاعة وطنية سائدة وعفة إخلاقية راجحة وصراحة ناجزة، وكيف سنصون بيوتًا من غير عزة واحترام للذات وللآخرين، وأي ميراث ستتركون للأجيال القادمة، فمانديلا ورفاقه في النضال تركوا لشعبهم وللبشرية إرثًا عظيمًا من ضمنه إيمانهم بما مارسوه وخبروه جراحًا على أجسادهم، وكما قال هو : ” لقد تعلمت أن الشجاعة لا تعني غياب الخوف بل الانتصار عليه” ، فالشجاع ليس من لا يخاف بل من ينتصر على خوفه، ومانديلا، لمن لا يعرف، كان شجاعًا، من غير لبس وبامتياز، والبقية عندكم يا رفاق، وعند من يحترف الصمت تقية والبكاء حبل نجاة .