وما الدروز إلا كالنحل// أنور دبور ـ بيت جن

 

د. سلمان حسين سوين ـ البقيعة / الولايات المتحدة

لقد قيل أنّ “الدروز كالنحل”:

إذا أكرمته تركك بأمرك

وأطعمك من عسله.

أمّا إذا تعدّيت عليه

فسوف يُلاحقك

ويُلاحقك

ويُلاحقك

حتّى يظفر بك

عالِمًا أنّه

سيموت.

 

كثُرت الإشاعات الخاطئة في الموحّدين الدروز وعقائدهم الدينيّة ومواقفهم السياسيّة فأسائت لهم الجيوش والحكومات من بداية تاريخهم في القرن الحادي عشر وإلى اليوم.  وهكذا راح بعض العلماء والعسكريّين والسياسيّين يعتمد على رأيٍ واحدٍ     أو قصّةٍ واحدةٍ ويستعجل لتكفير الدروز أو التعدّي عليهم إمّا بسبب الطمع والحقد والكره والتنكيل، وإمّا بهدف التعمية والتغطية والتفرقة والتشويه.

وهذا ما يحدث اليوم في المناطق السورية.  فالإرهابيّون من جبهة النصرة وداعش (ومساعديهم في البلاد العربية والغربية) جهلوا أو تجاهلوا تاريخ الموحدّين الدروز وهويّتهم التوحيديّة والقوميّة والنضاليّة وفضّلوا التكفير والتهجّم والعدوان.  ولذلك بات الدروز في الأيّام الأخيرة كلٌ منهم يتأمّل ويناجي الله أن تفيق تلك الجماعات الجاهلة من غيبوبتها أو نومها العميق فتساعد التاريخ ألّا يكرّر نفسه.

 

التكفير الفاشل والخاسر

والواقع المرّ أنّ هذه الفئات الإرهابية تُكفّر أكثر من 90% من المسلمين و100% من باقي العالم، وتكفّر بعضها البعض في نفس الوقت.  أمّا بالنسبة للدروز فقد كفّرهم بعض العلماء المسلمين في فتاواهم من أحمد ابن تيمية في بداية القرن الرابع عشر وإلى عبد العزيز ابن عبد الله الباز في أواخر القرن العشرين (الأول في خدمة سلطان المماليك ناصر الدين وحملته العسكرية على بلاد الشام، والثاني في خدمة المتطرّفين الوهابيّين وحملتهم الفكريّة السياسيّة على كلّ من لا يتبع وجهة نظرهم).  والحقّ أنّ الإثنان لم يتعرّفا على الموحّدين الدروز ولم يتناقشا مع علمائهم.  ولذلك وجب التصريح أنّ هذه الفتاوى حقًّا فاشلةً وخاسرةً ولا يهتمّ فيها إلا جبهة النصرة وداعش وغيرهم من أصحاب الحقد والكره، أي أعداء الإنسانيّة والإسلام والمسلمين.

فلماذا فشلت وخسرت هذه الفتاوى التكفيريّة والسياسيّة والضيّقة عبر العصور؟  والجواب واضح فالحقّ يُظهر صورةً مختلفةً من تلك الصورة التكفيريّة الجاحدة.  فعلى سبيل المثال، قام العلماء المسلمون في القرن السابع عشر في منطقة حلب ضد إسلاميّة الدروز فقرّر الحاكم العثماني وبفكرٍ عادلٍ أن يجمع بين فقهاء المسلمين ومشايخ الموحّدين الدروز في حلقة علمية إسلامية.  وباختصار كانت النتيجة أنّ الشيخ الدرزي جابر الحلبي تفوّق على باقي العلماء المسلمين.  وهكذا عُيّن الشيخ جابر لمنصب شيخ الإسلام في منطقة حلب.  وفي القرن العشرين وعندما رُفع السؤال ثانيةً في إسلاميّة الموحّدين الدروز قرّرت لجنة الإفتاء في الديار المصرية بعقلٍ وحقٍّ أن تبعث مراقبيها إلى المناطق الدرزيّة وتنظر في عقائدهم من قريب وتقارن بين معدن إيمانهم وروح الدين الإسلامي.  وبهذا العدل رجع المراقبون مقتنعون في إسلاميّة الموحّدين الدروز.  فالتيّارات التكفيريّة تظهر وتخسر وتغيب، والموحّدون الدروز باقون كما وُصفوا على ألسن الآخرين: “صامدون من على القمم الشمّاء”.

 

الحقائق بما قلّ ودلّ

لقد عانى الموحّدون الدروز نسبيًّا أكثر من غيرهم في الدفاع عن الحكومات الإسلامية ضدّ الهجمات والتعدّيات على سواحل وجبال سوريا ولبنان.  واليوم نرى أنّ بعض الفئات المشاركة أو الداعمة للحرب الأهلية السورية راحت تفكّر أنّ الدروز أقلية لا تُعتبر وجب أن تُمحق أو تُطبّع أو تُهجّر.  وقد أثبتت جبهة النصرة وأتباعها هويّتهم الحقيقيّة (أوهوية بعض أمرائهم) في مجزرتها في بلدة قلب لوزة في محافظة إدلب.

وإذا وجب أن نستعمل الخطاب الديني في هذه المقالة فقد “كُتِبَت المِحَن الكثيرة” على الموحّدين الدروز عبر تاريخهم الحافل بالتعدّيات عليهم والتدخّلات في أمورهم.  ولكنّهم خرجوا دائمًا من تلك المحن بالصبر والتفكّر والتعقّل وبالنجاح في الحفاظ على كرامة عرضهم وأرضهم.  فهم معروفون في البقاء في أراضيهم والدفاع عنها مهما كثُرت الأعداء.

وإذا وجب أيضًا أن نسطّر الحقائق بما قلّ ودلّ فنقول: 1) إنّ مناطق الموحّدين الدروز كانت وما زالت سوريا ولبنان وفلسطين/إسرائيل والأردن.  2) وإنّ عقيدتهم كانت وما زالت دين التوحيد. 3) وإنّ طائفتهم كانت وما زالت من طوائف الإسلام.  4) وإنّ شراعهم كان وما زال “الدين لله والوطن للجميع”.  5) وإنّ مسارهم السياسي كان وما زال الموالاة للسلطات الحاكمة وتجنّب الفتنة ورفض الإستقلال الذاتي.

 

التعريف العلمي والواقعي

وجب تعريف الموحّدين الدروز دينيًا واجتماعيًا وسياسيًا باختصار وتبسيط وبمنظورٍ مختلفٍ يجمع هنا بين كُتُبهم وشروحاتهم وتعليقاتهم وتصريحاتهم ووثائقهم من جهة، وآدابهم وتقاليدهم وعاداتهم التي عُرِفوا بها من جهة ثانية.  فلنكتفي ببعض النقاط الرئيسيّة:

أوّلاً: صِدقْ القلب اللسان.  الصدق عند الموحّدين الدروز مقدّسٌ وروحانيٌّ وإلهيٌّ ونبويٌّ فهو “سِدْقٌ” كما يفضّلوا كتابته، ليرفعوه فوق اللغة وفوق الأديان وفوق الناس.  فاللغة تتغيّر، والأديان تتأثّر، والناس تتطبّع أوتتعثّر.  بينما “السدق” فهو مع الله ومن الله وفي الله وعن الله وإلى الله، سبحانه وتعالى وحده لا معبود سواه.  فبلا سدق القلب واللسان يغرق الإنسان وتضعف الأديان وتنهار الأوطان.  وضحايا وسكّان بلدة قلب لوزة كباقي الدروز تعلّقوا بالسدق في معرفتهم وحبّهم لله وأنبيائه ورسله وكتبه.  بينما راح أتباع أمير جبهة النصرة أبو عبد الرحمان التونسي في التعاليم المعاكسة لله (س) وكتابه الكريم وللنبيّ (ص) وحديثه الشريف.

ثانيًا: دقّة الإيمان والإحسان.  بالسدق وعبر الأجيال سعى أئمة الموحّدين الدروز باجتهاداتهم التوحيديّة الإسلاميّة العميقة في التحقيق في معاني الإيمان والإحسان ومن خلال الحديث النبوي الشريف في النيّات توصّلوا إلى قاعدتهم الحكيمة والسليمة والتي نلخّصها هنا كما يلي: بلا تدقيقٍ كاملٍ في النيّات وفي الأديان يخرب الإيمان وتغيب إنسانيّة المؤمن في الإنسان.  ففي منظورهم ما الموحد الحقّ والحقيقيّ أينما كان الا سالكٌ في ترقيق قلبه وترقية عقله ليبقى على الطريق الصحيح إلى الإنسانيّة المُثلى والإنسان الكامل (ص).  ولذلك وجب على المؤمن الموحّد تصفية وتزكية نفسه الأمّارة كما أُنزِل في القرآن الكريم: “يا أيّتها النفس المطمئنّة، إرجعي إلى ربّك راضيةً مرضيّة …”.  وبهذا التدقيق المستمرّ وجب أن نتذكّر مقولة شيخ العقل القديرمحمد أبو شقرا (ر) لأحد زعماء الفِرَق الدينيّة الأخرى عندما جرّب الثاني تشويه سمعة الدروز.  قال الشيخ الوقور:    “… أمّا نحن فعمائمنا بيضُ”.

وقد سُمّي دين التوحيد أيضاً “دين الإحسان”.  ففي الحديث الشريف “الفَرق بين الإسلام والإيمان والإحسان” قيل في الإحسان: “أن تعبُد الله سبحانه وكأنّك تراه، فإن لم تره فهو حقًّا يراك”.  والموحّدون الدروز في كلّ مكانٍ وزمان متعلّقون ومتعمّقون بالإحسان ومعناه الديني والإجتماعي.  وما الإحسان إلا جوهر التوحيد وزبدة الأديان.  فالله سبحانه وحده هو الذي خلق الكون والزمن والأمن والمُؤَن (وليس زعماء جبهة النصرة وداعش، التونسي والجولاني والبغدادي)، وهو الذي يُنجّي من يشاء ومتى يشاء، فهو الواجد والمالك والمُعيد.

ثالثًا: دعم الحقّ في كلّ زمانٍ ومكان.  إنّ دعم الحقّ واجبٌ إلهيٌّ عند الموحّدين الدروز في كل مكانٍ وزمان.  والموت عندهم أفضل بكثير من عدم إتّباع الحقّ والدفاع عنه بأموالهم وأجسادهم وأرواحهم.  والحقّ يظهر واضحا أكثر وأكثر بسبب السلوك والتعمّق في السدق والتدقيق.  فمن أصول دعم الحقّ المحافظة على كرامتهم وعلى أرضهم وعلى عرضهم كما قيل ودُوّن محنةً بعد محنة وعبر التاريخ.  والظروف تتغيّر ولكن الحقّ ثابتٌ في هذه الصفات الإحسانيّة مهما تعدّى الإرهابيون وغيرهم على طائفة الموحّدين الدروز في إدلب والسويداء وحضر وأيّ مكانٍ آخر.

رابعًا: حفظ الإخوان والإنسان.  يقتضي السلوك بالسدق والتدقيق ودعم الحقّ حفظ الإخوان والإنسان.  والحفظ حقًّا وحقيقةً واسعٌ في معناه وهو من حفظ الأخ والأخت والقريب … إلى حفظ الصديق والجار والغريب.  والواقع الصعب أنّ من لا يقدر على حفظ أخيه من أمّه وأبيه فلا يقدر على حفظ الإنسان الآخر.  والواقع الأصعب أنّ من لا يقدر على حفظ ما خلق الله فهو بعيدٌ عن التوحيد الحقّ والدين الحقيق.  وتاريخ الدروز حافلٌ في محافظتهم على إخوانهم وأصدقائهم وجيرانهم وزائريهم.  وهذا لا حاجة لإثباته فهو واضحٌ كالشمس، فدروز جبل العرب وجبل السمّاق نفسهم معروفون في إكرامهم للضيف من دون أسئلة أو شروط.  وسكّان  بلدة قلب لوزة وباقي قُرى الدروز في محافظة إدلب كانوا قد فتحوا بيوتهم منذ بداية الحرب الأهلية السورية لألوف المهجّرين (وأبناء محافظة السويداء لعشرات الألوف) من كلّ الفئات والخلفيّات السورية، كانوا مع النظام السوري أم ضدّه.

خامسًا: عدم التعدّي والعدوان.  صَدَق من وَصَف الدروز كالنحل فهم مشغولون في حياتهم اليوميّة ولا يعتدون على أحد.  وفي الماضي من تعدّى عليهم اعتُقل أو قُتل أو مات صدفة عاجلاً أو آجلاً.  والقصص كثيرة في هذا الشأن ولا مكان لها في هذه المقالة القصيرة. وقد تعدّت جبهة النصرة على بلدة قلب لوزة ولعلّها لا تعتدي على قرية حضر.  وكما يظهر في تحرّكات داعش أنها ستعتدي على الدروز في السويداء إذا استطاعت.  وللأسف داعش لا تفهم قوى الدروز هناك وقدرتهم الفائقة على الدفاع عن أنفسهم.  فالدروز اليوم في السويداء وفي كل مكان تتذكّر إبن النحل وابن الجبل المكرّم نوّاف غزالة (ر) الذي لاحق ولاحق ولاحق القائد المتعدّي أديب الشيشكلي عشر سنوات حتى قتله أخيرا في بيته في البرازيل.  وهكذا أحيى حقّ الدروز وحذّر المتعدّين وأصحاب العدوان في كل مكان.

وأخيرًا الواقع والحقّ أنّ النحل يموت إذا ظفر بك، والموحّدون الدروز لم تمُت عبر ال 1000 سنة من تاريخهم.  ونوّاف غزالة لم يمت في 1964 عندما قتل الشيشكلي بل عاش أكثر من 40 سنة بعدها.  فالدروز إذن نحل النحل.

 

د. سامي سويد

متخصّص في الدراسات الدينيّة والروحيّة، جامعة ولاية كليفورنيا في سان دييغو

من مؤلفاته بالانجليزية: القاموس التاريخي للدروز، طبعة ثانية منقّحة 2015.

تعليق واحد

  1. يوجد خطأ هذه المقالة تنتمي إلى د سامي سويد وليس ل انور دبور

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .