هِنْد.. قصة قصيرة بقلم الاستاذ حسين مهنا

13(127)

لو كانَ الواقِفُ أَخاها فَهل كانِتْ سَتَنْهَرُهُ كما تَفْعَلُ مَعَها؟! لا يَهُمُّ!، هَمَسَتْ في سِرِّها.. أَلَيسَ هو آدَمَ وأَنْتِ حَوّاءُ؟!.. بَلى.. أَنْتِ يا حَوّاءُ الجانِحَةُ الجانِيَةُ دائِماً وهو السَّوِيُّ المَجْنِيُّ عَلَيهِ دائِماً…

اتَّكَأَتْ على حافَّةِ شَبّاكِ غُرْفَتِها المُطِلِّ على مَنْظَرٍ قَرَوِيٍّ خَلّابٍ.. جَبَلٌ شامِخٌ بِخُضْرَتِهِ.. سَماءٌ تَيّاهَةٌ بِزُرْقَتِها.. أَراضٍ لا هي سَهْلِيَّةٌ ولا هي جَبَلِيَّةٌ إنَّما هي جَليلِيَّةٌ بِامْتِيازٍ؛ تُبْهِرُ العَينَ بِلَونِها البُنِّيِّ، فهي محروثَةٌ لِاسْتِقْبالِ الوَسْمِيِّ..

وأَمّا ما يُرى في المَدَى القَريبِ، فَالمارَّةُ في ذَهابٍ وفي إيابٍ.. حَرَكَةُ سَيّاراتٍ تَنْشَطُ.. صِياحُ ديكٍ آتٍ من بَعيدٍ.. صورَةٌ لِقَرْيَةٍ أَخَذَتْها المَدَنِيَّةُ شَوطَاً، وتَرَكَها لا هي قَرْيَةٌ ولا هي مَدينَةٌ.

– لا تَقِفي أَمامَ الشُّبّاكِ هكَذا يا زُهَيرَةُ..!

صَوتُ أُمِّها يَجْلِدُها مِنَ الخَلْفِ.. خَوفُ أُمِّها مِنَ القيلِ والقالِ هو ما يَجْعَلُها، رُبَّما، تَعْتَرِضُ على وُقوفِها هُناكَ.. فَالوُقوفُ أَمامَ الشَّبابيكِ، بِأَعْرافِهِم، لا يَليقُ بِالفَتاةِ، جَميلَةً كانَتْ أَمْ دَميمَةً، حَتّى كَونُها طالِبَةً جامِعِيَّةً لا يَشْفَعُ لَها.. تَقولُ أُمُّها : الذَّهابُ الى الجامِعَةِ شَيءٌ، والوُقوفُ أَمامَ الشَّبابيكِ شَيءٌ آخَرُ !.. ثُمَّ إنَّها أَجْمَلُ أَخَواتِها.. جَميلَةٌ بِكُلِّ مَقاييسِ الجَمالِ دونَ الخَوضِ بِالتَّفاصيلِ.. تَبَسَّمَتْ حينَ تَذَكَّرَتْ أَنَّ أُمَّها لم تَكُنْ تُريدُها أَنْ تَذْهَبَ الى الجامِعَةِ، فَتَعيشَ في قَلَقِ الأُمِّ الّتي تَنامُ في بَيتِها، وابْنَتُها تَنامُ خارِجَ البَيتِ بَعيدَةً عن ناظِرَيها..

– لا تِقِفي أَمامَ الشُّبّاكِ يا زُهَيرَةُ!

مِسْكينَةٌ اُمِّي.. قالَتْها في سِرِّها..لا تُريدُ أَنْ تُصَدِّقَ أَنَّ الحَياةَ تُبَدِّلُ أَبْناءَها.. لا تُريدُ أَنْ تَعي أَنَّ حَوّاءَ قد خَرَجَتْ معَ آدَمَ عارِيَةً إلّأ من وَرَقَةِ توتٍ، وعامَتْ دُهورَاً في بُحورٍ من دَيجور، والآنَ تَسْبَحُ في بُحورٍ من نور.. أُمُّها لا تُريدُ

أَنْ تُصَدِّقَ أَيضَاً، أَنَّ (الآي فون) يَفْعَلُ فِعْلَهُ أَكانَتِ البِنْتُ خارِجَ البَيتِ أَمْ داخِلَهُ !!… وأَنا أَنْتَظِرُ العَودَةَ من بَيتِ الطّالِباتِ في الجامِعَةِ لِأرْتاحَ من المُحاضَراتِ ومن نَظَراتِ المُحاضِرينَ – بَلْهَ الطُّلّابَ – وأَقِفَ هذِهِ الوقْفَةَ لِأَعُبَّ بَراءَةَ الطَّبيعَةِ عَبَّاً!

نِداءُ أُمِّها لِلْمَرَّةِ الثّانيَةِ جَعَلَها، رغمَ تَفَهُّمِها لَها، تَمْتَعِضُ بَعْضَ الشَّيءِ.. وفَكَّرَتْ.. لو كانَ الواقِفُ أَخاها فَهل كانِتْ سَتَنْهَرُهُ كما تَفْعَلُ مَعَها؟! لا يَهُمُّ!، هَمَسَتْ في سِرِّها.. أَلَيسَ هو آدَمَ وأَنْتِ حَوّاءُ؟!.. بَلى.. أَنْتِ يا حَوّاءُ الجانِحَةُ الجانِيَةُ دائِماً وهو السَّوِيُّ المَجْنِيُّ عَلَيهِ دائِماً… تَقولُ الصُّغْرى من بَناتِ (نوح) لِأُخْتِها: “أَبونا قَدْ شاخَ ولَيسَ في الأَرضِ رَجُلٌ لِيَدْخُلَ عَلَينا كَعادَةِ كُلِّ الأَرضِ هَلُمَّ نَسْقي أَبانا خَمْرَاً ونَضْطَجِعُ مَعَهُ فَنُحْيي من أَبينا نَسْلاً”.

… وقالَتْ لَهُ في كِتابِ أَلْفِ لَيلَةٍ ولَيلَةِ : “…. وأَيضَاً عندي دائِماً الخُبْزُ مَخْبوز والماءُ في الكوز، وما اُريدُ مِنْكَ إلّا أَنْ تَعْمَلَ مَعي كِما يَعْمَلُ الدّيك. فَقُلِتُ لَها: ما الّذي يَعْمَلُهُ الدّيك؟ فَضَحِكَتْ وصَفَّقَتْ بِيَدِها ووقَعَتْ على قَفاها من شِدَّةِ الضَّحِكِ، ثُمَّ إنَّها قَعَدَتْ وقالَتْ لي: أَما تَعْرِفُ صَنْعَةَ الدّيك؟ فَقُلْتُ لَها: واللّهِ ما أَعْرِفُ صَنْعَةَ الدّيك! قالَت: صَنْعَةُ الدّيكِ أَنْ تَأْكُلَ وتَشْرَبَ وتَنْكَح! فَخَجِلْتُ من كَلامِها ثُمَّ إِنَي قُلْتُ: أَهذهِ صَنْعَةُ الدّيك؟ قالَتْ: نَعَمْ، وما أُريدُكَ الآنَ إلّا أَنْ تَشُدَّ وَسَطَكَ وتُقَوّي عَزيمَتَكَ وتَنْكَح….”.

… وذَكَرَ المَسْعوديّ أَنَّهُ كانَ لِلْخَليفَةِ العَبّاسِيِّ أَبي الفَضْلِ جَعْفَرَ المُتَوَكِّلَ على اللّهِ بنَ المُعْتَصِمِ بنَ هارونَ الرَّشيدِ بنَ المَهدِيِّ بنَ المَنْصورِ أَرْبَعَةُ آلافِ جارِيَةٍ وَطِئَهُنَّ جَميعَاً!!

وأَحَسَّتْ أَنَّها تَغْرقُ في بَحْرٍ غَيرِ بَحْرِ التّاريخِ العَكِرِ هذا! إنَّهُ بَحْرٌ من غِسْلين… وتَهَيَّأَ لَها أَنَّها بَصَقَتْ بَصْقَةً بِلا هَدَفٍ.. وصَوتُ أُمِّها  لا يَرْحَمُ..

– مَلْعونٌ أَبو الشَّبابيكِ يا زُهَيرَة!!

تَقولُ أُمُّها: شَرَفُ الفَتاةِ زُجاجٌ إذا انكَسَرَ لا يَنْجَبِرُ!..وتَقولُ هي: وهلْ هُناكَ شَرَفٌ يَنْجَبِرُ وآخَرُ لا يَنْجَبِرُ؟ قالَ الرَّسولُ (ص)… “ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنينَ”. فَرَدَّتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ، أُمُّ مُعاوِيَةَ، وكانَتْ تُبايِعُهُ “وهَلْ تَزْني الحُرَّةُ وتَسْرقُ؟!…. وارْتاحَتْ عِنْدَما تَذَكَّرَتْ قَولَ هِنْد.. آهٍ هِند.. هِنْدُ يا هِنْدُ…. !! أَينَ أَنْتِ يا هِنْد…!؟

وقَبْلَ أَنْ تُغْلِقَ شُبّاكَها مَرَّ شابٌّ وَسيمٌ أَنيقٌ، نَظَرَ اليها وابْتَسَمَ.. فَابْتَسَمَتْ.. ابْتَسَمَتْ بِدافِعِ الإتِكيتْ.. تُرى بِأَيِّ دافِعٍ ابْتَسَمَ هوَ…!؟

(ديسمبر 2014) 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .