ما تبقّى لي: حواريّة مع الغائب الحاضر في ذكرى غياب الجسد – مرح حامد*

 شعرتُ بأنني في وطني مجددًا، إذ دخلتُ إليها…

أحسستُ أنني عرفت الحياة بعد مماتها، فلا حياة لأشباحٍ لم يحلموا يومًا…

كنتُ أراني في مغارة الأحلامِ، في ربيعٍ لا تصفِرُ فيه الريحُ، ولا تتفتحُ فيه القنابل والحروبُ مقام برقوق نيسان، ولا تتساقَطُ عن أشجارِ ميلاد الثوراتِ أوراقُ الأمل…

ثم رأيتُه، هو الذي يحتل كل مساحات عقلي، وحروفُ كلماته تعششُ في كل مساماتِ فكري..

كانَ جالسًا إلى مكتبه، يَعُضُّ طرفَ قلمه العزيزِ..

تأملتُه بكل تفاصيله: يداهُ الممسكتان بالقلم بكل عزمٍ على تحدي بَياض كل كفنٍ للشهداءِ، “فدائما يوجد في الأرض متسع لشهيد آخر”، شارباه اللذان يستفيضان عروبةً، عيناه اللتان تنضحان نصرًا وجرأةً وفلسطينًا، أوليس هو القائل: “إن الانتصار هو أن تتوقع كل شيء، وألا تجعل عدوك يتوقع…”

وحقًّا توقع، وانتصر؛ فلا انتصار أجمل من أن يحبك شخصٌ إلى درجة أن يعيش على حلم تحقيق حلمِك، ولا انتصار أروع من أن يكرهَك عدوك إلى درجة أن تخلدَ بعد موتك حالمًا، معبّئًا أحلامَ كل من يحبك.. فلم يمُت قبل أن يكون ندًّا…

ورأيته، يمشي بخطواته الثابتة، إلى نافذةٍ إطارها من داليةٍ هي ربما التي زُرعت بتلك اليد المتشققةِ التي “اهترأت مع التعبِ والعذابِ فأصبحت تشبه جلدَ أرضٍ يعذبها العطش”. وينظر بعينيه الممتلئتين إصرارًا…

رجلاي اللتان ساقَهما تحرقي شوقَا لمعرفة ما ينظرُ إليه، كانتا تحاولان مشي خطواتٍ بثباتٍ كخطواته، بينما تشرئِّبُ عنقي إلى تلك النافذة لأطل على أفقٍ كانت عيناهُ منتصبتين عليه، والذي ليس بالإمكان أن أطلق عليه سوى اسمٍ واحدٍ هو “فلسطين”…

لأرى طفلاً يجلس أمام قفصٍ فيه بضعُ ريشاتٍ بدا لي أنها لحسونٍ أكلته بعض القطط، سيارةً تحترق وتحرق معها بعضًا من شتات، قصةً تكتب، قلمًا يفيضُ بكلماتٍ لا تمحي رغم كل الدم والنكبات فتكتب العزمَ والإرادة والسعيَ للانتصار، ساعةً تدق وتلاحقني دقاتها مع كل خطوةٍ أخطوها، كما ضحكاته…

لأتذكر فارسًا لاذعًا في كلامه، دفعني دومًا إلى الضحك والسخرية حتى من نفسي، وكشف لي عن سخرية الوقائع والعلاقات في الناس والأشياء والأفكار، ناقدًا جميعها بخفة دمه وسخريته الجارحة، وحنكتِه فيها..

وصلتُ إليه، لأجد كل ما أمامه قد انقلب صحراء واسعةً، إذ صرخ صرخةً ما زال صداها يترددُ في صحراء من الناس لم تستفق تربتها بعد، ولم تقرع جدران خزانها، أو كلما أوشكت على الاستفاقة، ترنحت عائدةً إلى ذاك السبات…

أمسك بيدي وسرنا لنقطع تلك الصحراء، التي أصبحت “كحيفا أخرى، غير التي خرجنا منها، كحيفا التي عدنا إليها ولم نجدها”..

مشينا وارتفعنا، ورأيتُنا نطير إلى عكا ويافا، “أرض البرتقال الحزين”، ممسكينَ يدًا بيدٍ، لنعيد البسمةَ إلى الطيرة، ونعيد إلينا قدسنا وحيفانا…

أولم يقل: “إن قضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميتين، إنها قضية الباقين..”؛ وحقا.. فقضيتي الآن قضية حياته واستشهاده، وأحلامه التي تقمصت أحلامي…

وكانَ دومًا رجل القضية الواحدة، فاخترتُه ليعتلي عرشَ قلبي الذي ينبض باسمه وفكره، الذي يعبد مبادئه الخالدة في،حتى صرتُ أسبح بأفكاره، وصارت صلاتي أن أتلو جملًا كان قد قالها، وكنتُ قد حفظتُها عن ظهر قلب، وصار كتابُهُ هو كتاب قلبي الذي يرافقني دومًا ولا يفارقني، لتكونَ جملتي المعهودة التي أقولها لصورتِهِ المعلقَةِ إلى جانبي، إذ تشرق علي شمسٌ أشرقَ فيها كل الرجال الرجال، لتكونَه:

“أحبك غساني، أحبك”.

إهدائي إليه، في كل البداياتِ والنهايات: أن أحمله فيَّ فكرةً ومبادئ، لغةً وإيمانًا، إخلاصًا ووفاءً وعشقًا لفلسطين، إليه فيَّ، الحي في قلبي وفي عقلي.. إلى غسان كنفاني…

 
 
ملاحظة: كثير من العبارات مقتبسة من مقولات أو عناوين للشهيد غسان كنفاني.
 
* نحف.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .