لا يسطَعُ الطِّيبُ إِلاّ مِن نوافحِهِ..! …بقلم يوسف ناصر…

url

ليت أخي العزيز الكاتب سهيل عطاالله ، يدرك كم آلمني أن تمنعني الأسباب، وتحول الأحوال بيني وبين مشاركته في مناسبة تكريمه في كفرياسيف وحيفا ..! كيف لي أن أقصّر عن ذلك ، وهو أحقّ الناس عندي وأولاهم بالتكريم والتوقير، وهو الكاتب الذي أمحّضه الودّ الخالص منذ عهد بعيد، وتجمعني به أقدس القرابات وأعظمها ! إنّها قرابة المحبة والمودة الخالصة ، وقربى الدّم في الحرف والقلم ، وصلة الرحم في الوفاء والإخلاص، وهذه عندي خير القرابات وأصدقها في هذا العالم.!
ولا عجب في أنّ هذه القربى بيننا تعود في أصل جذورها إلى والده الأستاذ الجليل المعلّم ذيب عطاالله نوّر الله ضريحه ، والذي كان يُعدُّ زين المحاضر والمجالس ، ممّا يتحتّم عليّ هنا أن أقطع حديثي قليلاً ، لأعود إلى خزانة الذكريات العامرة بنفائسها ، فأعبّر عن نزاهة هذا الرجل ونبله ، وأعوذ في ذلك بالله من كلّ فخر وعُجب ، إنْ هي إلا حقيقة أتذكّرها ، سمْع الأذن، ورأْي العين، وأنقلها هنا بكل صدق وأمانة، وفاءً لحقّ الرجل عليّ من العدل والإنصاف.! . وإن أنسَ لا أنسَ ما حييت ذلك المشهد العظيم ، وما قاله لي أبو سهيل قبل خمسة وثلاثين عامًا ، للوقت ، عند نهاية الاحتفال بوضع حجر الأساس لكنيسة الرّوم الأرثوذكس الجديدة في كفرسميع ، يوم السبت الواقع في الثامن من أيّار عام واحد وثمانين من القرن الماضي ، وكان الأستاذ أبو سهيل يومئذ ، والشاعر جورج نجيب خليل ، رحمات الله عليهما ، بين الجماهير التي حضرت ذلك الاحتفال البهيج ، وقد ألقى كلّ منهما في المناسبة قصيدة عصماء عبّرا فيهما عمّا يعتلج في الخاطر من دفق الإحساسات والمشاعر . ذلك يـــوم أغــــر ،ّ ولا ككل يوم ، لبست كفرسميع فيه حلّة قشيبة من المجد والفخار، وشهدت حدثًا عظيمًا استغرق اليوم كلّه من “مطلع الفلَق إلى مجمع الغسَق” حضره عِلْية القوم وأعيان الناس من سائر البلاد، فيه استقبل أبناء كفرسميع الأحبّاء من دروز ومسيحيين مع الضيوف الفضلاء عند مدخل القرية، غبطة البطريرك ذيوذوروس الأوّل، وحاشيته من الأساقفة والمطارنة والكهنة، وقد سار الموكب مُلُوكــــيًّا ، لا أعظم ولا أفخم ! تتقدّمه فرق الكشاف المختلفة، وتحفّ به الزغاريد والأناشيد، وتنهلّ فيه الدموع من المآقي فرحًا لبلاغة أثره في النفوس .! رُحت فيه قرابة ساعة كاملة أرحّب بالضيوف مرتجلاً القول، بين نثر وشعر، وأصرّف الكلام في كلّ معنى غبّ اللحظة وطبق الحالة ، يستفزّني في ذلك جلال الموقف ورهبته ، حين كان الموكب الكبير يسير مسافة تمتدّ من مدخل القرية شمالاً حتّى موضع بناء الكنيسة الجديدة جنوبًا . وهكذا … إلى أن تمّ الاحتفال العظيم بعد ساعات ، وانفضّ المحتفلون ، لأجد نفسي فجأة بين الجماهير المودّعة أمام أبي سهيل يستوقفني ، ويده على كتفي، ويقول لي بلطف الأب وحنوّه ما لا أستحقّه من الإطراء والثناء: ” ماذا أقول لك ! ثَــكِلتْك أمّك ما أخطبَك ..! لقد بهرتنا..! ” ذلك موقف لا يغرب عن خيالي يومًا لرجل في قامته ، كان كالنجم الثاقب في وقاره ، وقد اكتهل، وقف يخاطب فتًى صغير السنّ لم يتجاوز العام الثالث والثلاثين من عمره ، ويدلّ فيه ، ولا ريب ، على حسن سريرته ، ونقاء طويّته ، وما يتصف به عادة أولئك الرجال الشرفاء في هذا العالم.
..لا عجب أن ينشأ الأستاذ سهيل كاتبًا بين أرباب القلم ، وهو ربيب هذا الأب الجليل، وقد غبّ من ينبوعه الثــــرّ ، ونشأ في كنفه على محبّة الأدب، ونشر جنى عطره ورحيقه ! ذلك أنّه لا يسطع الطيب عادة إلاّ من نوافحه ، كذلك لا تحمل الأنسام عطرها إلا من الأزاهير الفوّاحة في الروضة الخضراء .!
عرفت الأستاذ سهيلاً رجلاً ودودًا ومتواضعًا، ومربّيًا لامعًا، وأستاذًا ضليعًا من اللغة الانكليزية، ، ومعلّمًا مخلصًا لها، يحظى بتقدير مَن درسوها على يديه من أفواج طلابه. وأيّ فلاح في هذا العالم أعظم من أستاذ يغرس الغرس الحيّ من الطلاب، فيملأ بذاره قرى الجليل، ليحمل كلّ طالب أريج ذكراه الطيّبة، وينقل للناس عطر سمعته الزكيّة !
كنت أقرأ ما يكتبه سهيل من مقالات في صحيفة الاتّحاد، مثلما كنت قرأت خلاصة ذلك في كتابه “حديث الثلاثاء” الذي أهداني بأجزائه الثلاثة ، فعرفت سهيلاً كاتبًا تنضح مقالاته بالشعور الصادق، وترشح بالمحبّة والصدق ، والقيم الرفيعة، وتجيش بالإحساس المفعم بالانتماء الأصيل إلى الأرض، والإنسان، والوطن، وتحسّس آلام الناس، وقضاياهم، في ومضات خاطفة من المقالات الخضراء، التي تبعث الأمل والرجاء، وتغني القارئ عن قراءة صفحات عدة من الكلام المملّ.
يتكلّم قلم سهيل في مقالاته لغة سهلة، ويتحدّث بألفاظ رقيقة، واضحة المعنى ، في نثر هو نثر الورد في الربوة الفيحاء، يبعث نفحاته إلى كلّ جهة، في تعابير تصدر عنه عفو الخاطر، وفيض الطبع، فيستمتع القارئ بجمال معانيها، وحسن نسقها، دون ملل وكلال في متابعتها ، وذلك كله بفعل حسن إيجازها، وجمال إبداعها، ووميض فكرتها، وبُعدها عن الابتذال والتكلّف، وتشهد كذلك على صدق العلاقة بين الكاتب وبين موضوعه ، وهذا الأخير هو عندي خير ما يلزم الأدب الرفيع دائمًا.
هذا كله ، ولا أدّعي أنّ سهيلاً قد بلغ حدّ الكمال والجودة فيما كتبه، أو أنّ ما كتبه خالص من كلّ شائبة ونقص، بالنظر إلى معيار النقد الحديث للمقالة ، وبالنظر إلى مقاييس اللغة العربيّة وضوابطها، والرجوع إلى قواعد المقالة في الآداب الحديثة . مع ذلك كلّه ، تبقى ثمرات يراعه تشهد، وبحق، على كاتب بارع استطاع في مدّة وجيزة أن يُمتّع بنفحات قلمه كلّ قارئ، وأن يحظى بكل احترام وتقدير، لِما أسداه بذلك من خدمة للفكر والأدب.
.. أخي سهيل ! لك منّي كلّ إجلال وإكبار ، وإلى قلمك أدعو كي يبقى سيّالاً في يدك دائمًا ، وتحمله مصباحًا وضّاءً للناس، لا يخبو يومًا ولا ينطفئ ! ملتمسًا منك الصفح عن تقصيرٍ بحقك ليس منّي بل هو من جنايات الأيّام عليّ ! وليكن مقالي هذا خطابًا يليق بك، كما لو كنتُ معك في كلّ مناسبة ألقيه على مسمعك ، ويوفيك عنّي ما تستحقّ من تقدير وإكرام .
كفرسميع في 19/6/016

 

للمزيد من مقالات

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .