في حيفا مفلح طبعوني ونزيف الظلال!/ آمال عوّاد رضوان  

unnamed (9)

أقامَ نادي حيفا الثقافيّ، والمجلس المليّ الأثوذكسيّ الوطنيّ حيفا أمسية شعريّة، احتفاءً بالشاعر مفلح طبعوني، وإشهار ديوانه الشعريّ الثالث (نزيف الظلال)، وذلك بتاريخ 12-2-2015، في قاعة كنيسة ماريوحنا المعمدان الأرثوذكسيّة شارع الفرس 3 في حيفا، وسط حضور من الأدباء والأصدقاء وذوّاقة الأدب، وقد تولّت عرافة الأمسية بلباقة السيدة خلود فوراني سريّة، وتحدّث عن الديوان كلّ من د. جودت عيد، ود. بطرس دلة، وتخلّلت الأمسية قراءاتٌ شعريّة بصوت الشاعر مفلح طبعوني، وقد أتحفَ الحضورَ من مدرسة (حوار في حيفا)، كلٌّ من اليافعين: محمّد حجير، راني عبّود، وزكريّا فيصل، بمعزوفات لفيروز وأمّ كلثوم، أضفوا جوًّا جميلًا على الأمسية، وبعد مداخلات الحضور شكر الشاعر مفلح طبعوني الحضورَ، ثمّ تمّ التقاط الصور التذكاريّة.

جاء في كلمة العريفة خلود فوراني سرية: الحضور الكريم، الأخوة والأخوات، مساء الود والورد والنقاء، مساء الخير والشعر والصفاء، وأهلا بكم في هذه الأمسية الثقافيّة، الباردة جوًّا الدافئة شعورًا. من ناصرة العرب إلى شقيقتها حيفا العروس قادتهُ خطاهُ، حاملًا في جعبته عملًا إبداعيًّا جديدًا، إذا أطلتَ فيه الإقامة، تُصرّ بل تنتشي أنه يحتجزك مؤانسة شعريّة، تحملُ سرائرَ وأسرارَ القصيدة لوحة جماليّة، مُزوّدة بالرؤية التأمّليّة، تتّسم بالجدّة والحركة التي تسعى لاصطياد الحقيقة، بهدف التأسيس لواقع عربيّ وإنسانيّ جديد.

الشاعر الثائر مفلح طبعوني (أبو موسى)، هذا المساء مساؤك، هذه أمسية محبة واحترام، أمسية إبداع شعريّ وإمتاع شعوريّ وإصغاء مرهف وواع. فتعالوْا معًا أصدقائي نستقبل ضيفَ حيفا الذي أتى متأبّطًا نزيف ظلاله، ليَسّاقط نورًا وإمتاعًا وبردَ سلام عليكم. قالت العربُ: لكلّ مُسمّى من اسمه نصيب. والاسم (مفلح) ميم وفاء ولام وحاء. فالميم: منارة تضيء عتمة الأمّيّة الحرفيّة والفكريّة. الفاء: فكر متوقد يُساهمُ في بناء الهُويّة الوطنيّة. ل: لامسٌ للهمّ الفلسطينيّ والعربيّ وحتى الإنسانيّ. ح: حاملٌ وحالمٌ! حاملٌ مبدأ، وحالم بغد فيه بعث وتغيير. مفلح طبعوني من مواليد الناصرة، وهو عاشق أيضًا، العاشق الأبدي لأختها حيفا. كاتب وباحث اجتماعيّ، يعمل محاضرًا في قسم العلوم الاجتماعيّة في جامعة حيفا. له شعريّا: (قصائد معتقة) عن دار نشر عنات سنة 1999، و(عطايا العناق) عن دار الماجد سنة 2011. وديوان (نزيف الظلال) عن دار الماجد- رام الله. ومنذ فترة قرّر أن يتّجه بكتاباته للأطفال، فكان! وعن رأيه بأدب الأطفال جاء: “إنّ الكتابة للصّغار أصعب منها للكبار، لأنّ الصّغير لا ينافق، بل هو ناقد حقيقيّ يُعبّر بصدق”.

صاحب الكلمة الأنيقة والراقية، الأستاذ جودت عيد. جد علينا بعذب كلامك واجعل مساءنا عيدا بمشاركتك. جاء في كلمة د. جودت عيد: هل تنزف الظلال؟ هل تشعر بنا؟ هل تبقى ونحن نروح في متاهات الكون؟ هل نتركها أينما كانت، لتبقى وشمًا فوق ذاكرة الزمكان؟ هل تظللنا الظلال؟ هل تبقى الصّدى الذي يدندن في مدارات الذاكرة؟ أروح في دائرة الاستفهام هذه، حين أقرأ “نزيف الظلال” للشاعر النصراوي مفلح طبعوني، ولا أعرف إن كنت سأكتفي بتعريفه بالشاعر النصراويّ، لأنني وجدت الناصرة وحيفا والجليل، والوطن بكلّ معالمه، ووجدت الوجع والحلم بكلّ معالمه. هو الشاعر الثوريّ الشيوعي؟ المناضل المتمرد؟ الثابت في مفهوم النضال، ويحملُ في جعبته تجربة صادقة صريحة، كما كلماته في هذا الديوان بكلّ بساطتها وتركيبتها.

يقول پابلو نيرودا: عاهدت ُ الحقيقةَ أن أُعيد النورَ إلى الأرض/ أردتُ أن أكون مثل الخبز/ فالكفاح لم يلقَني/ أنا المبادر له/ لكنّني ها أنا/ بكلّ ما أحببتُ/ بتوحّد ٍ ضاع منّي/ إنّني لن أرتاح في ظلّ تلك الصخرة/ البحرُ هائج/ هائجٌ في صمتي.

هذا المضمون يُلاحقني خلال قراءتي لكتاب مفلح طبعوني (نزيف الظلال)، وبالذات قصيدة “بعث أبيد”، الذي يبدأ ديوانه بها، لننطلق معه بكلّ أبعادها العاطفيّة والشخصيّة، حيث تبدو الحريّة والثورة، كأمر ينطلق من بطن الفكر الشخصيّ والإدراك الخاصّ جدًّا، ويُخاطب امرأة كما فعل نيرودا، قد تكون حبيبة، أمّ، زوجة، وطن أو أرض، ويروح بتعابير جذابة، من خلال فعل أمر لافت مضطرب منفصم بين الجبروت، وبين الاحتياج الذي يحمل في طيّاته رغبة جامحة واستجداءً لحضورها ومساعدتها له ويقول: “اُسكبيني، أشعليني، خذيني نحو أحجار المحال، ألهبيني، جدّليني، اُتركيني، اِقرئيني واحفظيني اُنقشيني…..”أنت ميلادي وحبي وأوتاري وقلبي، أنت أغصاني وظلي وأنفاس حقولي”.

هنا في هذا الديوان يضع مفلح طبعوني كلَّ ما في جعبته من تجربة، ومن وجع، ومن حلم ومن ثقافة اكتسبها في العمل الجماهيريّ والسّياسيّ، ويوظّفُ ثقافة عالميّة لتترجم رؤيته للحريّة والثورة والتجدّد عبر قصائد، من خلالها يَطرحُ خطابًا حماسيًّا للجمهور. نرى زياد ونيرودا بكلّ اندفاعهما من أجل الحريات والعدل الاجتماعيّ، وحكمت ودرويش بكلّ الرمزيّة والسّلاسة بالطرح.

ثلاثة محاور أساسية في هذا الديوان: الوطن، النضال، الإنسان. يتجسّدُ الوطنُ بأوصاف المكان والزمان المرتبط بتجربةٍ شخصيّةٍ وعامّة. الوطن يتجسّدُ في حيفا، فنجدها تحمل الأبعادَ التي يختارها بشكل طبيعيّ وتلقائيّ، ويوظفُ حضورَها بكلّ معاني الوطن: ” خذيني نحو حيفا كي أصلّي عند موج العائدينا…” ويشمل معالم من الوطن ضمن الأعجوبة الأولى التي قام بها السيّد المسيح في قانا: “واغزليني شال عطر للجليل خمريني مثل طل فوق اعناب الخليل وارشفيني رشف خمر سال في قانا الجليل/ اِحرقيني فوق تل من ربيع”.

حضور الوطن والثورة والحريّة حضورٌ مُكثّف، لأجد المعادلة التي يتماهى الشاعر في طرحها لمعنى الكرامة والحضور والجذور في تراب هذه الأرض وعطرها وكلّ حالتها.  تستنهضني هذه الحالة، وتدعوني وتدعو الإنسان نحو الفكر الشموليّ من أجل تحقيق المساواة. كم نحن بحاجة إلى هكذا خطاب اليوم في المحاور التربويّة والاجتماعيّة، وأيضًا من على المنابر السياسيّة التي غيَّبت هذا الصوت، وراحت في غيبوبة ما زلنا نعاني من تداعياتها حتّى اليوم، ونراها في أشكال التعبير الهابط والحضور الهشّ للقيادة.

كم نحن بحاجة لهذا الصوت وهذه الرؤيا التي نفتقدها، وكأنّه يعود إلى حقبة زمنيّة متمرّدة جميلة. نوستالجيا أحسسنا حينها بالهمّ الوطنيّ والجماعيّ، واليوم لا يعود شاعرُنا للبكاء على الأطلال، إنّما يُنادي بصوت واضح من أجل القيامة ولملمة ما تبقى، لنصونَ بقاءَنا وحضورَنا. لا أراك فقط شاعرًا هنا إنّما أكثر، لا أراك فقط كلمة، إنّما عقيدة وفكر ومحبّة غامرة تسكنك، كما يَسكنك الوطن بكلّ معالمه. يحمل الشاعرُ الطيّبُ والوجع وقسطه من الواقع الفلسطينيّ الّذي يُؤَنْسِنُهُ عاطفة وشغفا وحزنًا وفرحًا وبكاءً وموسيقى وغذاءً وماءً وكيانا. يُلبس الشاعر الكلمات لظلالنا ولنزيف ظلالنا في “نزيف الظلال”، ينطلق من همِّهِ الوطنيّ ومعاناة الإنسانيّة تقدّميًّا، يحاكي الوجه الحضاريّ الذي يؤمِنُ بالحرّيّة، ويعطي مساحة للفرد في مركب الجماعة، ويدعو وبحكمة إلى نبذ الرجعيّة.

لم أقرأ لمفلح طبعوني من قبل كما قرأت الآن، وأظن أنّنا نخسر الكثير كمجتمع، لأننا غيرُ مُطَّلعين على التجربة الزمكانيّة لمُثقّفينا، وغيرُ مُطّلعين على التاريخ الجماعيّ، وغير مُطّلعين على ما بجعبة الآخر من فكر وفلسفة، ولو استطعنا أن نجمع هذه الثقافة، لاستطعنا أن نُبلورَ فِكرًا تربويًّا للأجيال الصّاعدة لحتميّة الوجود والحضور والتفاعل الاجتماعيّ. نحن لا نعرف بعضنا، لا نعرف الشعراء الذين بيننا، ولا الكتاب ولا المثقفين ونحن لا نخصّص لهم، صنّاع الثقافة الاجتماعيّة، منبرًا أو منصّة دائمة، نحن شعب يبتعد أكثر وأكثر نحو الترهات والاستهلاك اليوميّ والضّحالة، وإذا عمل أحدُنا جاهدًا من أجل ثقافة أو مؤسسة أو مجتمع، تكثر محاولات الإحباط والقهر وعدم التقدير. منصّاتنا فضفاضة لشخصيّاتٍ آنيّة، لكن الشاعر يبقى بكلمته التي كتب. نحن لا نعرف ما هي ثقافة الآخر، ولا نعرف عن تجربته أو حياته الأدبيّة والاجتماعيّة،  نحن قشور تدور حول ذاتها في إيجو ضخم لا يرى أبعد من أنفه. اليوم تعرفت على مفلح طبعوني الشاعر وعلى ثقافته، وعلى نتاجه، ووجعه وأحلامه التي تتماهى مع وجع الوطن والهُويّة والحضور. كم منّا يقرأ لنا؟ مَن منّا يرى ما ندوّن من ثقافة حقبة زمنيّة وتاريخ يعكس الأجواء التي نعايشها؟ مَن مِنّا يرى ما يراه الكاتب والشاعر هنا من خلال عينيه وتجربته، ولا تقتصر فقط على قوقعة انفراديّة نرى من خلالها العالم وندرك كنه كلّ شيء، وكأنّنا “الطلائعيّ في كلّ شيء” لنصغي إلى مَن حولنا، لقد وجدت الحلم يُطلُّ من عمق الوجع في قصائد مفلح طبعوني، وجدت التحدّي والوفاءَ لكلّ الذين كانوا وتركوا ظلًّا سرمديًّا في وجداننا، ليُجسّدَ النزف الدائمَ للوطن الباحث عن مرفأ، عن هُويّة ولونٍ وأرض. وجدت الإصرار في الكلمات والخطابة والدافع القياديّ، وأيضًا مساحة كبيرة من مشاعر وحساسيّة مرهفة، تنعكس من خلال كلماته للمرأة الأمّ والوطن.

يوظّفُ الشّاعرُ لغةً جميلة بسيطة أحيانا ومعقدة أحيانا أخرى، لدرجة تجد بعض الكلمات التي من الصعب فهمها مباشرة، ولكنه بأسلوب سلس وعفويّ يجعلك جزءًا من النصّ دونَ أيّة حواجز. لقد تمتّعتُ بقراءة ذلك الزخم الكلاميّ والتمرّد في الأسلوب. لكن لم أفهم لماذا وقعت هفوات بالذات في التشكيل وفي التاء المربوطة التي استبدلها بحرف الهاء، ربّما وقع سهوًا أو عمدًا أو خطأ، ولكن ما يدعوك إلى التأثر واحترام النصّ هو الثقافة الكبيرة التي ينقلها عن تجربته وعن حضوره الاجتماعيّ الذي يبرز في قصائده، عن الرفاق والعمل الحزبيّ عن أشعار درويش وزياد ونيرودا، بكلّ ما تحمل من رؤية ومن حرّيّة ومن ثورة ومن إنسان.

هل تتكامل الفوضى؟ يُكثّفُ في قصيدة تكامل الفوضى ثقافة محليّة وعالميّة، ويوظفها في انسجام مع الفوضى العارمة التي تتكامل هنا بين يديه في هذه القصيدة، فيذكر: ألحان أورفيوس، وماسورة سرحان، والحكمة وناظمها، وأرسطو وابن رشد، وأشعار نيرودا، وسوناتا العشق وحنظلة وسيمفونيات بتهوفن، وغنائيّات الشيخ إمام، ومايكوفكسي وجداريّة درويش وفلسطين طيبة القلب وزياد. ويطرح في هذه القصيدة الهَمّ الذي تحمله فوضى بين كلّ زوايا الوطن، على صعيد القهر والتخاذل والحيرة ويانصيب الارتباك، هذا العالم بكلّ ثقافته في قبضة يده الأمميّة، ويصلُ إلى الأهرام والإمارات ومسلسلات الأتراك والهيمنة الثقافيّة، وينطلق ليصرخ بعد كل هذا الطرح: “وأنا أعرف مثلك، بأنّنا لسنا كباقي الشعوب نملك وطنًا واحدًا بل أوطان”، وكأنّه يقول، لا نملك أيّ وطن، ولكن بفكره الشامل الثوري الناهض يرانا بكلّ الأوطان، ويروح لوطن المليون شهيد واليمن السعيد، وللسودان وأرض النيل ولبنان والطريق إلى المهد، ويصل إلى نهاية القصيدة بالاستفهام: لماذا لم تتكامل الفوضى؟ ويتركنا هناك ما بين قاع الأرض والقمة.

يعلن قلقه من بداية الديوان، ويعلن شوقه للوطن الساكن فينا والغائب عنّا، يعلن عن غربته القسريّة وعن فرحه أيضًا، لأنّه ما زال يعيش الصّباحَ من شبّاك غرفته، ويرى الشمس تشرق فوق ترابه، ويتنفس هواه رغم بعد الوطن. حيرته كبيرة بين هاجس الحريّة وحبّ المكان وحبّ الحريّة والثورة، وكأنّ وجعَهُ وحيرتَهُ وقلقه تشكّل جزءًا من صيرورة شعب كامل، وحتّى جزءًا من بشريّة كاملة تثور ضدّ الظلم والقهر. يؤمن بالإنسان البسيط ويتصرّفُ ككلّ المبدعين، من خلال حلمه وحبّه وثورته ويحبّ الناس أكثر.

قصائد كثيرة جذابة وتوثيقية لحقبة زمنية نضالية، كتلك التي يرفعها لتوفيق زياد الشاعر المناضل والقائد ص58، ورفيقة درب ص73، وفي صور من تلاوين القدر ص95 يقول: لا تخف حيفا..  حيفا ورود وبقاء.

مفلح طبعوني يسافر في مدارات السياسة والثقافة والأدب، يبحث عن حرية وعن حضور وكرامة، هو ضدّ الظلم والقهر والتعصّب والفكر الظلاميّ، يحمل راية العامل والمثقف والفكر التقدميّ. ويُنهي ديوانه في اعتكاف في غياهب النفس التي تعانق النفس، بعيدًا عن متاهات مقاعد القشّ وتردّد اهتزازات الريح على حافة شبّاكها المُعطر بالحبق. دمت نبراسا للكلمة الحرّة، ودمت حضورًا في الناصرة وحيفا وكلّ أرجاء الوطن في الحراك الثقافيّ الوطنيّ. مبارك هذا الإصدار ودمت بكل الخير.

قالت العريفة خلود فوراني سرية: لستُ بصدد الدخول إلى الديوان ونقده، فهذه حصّة زملائي، لكن استوقفني بعض ممّا كتب عنه: كتب د. زياد محاميد/ أم الفحم: “سَكبَ لنا الشعرَ كؤوسًا من فلسفةٍ إبداعيّةٍ مُرصّعةٍ برسوماتِ الزمان والمكان والإنسان والأمل والحياة، وأسقانا إيّاها عطرًا ونورًا، ليحوّلنا إلى جزء من الطاقة الإيجابيّة، رغم المعاناة الشخصيّة والجسدية والنفسية”.

وكتب محمد هيبي/ كابول: “نلتقي في ديوان الطبعوني بشعراء ثوريّينَ وكأنّه امتدادٌ لهم: فمن الفلسطينيّ توفيق زياد، إلى العراقي مظفر النوّاب، فالتركيّ ناطم حكمت، حتى من أساطير اليونان وألحان قيثارة أورفيوس كان له عنها سؤال.”

أما عن الشاعر عبد الناصر صالح/ طولكرم: “يفلت الكلامُ من قيود التقاليد والممنوعات، فتصبحُ اللغة أكثر انطلاقا وتواصلًا مع الحياة. في هذا الديوان يُفكّكُ الطبعوني رموز الواقع ودلالاتهِ المُشفّرة، ويدخلُ حيّز الحرّيّة، مُعتمِدًا لغة الإيحاء والتصوير، بعيدًا عن المواقف المنبريّة.”

وأخيرًا عن عودة بشارات من الناصرة: “قصائد مفلح طبعوني هي جوهر كيانه، وهو وجه قصائده وروحها، هذا التماهي بين الشاعر ونتاجه الشعري يعكس صميميّة الإبداع، وهي النقيض لحالة الاغتراب التي يُصابُ بها المبدع أحيانا. شعر الطبعوني هو شعر ابن الحياة”.

كانت هذه ومضات نقديّةٌ للديوان، والآن لنا عودة لفضاء الديوان ممّا اختاره لنا صاحبه. هو أستاذنا جميعًا، يُتابع الحركة الأدبيّة بتفاصيلها، يُربّت بأبويّةٍ مُشجّعة على كتف الأدباء والشعراء، ويخبرهم برأيه الصّريح والقاسي أحيانًا. في نقده يُحاول أن يضيء ضبابيّة النصّ بقراءة ما بين السطور وورائها، ليقدّم للقارئ صفات النصّ ومضامينه. إنه جملة استثتاء في جميع النصوص الحياتيّة، ففي نص التعليم كان مُعلّمًا مميّزًا، مُعلّمًا للحياة. وفي نصّ التقاعد لم ولا يقعد، فأجندته طافحة بالمواعيد، من عرافة ومشاركة وحضور ومحاضرة. إنه الناقد والأديب د. بطرس دلة من كفر ياسيف القلعة الوطنية والمنارة الثقافية، كفر ياسيف النور والنار.

جاء في مداخلة د. بطرس دلة: خذيني نحو حيفا كي أصلي هناك: الصديق مفلح طبعوني شاعر ذو قامة معتبرة في عالم الشعر والأدب، ومع أنه مُقلّ في إصداراته، حيث أن “نزيف الظلال” هذا هو ثالث ديوان شعر يُصدره هذا العام، فهو يكتب شعر التفعيلة مع كثير من الانسياب الفنيّ، والجرس الموسيقيّ الرائع الذي يطغى على معظم قصائد هذا الديوان. إنّ شِعرَهُ ينبضُ بالإنسانيّةِ والصّورِ الجديدة المفاجئة وعمق الفكرة، بحيث يُشعر القارئ بثراء مضامين معظم القصائد. إنّه إنسان قبل كل شيء، يحترم الإنسانَ لكونه إنسانًا، وهو فلسطينيّ حتى النخاع، يشعر بمعاناة إخوته اللاجئين الفلسطينيّين الذين طالت معاناتهم لحوالي ثلثي قرن من الزمان، فبينما حُلّت كافة قضايا اللاجئين، حتى تلك التي أعقبت الحربين العالميّتين، إلا أنّ قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين لم تجد لها حلّا مناسبًا حتى اليوم، والأسباب كثيرة، أهمُّها وجود هيئة أمم غافية عن حقوق الشعوب، وضمير هذه الهيئة يغط في سبات عميق، فتبقى القرارات حبرًا على ورق إزاء تعنت (إسرائيل)، وطمع قادتها في كل أراضي فلسطين. هكذا، إزاء هذا الوضع يُعاني اللاجئ الفلسطينيّ من ذلّ المخيّمات والتشرّد والحرمان، ويعيش العالم العربيّ خاصّة سوريا والعراق واليمن وليبيا في صراعات داخليّة تأكل الأخضر واليابس، فتعيش هذه الشعوب في عباءات القبائل والحمائل والصراعات الطائفيّة والداعشية والنصرويّة والقاعديّة وما الى ذلك .

مفلح طبعوني ولد في مدينة الناصرة عام 1949، في صباه انتسب إلى صفوف الشبيبة الشيوعيّة، وتثقف كمعظم أبناء جيله على صحافة الحزب الشيوعيّ وكبار كُتّاب هذه الصحافة، أمثال المؤرّخ والمفكّر إميل توما، والروائي إميل حبيبي، وتوفيق زياد، وحنّا أبو حنّا، وحنّا إبراهيم، وعصام العبّاسيّ وغيرهم من جهابذة الفكر والأدب والشعر، كما كانت تربطه بمدينة حيفا علاقة مميزة، وقد ظهر ذلك في بعض قصائده، خاصّة قصيدته الأولى “بعث أبيد” ص10 حيث يقول:  أنقِذيني من عذابات الحواجز/ وخذيني للشموس الشامخات/ لأغنّي لعطايا الكبرياء/ مع جموع الأوفياء/ في بلادي… وخذيني نحو حيفا/ كي أصلّي/ عند موج العائدينا/ وخذيني/ نحو أحجار المحال/ اِمنحيني/ فرصة الوصل على أرض الغياب/ وبعيدًا عن مسارات العتاب/ آهٍ من طعم الفراق!

هذا الديوان صدر عن دار الماجد في رام الله، وكان من الطبيعي وقد نشأ صاحبنا متأثرًا بهذه الصحافة، أن يكون إبداعه مُشبعًا بالانتماء الوطنيّ والإنسانيّ، حيث يتفجّر قلقه في كلّ ما يكتب، بلغة المعاناة الإنسانيّة التي يعاني منها شعبنا العربيّ الفلسطينيّ الجريح ،والنازف في الداخل الفلسطينيّ والشتات. جاءت قصائده مُشبَعة بإيقاعِها الغنائيّ وانسيابها الموسيقيّ، وذات قوافٍ تظهر واضحة المعالم أحيانا، وتغيب في شعر التفعيلة، لتظهر ثانويّة لا يتمسّك بها، لأنّه يكتفي بالجرس الموسيقيّ الذي يملأ القصائد ببُعد فكريّ يُثري مضامينها، إلى جانب أبعادها الجماليّة. فلماذا نزيف الظلال؟

منذ القراءة الأولى ثار لدي السؤال الأساسيّ: لماذا اتّخذ هذا العنوان لديوانه، وهو ليس عنوانًا لأيٍّ مِن قصائده؟ بعد قراءة متمعّنة توصلت إلى أنّ النزيف هو ما يعاني منه شعبنا الفلسطينيّ ومعظم الشعوب العربيّة، بعد فشل  ربيع الشعوب حتى الآن، وأنّ إنسانَنا العربيّ الفلسطينيّ باتَ ظلًّا لإنسان، لأنّه أصيب بعشرات الهزائم منذ  ظهور الفكر القوميّ العربيّ في مطلع القرن العشرين. لذلك، تلك الشعوب التي تحوّلت إلى ظلال وأشباح، لا إلى شعوب ثائرة مُتمسّكةٍ بالقوميّة كما يجب، وضاعت هذه المشاعر تحت عبء دول الاستعمار التقليديّ، وقُسّمَ العالم العربيّ إلى إحدى وعشرين دولة، وهناك نوايا إلى تقسيمات جديدة، “بهِمّة” الاستعمار الأمريكيّ، تحت نظر وسمع هيئة الأمم المتحدة التي تتحكّم بها الدّول الخمس  الكبار.

صحيح أنّنا كعربٍ هُزمنا أكثر مِن مرّةٍ في الميادين العسكريّة، إلّا أنّ هذه الهزائم لم تحصل في معركةٍ  فاصلة، ومعنى ذلك، أنّ العدوّ لم ينتصر حقّا مهما ادّعى، لأنّه لم يُحقّق مآربَهُ من هذه المعارك، فالمُنتصر  الحقيقيّ هو ذلك الذي يعلنُ الحربَ، ويُحقّقُ أهدافَهُ منها. هكذا لم تقضِ هذهِ المعاركُ على آمالِ وأماني هذا الشعب، ولذلك، فإنّه يعيشُ ويُواصلُ التشبُّثَ بحُلمِهِ في العودة وقيام الدّولة الفلسطينيّة، على الرغم من النزيف المتواصل. إذن؛  يُكوّنُ هذا الديوان تعبيرًا صارخًا عن المعاناة أوّلًا، وعن الأمل في الانطلاقة الموعودة، إن لم تحصل اليوم، فغدًا القريب مثلَ عنقاء الرّماد، ليحقّق ذلك الحلم بالرغم من النزيف.

هكذا جاءت أولى قصائد الديوان الممتدّة على ثماني عشرة صفحة بعنوان “البعث الأُبيد”، حُلم شاعرنا.

السّربيّة في الدّيوان: السّربية هي نوعٌ من الإبداع شعرًا ونثرًا، يُحاولُ فيه المبدع أن يكون إبداعُهُ فكريًّا من الدرجة الأولى، بهدفِ دحضِ الفكر الآخر، وهنا المقصود هو الفكر الصهيونيّ في حججهِ  لغزو الأراضي العربيّة في لبنانَ مثلًا، أو غزة او حتى سوريا. وهنا ترِدُ مُصطلحاتٌ قد لا يَستسيغها القارئ العاديّ، لنقرأ ما كتبه شاعرنا سميح القاسم كنموذجٍ على طريقةِ السّربيّة: “أنا يا أخي/ يا عدوّي/ يا صديقي اللدود/ يا صاحبي وعدوّي/ أخوك أنا يا عدوّي اللّدود/ أخوك فلا تختصرني/ يا أخي وعدوّي العزيز/ يا أخي وعدوّي الوجيه”!

هكذا تكون القصيدة السّربيّة ذاتَ تسميةٍ مَجازيّةٍ وتعابيرَ متناقضة. وشاعرنا مفلح طبعوني يكتبُ على هذا المنوال ص9: “تسكن الأوجاع أكباد الحنين/ والأماني تتلوّى/ فوق أهداب الأنين../ اُسكبيني شمعَ عشق للظلام/ واشْعِليني للصّبايا الفارعات/ ومرايا العاشقات/ في ظلام الموت حبًّا../ صوْمِعيني واصْلِبيني/ تحت أشجار النخيل../ خمِّريني/ رمِّديني/ ثمّ عودي/ واجْمَعيني/ اجبِليني/ واجْعَليني/ طينة البعث الأبيد”!

إنّه يُريد أن يعيش في ظلام الموت حبًّا، ولكنّه يُريدها أن تُخمّرَهُ، وتجبلهُ طينة للبعث الأبيد! قد لا يُوافقني البعض فيما ذهبتُ إليه، ولكن ما وجدناهُ من تناقضاتٍ وحجج، أخفت بعضَ معاني الكلمات المألوفة، ونقلتها إلى غير المألوفة، فتوصّل الشاعر إلى شعر السربيّات الذي لا يُسلّم نفسَهُ من أوّل معالجة، وفي هذا تحدٍّ لعبقريّة القارئ! ولكن من الجهة الأخرى يظهر شاعرنا موضوعيَّ الفكر، لا تزمُّتَ لديه ولا عنصريّة ولا استعلاء، ولكن لديه حلمٌ يريد تحقيقه، ولا شيءَ يمنعه عن هذا الحلم. فعالمه خياليٌّ واسعُ فيه الكثير من الخفايا، إلّا أنّه عالمٌ مُشوّهٌ، ممّا يُجبر الشاعرَ على اللّجوء غلى لغةٍ ذاتِ دلالات عميقةٍ بعيدة المدى، فيها بعض الانزياحات عن المعاني الأصليّة للكلمات، فكيف الخلاصُ من هذا العالم المشوّه؟ ليس غريبًا على شاعر كمفلح طبعوني أن يتحدّى هذا العالمَ المُشوّه، وأن يُؤكّدَ ثورته على الظلم والظالم، كي يأتينا بعد ذلك بعالم جديدٍ مُستقِرٍّ آمِنٍ، بلا حواجزَ وبلا احتلال. هكذا قرأنا قوله ص9: “أنقِذيني/ من عذابات الحواجز/ وخذيني للشّموس الشامخات/ لأغنّي لعطايا الكبرياء/ مع جموع الأوفياء/ في بلادي”!

إنّه يعرفُ أنّ الشعرَ الحقيقيّ ليسَ صياغةَ أفكارٍ جاهزة، مهما كان المقصدُ عظيمًا والغايةُ عظيمة، بل إنّهُ كشْفٌ يَفتحُ أعينَنا على الكون، وينطلقُ من أعماق الذات إلى أرجاء الكون البعيدة والشموس الشّامخات، حيث يحترفُ الغناءَ مع الأوفياء من بلاده! أمّا في قصيدته المغايرة فيؤكّدُ طريقة خلاصِها، عندما يرى أنّ غيمة الرّثاءِ قد أمطرتْ لمودّةِ العوسج فوقَ فصولِ أفراحِنا، وتتنكّرُ لنا دروبُ العودة رغم الميعاد، كتأكيدٍ لفشل هيئة الأمم وكلّ الاتّفاقيّات والقرارات عن حلّ قضيّة اللاجئين، لذلك ليس لنا طريقٌ للخلاص سوى أن ننهل من ينابيع الخيول التي يرتاح صهيلها فوق أَسِرّةٍ مُغايرة! لذلك، فإنّهُ يتوعّدُ المُحتلَّ مُستنجِدًا بخيولِ العَربِ الأصيلة التي ستأتي كي تُحرّرَ الأرض السليبة، وهنا يكتفي بالرمز دون الإفصاح، وهو الإيجاز البليغ.

أمواجُ الحبق: شاعرٌ عاشقٌ يُجيدُ الغزل بنغماتٍ مُنمنمةٍ عاشقةٍ رقيقة، ومعشوقتُهُ صبيّةٌ مُراهقة، أحلامُها بريئة، فبينه وبينها بحرُ وجْدٍ ووفاء وأغنياتٌ حانية، مع أنّ لديها ابتساماتٌ حزينة ترتسمُ على شفتيْها، فيُحلّقُ مع عينيْها فوق أمواج الحبق المُعطّرِ بورد العاشقين ومرايا السنين! إنّها غزليّة خجولة ومختصرة، فهل شاخ قلبُ شاعرنا وهو ما زال في عزّ عطائه وعنفوان شبابه، فاختصرَ القصيدة إلى بضعة سطور؟! ففي قصيدته “أمواجُ الحبق” ص34 يقول: “عندما تنهضين/ مع أحلام براءتك/ يُغادرُنا الفجر/ تتفتّحُ أبوابُ الشّمس/ مع أنفاس نوافذ الياسمين”.

التناص: ليس غريبًا على شاعرنا، وهو إنسانٌ مُطالعٌ نَهِمُ القراءة، أن يعودَ إلى قصائد نيرودا وسوناتا العشق الشهيّ، وإلى حنظلة وشجرة الإبداع، وإلى سيمفونيات بيتهوفن وغنائيّات الشيخ إمام، وماياكوفسكي، ودرويش لاعب النرد في جداريّته، ليجدَ البراعة في المراوغة، وأنّ فلسطين طيّبة القلب تنقشُ قوس َنصرِها بين النّهديْن، وتتماهى مع إطلاق الرّصاص وتتابُع المُسلسلات الشاميّةِ والمصريّة (الأهراميّة)، والإماراتيّة، والتركيّة، ومهنّد حارق الأكباد وغيرها. هذا التّناصُ فيه تجميلٌ واضحٌ ودعوة لهذه الكوكبة من المبدعين، كي يُزيّنَ شاعرُنا بهم قصائدَهُ، ولا يَنسى العجيبة الأولى التي عملها السيّد المسيح في  عرس قانا الجليل، عندما حوّلَ الماءَ إلى خمرة. هكذا زيّن الغلافَ الأخيرَ من هذا الديوان بالأبيات التالية بقوله: اِزرعيني/ كثمار المستحيل/ واغزليني/ شالَ عطر للجليل/ خمّريني/ مثلَ طلّ فوق أعناب الخليل/ وارشفيني/ رشف خمرٍ سالَ في قانا الجليل.

 عناب اتلخليل / وارشفيني

الوطنية في شعر الطبعوني: شاعرنا مفلح طبعوني إلى جانب وطنيّته، يهزأ من الأنظمة العربيّة، ومن القادة العرب الذين يصفهم بأنّهم كأقواس النشّاب، فهذا مُعمّر الأوطان (معمّر القذافي)، وذاك في السودان (عمر البشير)، والراقصات على النيل، وعارضات المواقف ضدّ الإرهاب في لبنان، ولدينا فوضى سوف تتكامل، لنبدأ من جديد بزرع العتمة بالنعمة، والنقمة من قاع الأرض إلى القمة! هذه الإيرونيا موجودة لدى معظم شعراء الداخل الفلسطينيّ. لكنّه عندما يرثي توفيق زياد تتغيّر نغمة قصائده، بحيث يُكرّر الكلمات مُتلاعِبًا بها، كما يتلاعب المُغنّي بكلماته، ففي كلّ تكرار يدخل نغمة جديدة. هكذا كرّر قوله ص63: “دم من/ دم من هذا النازف/ من بوابات القدس لشمس اريحا/ دم منأ / دمك أم دمنا/ دمك أنّ دمها؟/ دم من؟/ هذا النازف من بوابات القدس لشمس أريحا/ دمنا أم دمكا؟/ دمها أم دمكا ؟/ هذا النازف/ من بوابات القدس لشمس أريحا؟.. الخ . ولكنه مع هذا التكرار يستذكر مواقف توفيق زياد المشرفة في خطاباته، بأوّل أيار وفي ذكرى يوم الأرض، واعتقاله في سجن الدامون، وأغانيه ومحبته العارمة للأطفال- وأهدي نصف عمري للذي يجعل طفلًا باكيًا يضحك. وهو المُناضل ضدّ العولمة والعنجهيّة الأمريكيّة والصّهيونيّة، وهو الرقيق في غنائه للنصراويّات اللّواتي نزلن إلى مرج ابن عامر، وهو المُدافع عن الفقراء والمَعوزين والأبطال الثوّار أمثال تشي جيفارا والحلّاج وغيرهما. إنّ تكرار هذه الكلمات لن تعيد توفيق زياد إلى الحياة، ولكن شاعرنا يعرف في قرارة نفسه ويريدنا أن نعرف مثله، أنّ زياد حاضرٌ حتى في غيابه، وأنّه ليس بحاجة إلى العودة كجموع اللّاجئين، لأنّه حاضرٌ في إرثه الرائع الذي تركه لنا من خلال قصائده وخطاباته وكلماته الناريّة، التي جعلت أعداءَه السياسيّين من أعضاء الكنيست يشهدون له أنّه شاعرٌ عظيم وسياسيٌّ قدير، وأنّنا لن ننساه في صحونا وفي أحلامنا مَهما حَيينا.

المرأة في شعر مفلح طبعوني: للمرأة في شعر الطبعوني مكانة مميّزة، فهي الأمّ والأخت والابنة والمعشوقة، ولكنّها قبل كلّ ذلك هي الرفيقة في صفوف الحزب الشيوعيّ، لذلك فإنّه يُكرّس للرفيقة المناضلة أم باسل ميسّر عاصلة طنّوس قصيدة خاصّة، يذوب فيها حبًّا وحنانًا، مُهتمًّا بدوْرها البطوليّ في الدفاع عن الأرض وعن الإنسان الفلسطينيّ وعن السّلام والجمال! فهي الرايات في أفق البقاء، وهي ألق الزعتر في فصل الموارد وانتعاش القمح في ظلّ المعاول، وهي انتصار للمكارم لأنّ منها أنفاس المناجل! ويؤكّد أنّه كرفيق  يكون أقوى من الموت، طالما لديه النساء الطيّبات والصّبايا المُعجزات المناضلات، فليس أحلى من الحياة معهنّ، لأنّهنّ في الدنيا مرايا للخلاص وعطايا للوفاء. لك الحياة أيّها الصّديق مفلح طبعوني!

ختمت العريفة خلود الأمسية قائلة: ليكونَ الختامُ مِسكًا، اسمحوا لي أن أتقدّمَ بالشكر الجزيل لكلّ مَن ساهم وعمل وشارك وحضر أمسية التكريم. فطوبى للمُكرِّمين وطوبى للُمكرَّم. وأخصّ بالذكر الأخ الزميل فؤاد مفيد نقارة على عمله الدؤوب وجهوده الجبّارة في الحركة الثقافيّة، دمت ودام عزك أخي فؤاد. وأشكر كذلك الأخ فضل الله مجدلاني القائم على الترتيبات للأمسية، وطبعًا لا أنسى شكر المجلس المليّ الأرثوذكسيّ لرعايته واحتضانه الأمسية ومثيلاتها من الأمسيات. طابت أوقاتكم بكل خير.

من قصائد مفلح طبعوني:

دمشق : دمشقُ حبيبةُ الشمسِ/ وعيناها عطاءٌ يغمرُ الدني/ دمشقُ جميلةٌ لا تنكرُ الماضي/ ولا تفتحْ/ معابدَها لكفّارِ/ ولا تغدرْ/ بعاشقِها/ أيا بحراً من الأحزانِ والجثثِ/ أتطلبُها من الشمسِ/ وتدفعُ مهرَها سُفنًا من الذهبِ/ ألا تخجلْ/ من الأطفالِ والأزهارِ في بلدي.

دمشقُ حبيبةُ القلبِ/ تعانقُنَي/ مع الغيمِ الذي يأتي من الشرقِ/ وتحميني من الموتِ/ بعيداً عن بقايا شهرِنا الصيفي/ تلاقَيْنا/ ولم نبكِ/ قريباً من هدايا شهرِ تشرينِ / تعانقنا/ لأسألَ نورَ عينيهَا/ عن الأيامِ والنصرِ/ وتسألُني عن الطفلِ الذي يأتي.

 جميلا كان موعدُنا مع الفجرِ/ غناءُ العرسِ يا ربّي/ نُغَنيهِ/ فهل تسمعْ!/ أنا أحببتُ أشواكي/ وأحزاني/ ولم أكفرْ/ فبعد الشوكِ أزهارُ/ وبعد الحزنِ أفراحُ/ وبعد الموتِ ميلادُ.

 

صور من تلاوين القدر/للراحل الكادح حسن عميري “أبو ناصر”

 قالَ لي يومًا حَسنْ: انْهَزَمْنا،/ ووقفنا فوقَ تلٍّ من رمادْ/ وبكينا مثلَ أيتامِ الهَلاكْ/ وسُكِبنا في عذابات المَرارْ/ نتوارى من قديمٍ جاءَ من ذاك الحَريقْ./ سيرةُ التّاريخِ كالليلِ الجحيمْ.

قالَ لي يومًا حَسَنْ: هذه الحَربُ غرقْ./ ودمارٌ وأرقْ./ فحُزيرانَ خطوبٌ وَكَرَبْ.

قالَ لي يومًا حسنْ: سنُريهم الانسامَ في عصر النُّضارْ./ ومضاتِ الشَّوقِ في وُردِ التُّرابْ/ ونريهمْ/ شمسَ ثوارِ الزَّمانْ/ في قصيدِ الانتظارْ/ من جبالٍ عالياتٍ كالعنانْ.

قلتُ دومًا عن حسنْ: طيبٌ مثل زغاريد الغَسقْ/ وحنونٌ كعيونٍ حالماتٍ بالسَّحرْ/ وقويٌّ مثلَ زيتون الجَبلْ/ عاشقٌ للقمحِ في مرج الفَرحْ/ لم يسافر لمواسمْ/ من  ذهبْ/ عاشَ في لهب التَّعبْ.

قال لي يومًا حَسَنْ: نحن عمَّدنا الطُّفولةْ/ بحليبٍ من جداولْ/ ثمَّ أبعدنا الأعادي/ عن ينابيعِ السَّواقي/ ورقصنا مثل غزلان البَراري/ في ميادين المَعالي.

قال لي يومًا حَسَنْ: منحن لحن الشُّعراءِ/ موِنسيم الثَّوراتِ/ لا تسلني عن مراسيم الفِطامْ/ سنحيلُ الجوعَ أشهى من شرابٍ وطعامْ.

قال لي يومًا حَسَنْ: هذه الدُّنيا شجنْ/ عادَ من قلب المِحنْ/ لم يكنْ في أُفقِنا غيرُ الأملْ/ سوفَ يأتينا العَبَقْ/ من فضاءاتْ الحِمَمْ/ ويلاقحْ/ زهرنا رغمَ المِحَن.

قال لي يومًا حَسَنْ: المَواويلُ تناديني تعالْ/ نرفضُ الحقدَ نغني للوئامِ/ فهمومُ الشوقِ جفَّتْ في المَنافي/ أخذتنا نحو خروبِ بلادي.

قال لي يومًا حَسَنْ: باردٌ هذا الخَريفْ/ يتنقَّلْ/ بين داءٍ ودواءْ/ لن أخافَ من تلاوين القَدَرْ.

قلتُ يومًا لحَسَنْ: انتَ أيوب الأبدْ/ وائلٌ” معكَ نزفْ/ وأخوه ضاعَ “في لمحِ البصرْ”./ بين موتٍ وكمدْ/ أُمّ ناصرْ/ صَبَرتْ صبرَ الخَدَرْ/ وأعادتكَ الى الحب النَّدي/ رغمَ أهوال الإحَن.

قلت دومًا عن حَسَنْ: موجها موج اللقاءْ/ بحرها بحر الجَلاء/ إنّها حيفا وحيفا باقيةْ/ والعَطايا العَائدةْ/ إنّها حيفا/ الوُعود الصَّادقةْ/ لا تقلْ، ذابتْ وغابتْ في الغِيابْ/ لا تخفْ، حيفا ورودٌ وبقاءْ.

صامدٌ مثل الشَّجرْ/ وعنيدٌ مثل رعداتٍ حبالى بالشّررْ/ وعصاميٌّ على الفكر درجْ/ يكتب التَّاريخَ كَدْحًا وعملْ/ وفقيرٌ مثل أرضٍ في النَقَبْ/ وكريمٌ مثلُ زخَّاتِ المَطرْ/ وحزينٌ مثلُ هوشةْ/ والكَفَنْ. مثل حيفا/ ظلَّ في الأًفقِ حَسَن/ غاب يا يَمَّا حَسَنْ/ غاصَ في النفس الألم/ وبكيتُ الحُلمَ مع دمعِ الأَنين. آه ما ماتَ حَسَنْ/ وإذا غابَ سيبقى حاضرًا/ مع مزامير الوَطنْ/ لاوِيًا عود الزَمَن/ مثلَ حيفا/ ظلَّ كالشمسِ حَسَنْ.

وقصيدة إذا: نحنُ للأرض ترابٌ وجهود/ وطني رَغم الجراحِ/ أنتَ للكونِ خلودْ/ قد حفرنا في الفضاءِ/ باب مجدٍ للصمودْ/ جنّة الفكر النقيّ/ أخذتنا لنعودْ

نحنُ نورُ العتماتِ/ في سجون الاحتلالِ/ فتعالوا يا رفاقي/ نَفَتديها/ مع بقاياها الجريحةْ/ وتعالوا يا رفاقي/ نهدمُ الدنيا على رأسِ الخرابِ/ وعلى وَكرِ الذئاب/ ثم نبني من جديدٍ/ في ظروف ٍلا تشيبْ/ مع عيون المستحيلْ/ وبعيدًا عن قطاراتِ الرحيلْ/ وطنَ الحبّ الأصيلْ

في بلادي/ يصبحُ الشّوك ُمع الفَجْرِ زهورْ/ نتصدى/ بنجومٍ من شرارْ/ حينما تأتي أساطيلُ الجرادْ/ نحنُ معنى الكلماتْ/ في تفاعيلِ الكلامْ/ نحن زيتونُ الجبالْ/ وعليلُ النسماتْ/ وبذورُ الأرضِ في فصلِ العطاء/ يا ربيعًا في حقول الأشقياء/ يا حنينًا لوصايا الذاكرات/ وبلادِ الذكريات/ ذكرياتٌ قد أفاقتْ/ من زمانٍ لا يساومْ/ نقشتْ فوقَ الصدورِ/ كلّ آياتِ البقاء/ ذكرياتٌ دافقاتٌ/ ساطعاتٌ/ امنياتٌ رائعات/ يا نشيدًا في فضاء الفقراءْ/ نحن جذّرنا الرجوعْ/ ثمّ أخنعنا الخنوعْ/ لم يزلْ في أفقنا/ وهجُ الأوتارِ من عرسِ الجذورْ/ كلّما عادَ من الماضي اليمامْ/ نحنُ عزّزنا الوئامْ/ بجفونٍ من غضبْ/ وقلوبٍ من لهبْ

تبزُغ ُالأفراحُ من قلبِ الضَبابْ/ وعلى آلامها يبكي السّحابْ/ وعليها وردُ عشقٍ للشبابْ/ يُصبحُ الصّدقُ دواءً/ في نداءاتِ العذابْ/ فلنا دنيا الصوابْ/ ولهم كلَّ السرابْ

نحنُ للأرض ترابٌ وجهودْ/ وطني رَغمَ الجراحِ / أنتَ للكون خلودْ/ قد حفرنا في الفضاءِ / باب مجدٍ للصمودْ/ جنّة الفكر النقيّ / أخذتنا لنعود/ كلّما اشتدّ ظلامٌ / صار للموتِ حدودْم فاذا الشمسُ تعامِتْم نحن نورنا الوجودْ/ واذا البدر تناقصْ/  نحن أكملنا العقودْ/ واذا الماءُ تأخر/ نحن اسقينا الورودْ/ من يرى أفق المنارة م سوف يبقى ويسودْ/ وطني رغم الجراحِ/  أنت للكون خلودْ/ قد حفرنا في الفضاءِ/  باب مجدٍ للصمود

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .