جشع: قصة قصيرة بقلم هادي زاهر

1
في البداية كان المشهد مزعجًا، خاصة وأنه لم يتوقف عند مداخل القرية، بل أخذ يمتد إلى مداخل الحرش المحيط بها، وما برح أن امتد إلى أماكن مختلفة قريبة من القرية وأحيانًا بعيدة عنها. يقولون أن الحاجة أم الاختراع، وقد تفتق ذهن الفقراء في القرية عن ابتداع أسلوب جديد يوصلهم إلى لقمة
عيشهم، بعد أن خلت القرية من أية فرصة للعمل يمكن أن تسكت جوع كثير من العائلات التي تعيش حالة متردية من الحاجة والفقر. ومن هذا الابتداع استطاع عدد ليس بالقليل من المواطنين النهوض بأوضاعهم اقتصاديًا. فقد كان الأمر في غاية البساطة. المهم أن يتنازلوا عن شيء ما من بريائهم المصطنع، ذلك بأن يفترشوا الأرض على قارعة الطريق، ليحولوها إلى بسطات يضعون فوقها بضائعهم ومنتوجاتهم حتى يمكن تسويقها للمارين من قريتهم للاستجمام والتنزه في ذلك الحرش
الذي حبا الله به القرية.
لفت المشهد انتباه صالح، فراح يستعرضه بدقة، حتى استقر في ذهنه الاستفادة منه كرجل اقتصاد ناجح يعرف كيف يتحين الفرص، ليحول التراب إلى ذهب. فلقد اجتهد كثيرًا في شبابه ولم يكن يترك أية فرصة دون أن يغتنمها، كما أنه تعلم ونجح،
وواصل نجاحه إلى أن تولى منصبًا رفيعًا في إحدى الشركات، إضافة إلى أنه قد ورث عن والده الذي كان من ميسوري الحال في القرية كثيرًا من الأطيان، ونجح في تنمية واستثمار أمواله بإقامة عدة بنايات للتأجير. وها هو قد أحيل الآن إلى التقاعد، وظن الجميع بأنه سوف يتفرغ إلى تنمية أطيانه وعقاراته، إلاّ أن طموحه جعله لا يكتفي بما جمع من ثروة، وما أنعم الله به عليه من جاه، فزاغت عيناه نحو العمل الذي ابتدعه أهل قريته
وهو يردد لنفسه “البحر يحب الزيادة”. وها هو قد عقد النية على أن يزاحم أهل قريته على لقمة
عيشهم. وعند المساء، جلس أمام زوجه، وفي عينيه يلوح كثيرًا مما يجوس في أعماقه من رغبات. صمت قليلاً قبل أن يبدأ بملاطفتها ومداعبتها. وعندما وجد الفرصة مواتية لمفاتحتها بما
يجول في خاطره، أخذ يطرح فكرته بتروٍ وهدوء كان يُحسد عليهما، إلاّ أن فكرته أزعجت الزوجة بشدة، فانتترت قائلة بصوت امتلأ امتعاضًا وحدّة:
– لا يا حبيبي لا.. بعد هالكبره لبسوه جبي حمرا.. شو هالخراريف الدايخة هذه..
أدرك سريعًا ما جال في خاطر زوجه، فكتم غيظه وهو يزرع ابتسامة هادئة على وجهه قبل أن يقول بصوته الناعم السلس: – أعتقد أنه ليس هناك عار في العمل أيًا كان… فأسرعت في مقاطعته قائلة في حدّة لم تخل من غضب:
– أنت تدرك تمامًا أن صحتي لا تساعدني، فكيف لي أن أجلس أمام الموقد لساعات في طقس متقلب، يوم بارد وآخر حار .. والله أعلم…. .
فأسرع يقول مقاطعًا وهو يمرر يده فوق كتفها العارية:
– يا عزيزتي.. هوني عليك، فنحن لن نعمل في جميع أيام
الأسبوع.. إنه فقط يوم السبت حيث يزور اليهود
منطقتنا للتنزه في الأحراش.
لكن هذا لم يغير وجهة نظر الزوجة الرافضة لطبيعة العمل المقترح، إذ عادت تقول في إصرار:
– لا يا حبيبي.. لا.. لا.. انزع هذه الفكرة من رأسك
تمامًا.. أتريدني أن أتنازل عن اليوم الوحيد الذي أشم فيه نفسي.. إنه اليوم الذي نقوم فيه بتغيير الجو.. نستنشق فيه الهواء النقي.. إن رائحة الصنوبر في الغابة تنعش القلب وتشرح الروح.. وهو ما أحتاج إليه نظرًا لسوء حالتي الصحية كما تعلم.. أنسيت أنني أعاني من السكر وضغط الدم، وأن الأطباء قد ألحّوا علينا كي نقوم بتغيير الجو بصورة مستمرة لا تعكير الجو.. . وبصوت يحمل كثيرًا من الإغراء قال:
– أنظري لمن يقومون بهذا العمل، كيف تحسنت
أحوالهم، وانشرح بالهم، وهدأت أمورهم، حتى بانت عليهم النعمة.
– الحمد لله.. أحوالهم المادية هي التي تحسنت، ونحن من فضل الله علينا حالتنا المادية ممتازة، والكل يحسدنا عليها.. أكثر من هذا بطر وكفر بالنعمة.
– أنا لا أطلب إلغاء رحلتنا الأسبوعية إلى الحرش، ولكن يمكننا أن نقوم بها في أي يوم آخر غير يوم السبت…
لن نموت إذا عملنا يومًا واحدًا في الأسبوع.. اعتبريها مجرد تسلية، أو هواية. أترك هذا العمل للفقراء الذين لا يجدون قوت يومهم.
إلاّ أن صالحًا لم يكن من النوع الذي يمكن أن تلين قناته بسهولة إذا ما صمم على شيء، فراح يلف ويدور بالترهيب تارة والترغيب تارة أخرى حتى لانت قناة زوجه. وفي يوم السبت، نهضوا باكرًا وقاموا بتحميل ما أعدوه من أدوات يحتاجها
عملهم الجديد في صندوق السيارة الذي لم يتسع لها جميعًا، مما اضطرهما إلى وضع كثير من تلك الأدوات والمواد على كرسي السيارة الخلفي، وانطلقوا حتى وصلوا بداية الأحراش، وهناك
أخذوا يبحثون عن مكان مناسب يكون قريبًا من أماكن المتنزهين. وسرعان ما وجدوه، كونهم يعرفون المنطقة جيدًا.
أنزلوا أدواتهم، ونصبوا الصاج على الحجارة التي اختارها
الزوج بعناية، ثم بدأ بجمع الحطب والقش، وبدأت الزوجة بإشعال النار تحت الصاج.. وسرعان ما بدأ المتنزهون بالتوافد عليهم، إذ جذبتهم رائحة الخبز الطازج، وقد سعد الزوج كثيرًا عندما وجد زبائنه قد اضطروا للاصطفاف بالدور. وهنا قال
لزوجه بصوت خفيض والبسمة والسعادة مرتسمة على وجهه:
– هل اقتنعتِ الآن؟ ألا يستحق منّا هذا بعض الجهد؟
أخذت الزوجة ترق العجين الذي كانت قد أعدته في المنزل،
ثم تطرحه على الصاج بعد أن تدوره، وعلى رائحته ومنظره أخذ المتنزهون يتقاطرون عليهم مما أفرح صالح أكثر، إلاّ أن زوجته لم تستطع أن تلبي كل الطلبات، فكان ذلك سببًا في نرفزته
وعصبيته، وبحركة لا شعورية وجد نفسه يستدير نحوها وهو يقول بصوت زاجر حرص على أن يكون منخفضًا:
– ولك خفي إيدك.. خليكِ نشطة وبلاش سلبدة.
أُخذت الزوجة بعبارته، فنظرت إليه في شزر وهي تأخذ نفسها بصعوبة قائلة:
– أتقول لي ولي، أجرة طاعتي إلك؟!! قلت لك لا
أستطيع بسبب حالتي الصحية، ورغم ذلك فأنا أعمل بكامل طاقتي.. فماذا تريد أكثر؟.
– إنها فرصتنا.. أسرعي قليلاً..
كان الحطب يشتعل تحت الصاج، ونظرًا لما أصابها من نكد
وكدر أربكاها، راحت تتحرك بعصبية مما جعلها لا تلتفت لتنورتها وقد بدأت النيران في التهام أطرافها السفلى، وفجأة
نهضت وهي تصرخ، وسارع الحضور إلى مساعدتها في محاولة لإطفاء النيران التي أمسكت بملابسها.. وساد هرج ومرج..
كانت لحظات صعبة للغاية.. وقام الزوج بلف زوجه ببطانية كانا قد أحضراها ليستريحا فوقها، وحملها إلى السيارة بمساعدة
بعض الحضور، وانطلق باتجاه المدينة حيث المشفى.. كانت الزوجة لا تكف عن الصراخ بأعلى صوتها من شدة ألم الحروق
التي لحقت بها، ووجد نفسه يقول لها في ضيق غلبه القهر:
– الشغل بدون رغبة يفعل أكثر من هذا.
فردت علية وهي تصرخ باكية من شدة الألم :
– منك لله.. منك لله.. هذه هي أجرة طاعتي لك؟ أنا
الحق عليّ..
وكان صراخها يشتد أكثر وأكثر، وبالمقابل كانت عصبية صالح تزداد، ووجد نفسه يصرخ قائلاً:
– كفى.. هكذا لا أستطيع قيادة السيارة.
وعادت تصيح أخخخخخخخخخ.. آخخخخخخخخ.
ازدادت دقات قلبها مع اشتداد الوجع وقد تباطأ زحف الوقت على مشاعرها :
– متى سنصل بالله عليك.. آخخخخخخخخ.. أسرعّ ماذا فعلت بي.. يا يما.. يا دخيل الله آخخخخخخ.
واستمر الصراخ والألم يعصف بها، والوقت يزحف ببطء شديد حتى خالته لا يتحرك. وعندما وصلا إلى المشفى، أدخلوها إلى قسم العناية المكثفة، وبعد معاينة سريعة تبين بأن
الحروق تتراوح بين الدرجات أ- ج مما يعني بأن درجة “ج ” تُبقي حالة التشويه إلى الأبد، وقد قال له أحد الأطباء:
– كان من الأفضل أن لا تستعمل بطانية بها خيوط
بلاستيكية لأنها ساخت وامتزجت مع الجلد مما صعب الإصابة للغاية، ومما سيصعب المعالجة .
ثم طُلب منه التوجه إلى الإدارة للتسجيل الثبوتي وهناك تبين له بأنه نسي دفع رسوم التأمين الصحي، فلعن طالعه وغلبه البكاء وأخذ يحدث نفسه وهو يهز رأسه:
– هكذا إذن.. إن كل ما ربحته في حياتي سأدفعه مقابل علاج زوجتي.. أي حظ تعس هذا..
عاد إلى حيث ترقد زوجته وكانت أحداق عينيها تتراقص وقد بدأت الغشاوة تحجب رؤاها، وخلال ذلك اصطدم ناظريها
بدموعه التي انزلقت إلى وجنتيه، فقالت بصوت متقطع وهي توشك أن تنام من شدة تأثير المخدر الذي حُقنت به:
– صا.. لح.. الآن .. عرفت.. أنك.. تحب.. ني.. كث..يييير .. لا تبكي يا حبيبي.. قدّر الله وما شاء فعل.. الآن أستطيع أن أتحمل كل الألم من أجل دموعك الغالية..ثم راحت في غيبوبة .. عميقة … .

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .