تحيـة ٌ مُنقِـذةٌ د. حاتم عيد خوري

143

التقيتُ صديقي رشيد بعد عودته من زيارة لإبنه المغترب في كندا. كنتُ بصحبة صديقنا المشترك فارس الملقب بالمتفائل الابدي والمعروف بسرعة خاطره وخفة ظله ولباقة حديثه. البعد المكاني والزمني – حسب تعبير رشيد-  لم يتمكنا، بفضل الانترنت، من حجبه عن متابعة اخبارنا المحلية وعن قراءة ما يُنشر في وسائل الاعلام.

سمع رشيد عن “المعارك” التي دارت مؤخرا على “جبهات” عبلين وطمرا والطيرة وراهط وكفرمندا وشفاعمرو والطيبة وبسمة طبعون والرامه وام الفحم وغيرها، في إطار “حرب” العنف التي يشهدها مجتمعنا العربي الفلسطيني في إسرائيل، والتي اسفرت عن ضحايا قد تصبح، والاصح ستصبح، دماءُ كلٍّ منها وقودا يغذي قطار الانفلات المنطلق بهذا المجتمع نحو الهاوية.

بدا رشيد كئيبا يائسا وهو يقول لنا: “والله والله يا جماعة، انا راجع من كندا رِجِل لقدام ورِجِل لوَرا”، ثم أضاف بانه قد سافر الى هناك، طمعا بإقناع ابنه المغترب بالعودة الى الوطن، فكاد يقتنع هو نفسه بالبقاء هناك، ليس لان كندا قد سحرته، إنما لان مجتمعنا قد خذله بلجوئه الى العصا بدل القلم والى الرصاصة القاتلة بدل الكلمة الطيبة التي كانت يوما “تُخرِج الحية من وكرها ” على ذمة المثل. هذا المثل بالذات قد جعل، كما يبدو لي، صديقنا فارس يتذكر قصة ناجي اللحام، فقرّر بينه وبين نفسه، ان يجعل من هذه القصة، مدخلا لحديثه ووسيلة لتهدئة خاطر رشيد ولتلطيف اجواء اللقاء. وهكذا، فما ان توقف رشيد عن حديثه هنيهة ليرتشف فنجان قهوته، حتى تنحنح فارس مفتتحا حديثه كالعادة بشبهِ جُمْلتِهِ المألوفة “على سيرة كذا”.  فقال: “على سيرة الكلمة الطيبة والمعاملة الحسنة  دعوني اروي لكم قصة ناجي اللحام:

ناجي هذا، هو ناجي يعقوب اللحام من حيفا. ٌ في اواسط الثلاثينات من عمره، متزوجٌ وله ولدان صغيران. كان ناجي يعمل مديرا للحسابات في مصنع كبير لتعليب اللحوم في منطقة خليج حيفا، وكان مخلصا جدا في عمله، ومعروفا بلطف معشره وحسن تعامله وفيض محبته للآخرين سيما لاسرته ولزملائه العديدين العاملين في المصنع، عمالا كانوا أم موظفين. قبيل ذهابه الى العمل في صباح احد الايام، قال لزوجته مودعا: “ساعود اليوم الى البيت متأخرا، لاني ساسافرمباشرة بعد الدوام الى مستشفى الكرمل في حيفا، لزيارة والدتي المريضة ولمؤانسة وحدتها”. قبّل ناجي طفليه وغادر المنزل. وصل الى المصنع مبتسما كعادته. قضى نهاره راضيا عن نفسه. إنتهت ساعاتُ الدوام، فسارع جمهورُ العاملين الى مغادرة المصنع.

أطفأ ناجي حاسوبَه، ورتّب طاولته كعادته قبل مغادرة غرفة مكتبه، واخذ يمشي عبر ممر طويل باتجاه بوابة المصنع الرئيسية. كان خط الانتاج على يمينه ويساره قد توقف تماما. المصنع اصبح خاليا من العاملين، والهدوء اضحى سيد الموقف. لكن عندما مرّ امام باب غرفة البراد الكبير، كما كانوا يسمونها، لاحظ ناجي انها ما زالت مُضاءَة، كما لاحظ ان هناك كتلة كبيرة من اللحم مشبكة بكُلّاب، قد تُركت على الطاولة في وسط الغرفة، وليس في داخل البراد كما هو مفروض، مما سيسبب فسادها. قرّر ناجي من باب الاحساس بالمسؤولية ان يعلقها في البراد الكبير. لكنه عندما فتح باب البراد الكبير، ورأى اكتظاظ كتل اللحم في المدخل، ولم يجد بالتالي حيزا ملائما قرب الباب، قرّر الدخول الى عمق البراد، ساحبا بحركةٍ لاشعورية، بابَ البراد خلفه. صوتُ طرقِ بابِ البراد، وإنطفاءُ الضوء الداخلي جعلاه يدرك غلطته الرهيبة.  حاول الوصول الى باب البراد رغم الظلمة الدامسة المحيطة به، فارتطم بكتل اللحم المعلقة وادمت الكلاليبُ كفّيه. وعندما شعر باللمس أنه قد وصل الى باب البراد، لم يتمكن من فتحه من الداخل. تذكرَ على الفور قصة فاجعة إختناق طفلين كانا قد تسللا الى داخل برادٍ بيتيٍّ قديم لا يُفتح من الداخل، فاختنقا داخله. تملَّكه إحساسٌ رهيب بالخوف. صرخ من اعماق رئتيه وبملء حنجرته مستغيثا ومخبّطا بيديه ورجليه على ارض البراد وعلى القسم المُتاح من جدرانه، لكن هيهات ان يُسمع ذلك. فجدران البراد سميكة وبابه مطبَّق تماما، كما ان المصنع في هذا الوقت يكون خاليًا من الناس باستثناء بوّاب واحد لا يغادر كشكه المحاذي لبوابة المصنع، على بعد مئات الامتار من البرّاد.

أيقن ناجي انها الآخِرَة، وانهم سيعثرون عليه في أحسن الحالات بعد ساعات طويلة، وقد أصبح جثة هامدة باردة ولربما مجمّدة. أراد ان يبكي، لكنه لم يتمكن من ذلك وكأن شهقاته تجمدت ودموعه جفّت. شعر باختناق في رئتيه وبتنْميلٍ يزحف من اطراف اصابعه باتجاه كفيّ يديه ورجليه. تذكر امه وزوجته وولديه، فكاد يفقد صوابه نهائيا. إنهال بقدميه على ارض البراد خبطا متواصلا ينطوي على احتجاج واستغاثة، وصرخ من اعماق قلبه صرخة بدَت عصية ً على جدران البراد، فلم تتمكن من خنقها كليّا. وإذ بباب البراد يُفتح مُفعِّلا الإضاءة الداخلية.

إندفع ناجي بآخِرِ ما تبقى لديه من قوة، نحو الباب. رأى أمامه بوّابَ المصنع يقف مندهشا. رمى بنفسه بين يديه كأنهما صديقان حميمان، تاركا براكين توتره تتفجر دموعا تحكي قصة ما يعتلج بداخله. بعدما هدأ روعُه قليلا، ابدى ناجي دهشتَه من قدوم البواب اليه في تلك اللحظة الحرجة جدا، علما بان مهمة البواب في هذا المصنع، لا تقتضي دخوله الى قسمي الادارة والانتاج، ولا سيما في ساعات ما بعد الدوام. فسأل البوابَ بمنتهى البساطة: “إيش هلي جابك؟!!”. اجابه البواب بعفوية: “إجيت ادوّر عليك”. جواب البواب زاد من حيرة ناجي ودهشته، إذ انه (اي البواب) بحُكْم العمل، غير مُلزَمٍ وغير مطالَبٍ بذلك، كما لا تربطه به اي علاقة خاصة، ومعرفة احدهما بالآخَر لا تتعدى حدود التعرّف على ملامح الوجه ليس إلا.

لاحظ البوابُ حيرة ناجي وتفهّمَ توقَه لمعرفة سبب مجيئه اليه في تلك اللحظة العصيبة. قرر ان يكشف له السرّ، فقال بلهجتِه العربيةِ المحكيةِ بعفويةٍ: “يعملُ في هذا المصنع، عشراتُ العاملين. كلهم يمرون عبر البوابة امام كشك الحراسة. انت بالذات دأبت على ان تحييني صباحا لدى وصولك الى المصنع، ومساءً اثناء خروجك من المصنع. كانت تحيّتُك جادة لا سطحية عابرة.  كنتَ ترفع يدك اليمنى مسلِّما ومبتسما….تحيتُكَ أسرتْني. بتُّ اتطلعُ اليها صباحا واترقبُها بعد انتهاء الدوام. اليوم رأيتُك صباحا لدى دخولك الى المصنع، لكني لم أرَكَ تخرجُ. انتظرتُ خروجَك. قلقْتُ عليك فقررتُ ان ادخل على غير عادتي الى المصنع لابحث عنك، وها انا أجدُك”.

قال ناجي بانفعال: “شكرا لك، لقد انقذتني”. اجابه البواب مبتسما: “تحيتُك هي التي أنقذتْك”.

Hatimkhoury1@gmail.com

20/5/2016

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني .